مجلة المقتبس/العدد 17/الميكروب
مجلة المقتبس/العدد 17/الميكروب
الميكروب أصغر ما خلق عالم الأحياء جرماً وجسماً وأعظمها قوة وفعلاً. كان أولا يعيش ويتنفس على سطح المعمور منسابا بين المخلوقات دأبه دأب كل حي من إيجاد القوت والمكافحة للحياة والبقاء. ذلك أنه لا يترك جامداً يحتوي على بعض ما يصلح لغذائه إلا ويحلله مبدلاً حاله تبديلاً أو يمحوه فيجعله أثراً بعد عين وليس في الأرض حي من حيوان ونبات إلا وهو يتصدى له منازعاً إياه قوته وحياته. على أنه في ذلك يخدم بأنواع منه الحيوان ويقوم بوظيفية عظيمة الخطر كتحويل المواد الجامدة إلى غذاء يعيش به وكإصلاح أنفس المأكولات والمشروبات للإنسان بواسطة الاختمار وبأنواع أخرى منه يكون مفسداً ومخرباً. فإن أكثر آفات الزروع وضربات الأشجار وأمراض الحيوانات والبشر يكون الميكروب مسببها والفاعل الوحيد فيها. فهو لنا في الحياة رقيق غير مفارق ومجاور جابر أو جائر.
وعلى هذه السنة مرت السنون والأجيال والإنسان تناله من الميكروب الضربات والنكبات ويتجرع السموم بصبر جميل من دون أن تتجلى له يد الجائر بل لم يخطر له ببال أو خيال بأن هناك عدواً خفياً يحمل إلى داء دوياً.
وذلك بالنظر إلى الحيوان والإنسان خاصة. إما إذا أمعنا النظر وسما بنا الفكر ونظرنا في وظيفة الميكروب على وجه البسيطة نظراً عاماً بعد أن نكون قد اختبرنا وتوغلنا في الأحاطة بمنافع كل من أنواعه واحدة فواحدة تحار عقولنا لا محالة من حكمة مبدع الكون الذي جعل أصغر مخلوقاته وأنحفها يقوم بأعظم لتغذية وظيفة وخدمة في العالم. وناهيك بتحول جثث الموتى مثلاً إلى تراب وهذا إلى ما يصلح لتغذية النباتات وغيرها وكذلك إصلاح مياه البحور والأنهر من ازدياد الأملاح والأوساخ فيها التي تنافي حينئذ وجود الأسماك والحياة مطلقاً يتوقف كله على الميكروب. فلولاه لما حصل التعديل والموازنة بين الجامد والحي وتعطلت بينهما الدورة فتعذر خلود بل وجود بل وجود عالم الأحياء. والميكروب في فعله ذلك إنما يسعى لنفسه وبطلب الغذاء لحفظ حياته وخلود نسله.
آراء الأقدمين في تولد بعض الحيوانات من دون والد
لم يعرف الميكروب أناس قلائل من القدماء عرفوه بالظن والحدس فكان يخبطون خبط عشواء في أمر تولد الذباب والحشرات والدقيق من كل حيوان ونبات. وما كأن ذلك عن في إدراكهم بل لأنهم لم يدخلوا المسألة من بابها ولقلة إطلاعهم فيها وقلة ما لديهم من الآلات والوسائط التي ساعدت المتأخرين على حلها. فيجدر بنا قبل أن نبحث عن هذه أن نذكر بعض آراء الأقدمين في تولد بعض الحيوانات والنباتات من دون والد.
قيل أن أرسطو كتب في بعض ما دون كل جسم يابس ابتل وكل مبتل منه جف يولد الحيوانات الدقيقة. وينسبون إليه أيضاً الزعم بأن الديدان التي تظهر على بعض البقول في مزارعها لا تتكون إلا من تعفن الأقذار والأوساخ وتخمرها أعني السرجين الذي تصلح به الحقول والسماد الذي يخصب التربة. وكذلك تتكون البراغيث في التراب. وقرر الشاعر فرجيل بأنه قد يتولد النحل من أمعاء ثور جافة. وقال فلوطر خس بأن أرض مصر الكثيرة المستنقعات تتولد فيها الفيران والجرذان من دون والد.
وفي القرن السابع عشر فإن هلمونتسا بأن الروائح الكريهة التي تنبعث من قعر المستنقعات تتولد منها الضفادع والبزاق والعلق وبعض الحشائش إلى غير ذلك من الحشرات والذباب التي فيها وكان على يقين في قوله فيزعم أنه إذا أخذ جرة وملأها قمحاً وسد فمها بخلق وسخ لم يمر على ذلك القمح أكثر من واحد وعشرين يوماً حتى بتحول إلى فيران. وهذه يكون منها ذكور وإناث تتزاوج وتتكأثر. ومن هذا القبيل كيفية تولد العقارب من الحبق فإن العالم المذكور كان يشير على أن من أراد التجربة أن يأخذ أجرة ينقر على إحدى جوانبها حفرة يملأ وها بمسحوق نبات الحبق ثم يأخذ أخرى يضمها إلى الثانية مغطياً بها حفرة الحبق فلا يلبث هذا مدة حتى يتحول إلى عقارب حقيقية. وقيل أن برز السماق يتحول إلى قراد الكلاب ودودة القز بزرها نباتي إلى غير ذلك من الآراء الواهية التي لم تبن على ملاحظات حقيقية. وهو مما يستغرب حقيقة من رجال كانوا أفراد زمانهم على حين هم من السذاجة والجهل على جانب ويتعرضون لحل أعظم المسائل الطبيعية كالتولد والحياة بنوع من القول لا يقبله العقل السليم.
وكان ريدي الايطالي أول عالم فتح باب الملاحظة المدققة في مسألة تولد الديدان من والد وذلك سنة 1638 فإنه قال بأن الدود الذي يشاهد في اللحوم الفاسدة بنسج رقيق يمنع عنه الذباب فلا يعود يتولد فيه البتة. نعم إن هذا الرأي صحيح ولكن ريدي المشار إليه لم يتمكن من إقناع جمهور العلماء ولم يظفر بشرف الاكتشاف. لأن الفضل ليس لمن عرف الحقيقة بل لمن اكتشف أحسن أسلوب وأعظم واسطة لإثباتها وإقناع العموم بها منطقياً حسياً فلم ينتج أدنى منفعة للعلم من هذا الاكتشاف ولم يتصد أو يتحزب له أحد بل دامت المجالات في مسألة التولد نحو مائتي سنة وهي في طور الحدس ولم يتقدم أكثر مما فعل ريدي.
تغلب رأي التولد الطبيعي أو الحيوي
عندما اخترعت النظارة المعروفة بالميكروسكوب أي نظارة الإجرام الدقيقة وسميت عندنا بالمجهر فتحت طريقاً جديدة للبحث في مسألة التولد المذكور وللحكم فيها حاسياً من بعد التحقق بالنظر بالعيأن فجرى التخالف والجدال بين القائلين بتولد الدقيق من الحيوان من دون والد أو طرائياًَ والذين لا يقبلون إلا بالتولد الحيوي الطبيعي مطلقاً فادتهم خاتمة كل بيضة من بيضة. فمن بعد اختراع المجهر طرحت المسألة هكذا: هل التولد الذاتي ممكن ومن أين تتولد الديدان والذباب وبقية الحشرات من الدقيق من الحيوان.
فقال ندهام الإنكليزي: أن الرأي المشهور بأن الديدان حتى الفيران والعقارب وغيرها قابل للتولد من ذاتها طرائياً في المواد الآلية الخأمرة قد تبين غلطة واضمحل على أنه من انحلال تلك المواد وفسادها بتولد حقيقة ألوف من الحيوانات الدقيقة التي لا ترى إلا بالمجهر. فلا يقتضي أن ننكر أو نشك في هذه الحقيقة من أجل غلطنا وجهلنا في تلك.
ثم قام بفون الشهير وتحزب لندهام المذكور وحامى عن آرائه فتغلب وقتئذ على الحيويين لأنه لم يكن بينهم كفوء لمقاومته. وفي سنة 1828 اكتشف اهرنبرغ نوعاً من الحيوانات في الماء والتراب لا ترى إلا بالميكروسكوب ما سماه بالانفروار وهي خلايا متفردة ومنفردة عن بعضها كل منها قائم بذاته وله جميع الخواص الحيوية أعني الإغتذاء والنمو والتولد. ومن بعده بثمان سنوات سنة 1837 أظهر شوان الألماني وكانيارد لاتور الفرنسوي كل من قبله ومن تعاط بينهما ولكن الأول أسبق - بأن الاختمار الذي يصل حيث توجد المواد الآلية هو فعل حيوي مختص بالخلايا أو الحيوانات الدقيقة لا يصل إلا بها ملازم لها ومتوقف عليها البسيطة التي الأوكسجين الذي يكون بمنزلة الغذاء للخلايا. فداع هذا الاكتشاف وصار قاعدة عليها بني رأي الحيويين فعلاً وطرحت القضية هكذا. هل أن الاختمار والتعفن وبعض الأمراض تفعلها الخملايا فعلاً حيوياً ناتجاً عن اغتذائها بشيء مما تتركب منه المواد القابلة للاختمار.
فأثبت شوان أحد المكتشفين المذكورين بأن جميع المواد المختمرة لا تخلو أبداً من الإجرام والخلايا الحية. ولدى الأمتحان صادق عليه أكثر العلماء. وأما المعارضون فإنهم لما يرون سبيلاً إلى انكسار الواقع سلموا بالقضية ولكنهم حأولوا وجود اختمار من دون الخلايا عندما زاحمتهم النتيجة كما سنبينه.
دمشق
سليمان غزالة