مجلة المقتبس/العدد 15/شعراء النصرانية في الجاهلية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 15/شعراء النصرانية في الجاهلية

مجلة المقتبس - العدد 15
شعراء النصرانية في الجاهلية
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 4 - 1907



تابع ما قبله

هذا وإن سألت حضرة الأب لويس شيخو كيف عرفت أن الشاعر الفلاني أو الفلاني كان نصرانياً على حين لم يصرح لك بذلك أحد الأئمة. فيجيبك من فوره وبدون تمهل أجوبة باردة يعيدها كل مرة على من يطالبه بإيراد الأدلة على نصرانية أحد شعراء الجاهلية ممن نصرهم على يديه. فاسمع ما يقول مثلاً عن نصرانية امرئ القيس (المشرق 8: 1003) فبأي دين كان إذن يدين امرؤ القيس أبدين الوثنيين؟ لا نظن وقد فند حضرة الأب أنستاس حجج القائلين بتعبده للأصنام. فيبقى أنه كان إما يهودياً أو نصرانياً. ولم يقل أحد بيهوديته فكان إذن نصرانياً ولا نريد بنصرانيته هذه كما مر أنه كان متمماً لفرائص الدين المسيحي أو أنه كان كاثوليكياً. كلا. وعلى رأينا أنه كان من ملة النسطورية التي أحل أصحابها أموراً لم يحلها غيرهم من النصارى.

أما أدلتنا على نصرانيته فهي الآتية:

أولاً: إبطال مزاعم القائلين بوثنيته ومزدكيته.

ثانياً: خلو شعره من آثار الشرك ففي كل ديوانه ليس من إشارة تدل على عبادة آلهة العرب في الجاهلية.

ثالثاً: بل تجد إقراره بوحدانية الخالق وبالبعث والنشور مع شواعر دينية ظاهرة. . . هذا فضلاً عما في قلبه من الرغبة في المجد والأمور الشريفة والعدول عن حطام الدنيا (كذا. وقد أورد هنا بيتين لا يدلان أبداً على عدوله عن حطام الدنيا بل على تعلقه بأهداب مجد العالم المؤثل).

رابعاً: وفي شعره من الإشارات النصرانية ما في غيره من الشعراء النصارى. . . (كذكره) مصابيح الرهبان والمقدس وهو الزائر لبيت المقدس والإران وهو تابوت النصارى. . .

خامساً: انتشار النصرانية في كندة قبيلة امرئ القيس لمح إلى ذلك حضرة الأب مناظرنا.

سادساً: خروج امرئ القيس إلى القيصر يستنجد به وهذا لم يكن ليخطر على بال أهل البادية وهو يعلم أن القياصرة نصارى متعمقون في الدين لو لم يتخذ وحدة الدين و بينه وبين القيصر لاسيما أن القيصر كان يومئذ يستنيان من أشد الإمبراطورين تحمساً للدين وأنه (على ما روى العرب) أزوجه ابنته.

سابعاً: ومن الدلائل على نصرانية امرئ القيس نصرانية عمته هند بنت الحارث المعروفة بهند الكبرى. . . وقد ذكرنا في المشرق (5: 1060) الكتابة التي وضعتها في صدره وفيها تدل على نصرانيتها ونصرانية أبيها الحارث وابنها عمر بن هند. . .

ثامناً: وكذا قل عن نصرانية أم امرئ القيس التي تسمى فاطمة بنت ربيعة بن الحارث وكانت من تغلب وأخواها كليب والمهلهل التغلبيان ولا أحد يجهل أن تغلب كانت تدين كلها بالنصرانية.

تاسعاً: وأقوى من ذلك ما كتبه المؤرخ ننوز وهذا الرجل العظيم أرسله يستنيان إلى الحبشة وإلى امرئ القيس الكندي وهو يدعوه قيساً ليولي امرأ القيس فلسطين فلما عاد إلى القيصر وأتم ما عهد إليه كتب خبر رحلته في تأليف وقع في أيدي فوطيوس فاختصره في مكتبته الشهيرة. . .

عاشراً: ويؤيد قول ننوز المؤرخ الشهير بروكوب من الكتبة المعاصرين لامرئ القيس. . . انتهت الأدلة.

فنحن الآن نجيب على كل واحد منها مستهلين بالنتيجة التي استنتجها من بحثه هذا وقد صدّر بها حججه الدامغة فنقول:

لو فرضنا أن امرأ القيس لم يكن وثنياً فلا يستنتج من ذلك أنه كان إما يهودياً وإما نصرانياً لأن عدة أديان كانت في بلاد العرب وأصحابها من الموحدين وهم مع ذلك ليسوا من اليهود ولا من النصارى. فما على حضرة الأب إلا أن يفتح كتاب الشهرستاني فيرى ذكر فرق دينية جمة كلها في بلاد العرب وكان أصحابها موحدين. لكن لما كان ذكرها يطول هنا فنضرب عنها صفحاً ونحيل القراء الكرام على مطالعتها في مظنتها. على أنه لا يجوز لنا أن نسكت عن الحنيفية إذ كانت شائعة ذائعة في بلاد العرب كلها ولاسيما في بلدح ومكة والطائف ويثرب وغيرها. قال الشهرستاني: من العرب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر وينتظر النبوة وكانت لهم سنن وشرائع. . . فمن كان يعرف النور الظاهر والنسب الطاهر وينتظر المقدم النبوي: زيد بن عمرو بن نُفيل (وهو الذي نصّره حضرة الأب ودوّن اسمه في سجل عماد النصارى يعني في كتاب شعراء الجاهلية - 2: 619) كان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: أيها الناس هلموا إلي فإنه لم يبق على دين إبراهيم أحد غيري. اه

ولكي تتثبت وتتحقق أن الحنفاء لم يكوونوا يهوداً أو نصارى بل على ملة إبراهيم اسمع ما جاء في كتاب الأغاني (3: 16) ما هذا نصه بحرفه بخصوص دين زيد بن عمرو بن نفيل قال:

إن زيد بن عمرو خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه فلقي عالماً من اليهود فسأله عن دينهم فقال: لعلي أدين بدينكم فأخبرني بدينكم. فقال اليهودي: إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. فقال زيد بن عمرو: لا أفر إلا من غضب الله وما أحمل من غضب الله شيئاً أبداً وأنا أستطيع. فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ قال ما اعلمه إلا أن تكون حنيفاً. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم. فخرج من عنده وتركه. فأتى عالماً من علماء النصارى فقال له نحواً مما قال اليهودي. فقال له النصراني: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. فقال: إني لا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئاً أبداً وأنا أستطيع. فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ فقال له نحواً مما قال اليهودي: لا أعلمه إلا أن تكون حنيفاً. فخرج من عندهما وقد رضي بما أخبراه واتفقا عليه من دين إبراهيم. فلما برز رفع يديه وقال: اللهم على دين إبراهيم.

فهل بعد هذا النص الجلي يماحكنا حضرة الأب ويقول: لا بل وكان زيد بن عمرو نصرانياً لأنه لم يكن يهودياً؟

قلنا: وكان أمية بن أبي الصلت من الحنفاء أيضاً لا من النصارى. قال في الأغاني (3: 187): كان أمية بن أبي الصلت قد نظر في الكتب وقراها ولبس المسوح تعبداً وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنفية وحرم الخمر (والنصارى لا تحرمه) وشك في الأوثان وكان محققاً والتمس الدين (والنصارى لا تلتمس غير دينهم) وطمع في النبوة (والنصارى لا تطمع في النبوة) لأنه قرأ في الكتب (وليس ذلك في كتب النصارى) أن نبياً يبعث من العرب فكان يرجو أن يكون هو. اهـ بحرفه.

فأين بقيت نصرانية أمية؟ اللهم إلا أن تكون بعد في عقل حضرة الأب حرسه الله. .

هذا من جهة كون الإنسان قد يكون موحداً ولا يكون مع ذلك لا يهودياً ولا نصرانياً. وهو جواب مقدمته والآن نجيب على جواب أدلته فنقول:

أولاً: إننا إن سلمنا أن امرأ القيس لم يكن وثنياً فلا نسلم أبداً أنه لم يكن مزدكياً لأن براهين الأب في نقض أدلة براهين خصمه في منتهى الضعف والوهن. كيف لم يكن مزدكياً وقد أثبت أغلب المؤرخين وأرسخهم قدماً في تحقيق الأخبار وتحريرها أن جده الحارث كان مزدكياً وكذا كان أبوه حُجْر. ومزدكية أو زندقة والده مما لا تحتمل الشك أو الريب إذ قد قال اليعقوبي وهو من أقدم مؤرخي العرب في كتابه (1: 299) وتزندق (أي تمزدك) حُجْر بن عمرو الكندي.

فإذا كان حضرة الأب يثبت دين رجل لكون أمه أو خالته أو عمته كانت على النصرانية فلماذا لا يريد أن يقبل حجة من يريد أن يثبت دين رجل لاتباعه دين أبيه أو جده؟ فقد أثبت الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي في رسالة ألفها فيما خالف الإسلام ما عليه عرب الجاهلية وورد الشرع بإبطاله وذكر نحو مائة مسألة. منها: تقليد الآباء والأسلاف والإعراض عن الاستدلال وإلى ذلك الإشارة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا}. قال: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} إلى غير ذلك. اه. فامرؤ القيس على هذا هو على مذهب آبائه إن لم يقم دليل صريح على خلاف ذلك به يقال أنه خالف دين آبائه وانتحل الدين الفلاني مثلاً وهذا لم نعثر عليه في أحد الأسفار.

ثانياً: أما خلو أشعاره من آثار الشرك فيحتمل أنه لم يكن وثنياً لكن لايستنتج منه أنه كان نصرانياً إذ كان في بلاد العرب عدة أديان كلها قائلة بالتوحيد كما سبق القول ولم يكن أصحابها مع ذلك نصارى. قال الشهرستاني: كانت العرب إذا لبت وهللت قالت: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه ومالكه. وقال قبل ذلك: وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق ونوع من الإعادة وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام وزعموا أنهم شفعاؤهم عند الله في الآخرة وحجوا إليها ونحروا لها الهدايا وقربوا القرابين وتقربوا إليها بالمناسك والمشاعر وحللوا وحرّموا وهم الدهماء من العرب إلا شرذمة منهم اه. وقال أيضاً: وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق والإبداع وأنكروا البعث (بعث الأجساد) والإعادة. اهـ.

فأنت ترى من هذا أنه لم يوجد نوع واحد من الموحدين بل أصناف مختلفة. ومثله يقول المسعودي في مروج الذهب فقد ذكر ثم ما هذا نصه: كانت العرب في جاهليتها فرقاً. منهم: الموحد المقر بخالقه المصدق بالبعث والنشور موقناً بأن الله يثيب المطيع ويعاقب العاصي. اهـ. وقال أيضاً: وكان من العرب من أقر بالخالق وأثبت حدوث العالم بالبعث والإعادة وأنكر الرسل وعكف على عبادة الأصنام. اه. ومثل هذا الكلام كثير في كتب العرب الأقدمين والمحدثين.

ثالثاً: جوابنا على خلو شعر امرئ القيس من آثار الشرك محتوٍ على جوابينا السابقين فلا حاجة إلى الإعادة.

رابعاً: أما قوله إن الإشارات النصرانية الموجودة في شعره تنطق بلسان حالها عن علاقاته مع النصارى فهاذ لا ننكره لكن بين أن يكون له علاقات مع النصارى وبين أن يكون نصرانياً فرق ظاهر لا يخفى على عاقل أديب مثله. وكذلك القول في من استعمل الاصطلاحات النصرانية في شعره فهذا لا يدل على تنصره. وإلا لزم أن كل من ذكر مثل هذه الألفاظ والاصطلاحات واستعملها في ما كتب ونظم أنه نصراني مثل يزيد بن معاوية وابن المعتز ومدرك بن علي الشيباني وغيرهم من لغويين ومؤرخين وإخباريين وغيرهم وغيرهم. وهو قول فاسد لا يحتاج إلى إظهار ما فيه من الوهن.

خامساً: أما استدلاله بانتشار النصرانية في كندة قبيلة امرئ القيس فهو قول باطل لأن النصرانية كانت أقل انتشاراً في كندة من سائر الأديان فيها. ولو فرضنا أنها كانت منتشرةً فيها فلا ينتج من ذلك أن كل أفراد القبيلة كانت تدين بها. فهذا تميم مثلاً ففيها كان نصارى (الكامل 1: 26) وياقوت 1: 598 وكان فيهم المجوس ومنهم زرارة بن عدس التميمي وابنه حاجب والأقرع بن حابس وأبو الأسود جد وكيع بن حسان وكان فيهم صابئة عبدوا الدبران. ومنهم ثنوية. وآخرون عبدة أصنام وكانت تلبيتهم عند صنمهم: لبيك اللهم لبيك. لبيك لبيك عن تميم قد تراها، قد أخلقت أثوابها، وأثواب من وراءها، وأخلصت لربها دعاءها. (عن اليعقوبي 1: 296) ومنهم من اتبع سجاح المتنبئة. وفريق وافق مسيلمة الكذاب وهم بنو عطارد بن عوف بن كعب بطن من تميم. فهل يصح دائماً في الاستدلال والاستنتاج أن ننتقل من الجزئي إلى الكلي؟ هل يجوز لنا أن نقول إن بني تميم كانوا كلهم نصارى؟ أو كلهم عبدة أصنام، أو كلهم اتبعوا سجاح، أو كلهم وافقوا مسيلمة لأن بعضهم كان كذلك. فإذا كان لا يجوز دائماً: فلماذا يريد الأب أن يجوّز لنفسه ما لا يجيزه لغيره؟ ففي كندة كانت اليهودية (اطلب بلوغ الإرب 1: 379) والنصرانية (راجع كتاب الخراج للإمام أبي يوسف ص 86) والوثنية وكانت تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، تملكه أو تهلكه، أن حكيم فاتركه (اليعقوبي 1: 297) إلى غير ذلك من الأديان. فلم يريد أن يخصها بالنصرانية؟ أليس لمجرد الإيهام؟

سادساً: من أوهن أدلته على نصرانية امرئ القيس استنجاد أمير الشعراء بالقيصر! فأي علاقة للدين هنا؟ فنحن لا نرى في ذلك سوى استنجاد الضعيف بالقوي أو التعاقد والتعاهد لمنفعة شخصية أو غاية دولية. وبخصوص ما يشبه استنصار الشاعر المذكور أو هو هذا الاستنصار بعينه كتب الأدبي دُشين في كتابه المرسوم بالكنائس المفترقة ص 329 ما هذا معناه فأرادت دولة الروم أن تنتفع من هذه الحالة (حالة اضطراب أمور الحميريين) فأرسل قيصر الروم إلى ملوك اكسوم وحمير عدة رسل كان أولهم يوليان ثم ننّوس. وكانت الغاية من ذلك تحويل تجارة الحيري من تلك الجهة لأنها كانت على ما يُظن تتبع طريق هرمز فتتخذ دائماً طريق فارس. وكان في الصدر غايات عسكرية أيضاً. فألقى يُستنيان نظره على رجل اسمه قيس كان قد نكث حبل الوصال مع اسيمفيوس (ملك الحميريين النصراني) ليقيمه رئيساً على قبائل عرب كندة ومعدّ. وكان الغرض من ذلك أن قيساً يتفق مع الحميريين ليحارب الفرس بعد أن يكون قد تمكن من رئاسته. فهنا نرى القوي يلتجئ إلى الضعيف وكل ذلك لغايات سياسية.

ولو كان لما يزعم حضرة الأب صحة أي استنصار الضعيف بالقوي من لوازم الديانة أو نتائجها أو روابطها لقلنا إن جميع الدول المتعاهدة هي على دين واعتقاد واحد. وإلا لما ارتبطت. والحال أن المسائل السياسية لا تعلق لها بالمسائل الدينية، وهذا ما يفقهه أصغر الولدان. وكما تشهد عليه الأحوال وأحداث الزمان. في الحال وسابق الأوان.

ومن غريب كلام حضرة الأب لويس المحترم أن امرأ القيس استنجد بالقيصر لوحدة الدين ولولا ذلك لما خطر على بال أحد أهل البادية خاطر الاستنجاد وهو مع ذلك يُظهر في دليله التاسع أن القيصر كان أول من فكر بهذا الأمر إذ كان قد جرت مذاكرات منذ عهد الحارث بهذا الخصوص فأتمها على يد حفيده امرئ القيس. وعليه فأي الروايتين أصح؟ وأيهما نصدق؟ لاشك أن التعصب يبين من أثناء السطور. واللسان شاهد على ما في الصدور.

وإليك الآن دليله السابع: من الدلائل على نصرانية امرئ القيس نصرانية عمته هند بنت الحارث المعروفة بهند الكبرى. . . ثم قال: وقد ذكرنا في المشرق (5: 106) الكتابة التي وضعتها في صدره وفيها تدل على نصرانيتها ونصرانية أبيها الحارث وابنها عمرو بن هند.

قلنا: أما نصرانية عمته وولدها عمرو فلا ننكرها. وأما نصرانية أبيها فمشكوك فيها. لأن قوله: ويكون الله معها ومع والدها كما رواه المشرق فغير صحيح. والذي أورده ياقوت مع ولدها أي ابنها. وهو الأمر الذي يدفعنا إلى أن أباها لم يكن على دين النصرانية لتطلب الخير الأعظم لنفسه ولذا لم تقل: ويكون الله معها ومع ولدها ووالدها وكذلك قالت: ويغفر خطيئتها ويترحّم عليها وعلى ولدها ولم تذكر والدها لكونه لم يكن نصرانياً. وهذا يحملنا على القول بأن أباها بقي مزدكياً حتى أنها لم تطلب له ما طلبت لنفسها ولولدها من مغفرة الخطايا والرحمة والملك مع الله في مجد الآخرة. هذا ومن أعجب ما في هذه الحجة الاستدلال بمذهب عمة امرئ القيس على مذهبه مع أن حضرة الأب المستدل لم يرض باستدلال من استدل بالنصوص الواضحة الصريحة على أن أباه وجده كانا على دين المزدكية. ومن المعلوم أن الولد في الغالب المشهور يكون على دين آبائه لاسيما أهل الجاهلية. فلكم قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} ولم نسمع أنهم قالوا: إن الولد على دين عمته أو خالته كما أسفلنا قبل هذا.

ودونك ما نقول عن الدليل الثامن: الاستدلال على نصرانية امرئ القيس بكون أمه كانت تغلبيةً ومن ثم أنها كانت نصرانيةً وعليه فامرؤ القيس نصراني هو في غاية الضعف والوهن. فقد مر بك أن تغلب لم تكن كلها نصرانية ولاسيما قد أبنّا لك أن أخوي فاطمة أم امرئ القيس وهما كليب والمهلهل كانا على الوثنية فيكف يُستنتج بعد ذلك أن أمير الشعراء كان نصرانياً؟ هذا وقد يكون في البيت الواحد عدة أشخاص ولهم أديان مختلفة وهو أمر مشهور في الجاهلية.

ثم أن الأب قد ذكر في دليله التاسع ما زين لنفسه أن يقول إنه أقوى الأدلة وهو إرسال الملك يستنيان ننوس سفيراً إلى الحبشة والحميريين وقبائل البادية لكي يولي امرأ القيس رئاسة فلسطين. لكن لا نرى كيف يستدل بذلك على نصرانية الشاعر والملك الضليل. ولقد أجنبا أن مثل هذا لا يستنتج منه وحدة الدين في المولّي والمولّى بل يتحصل منه حسن التواصل بين القيصر والشاعر لا غير. وقد فعل القياصرة مثل ذلك في غير النصارى كما يشهد بذلك التاريخ والأمثلة كثيرة فلتراجع في مظانها.

وأما دليله العاشر فلا يخرج عن دائرة المعنى المتقدم ذكره والجواب عليه واحد. فليعد إليه والعود أحمد.

فيتحصل مما تقدم شرحه الحقائق الآتية وهي:

1 - أن امرأ القيس كان مزدكياً ولا ريب في ذلك. والسبب هو لأن أباه وجده كانا على هذا الدين. ومن ثم فالأبناء يعتبرون على دين آبائهم إن لم يأت ذكر صريح بكونهم اتبعوا ديناً آخر. ولما لم نقف على أثر يؤيد أن امرأ القيس خالف دين آبائه فالنتيجة واضحة كون الابن اتبع الأب في مذهبه. على أننا لا نريد بقولنا أنه كان مزدكياً كان من المتحمسين في دينه؟ كلا، بل على حد ما كان الغير متبعين أديانهم. يعني أنهم كانوا ينتحلون من الدين ظواهره وقشوره لا غير.

2 - لا يجوز لنا أن نقول أن فلاناً من أهل الجاهلية كان على دين كذا ما لم يصرح بذلك أحد الأئمة. فإن حرمنا هذا السند فيجب حينئذ أن نتضافر عدة أدلة لامعة على سد مسد هذا السند وإلا فمن اللازم أن يعد ذلك الرحل بين جماعة المتدينين بدين دهماء العرب أي التوحيد مع عبادة الأوثان أو بدين طائفة عقلاء العرب وحكمائها يعني بالحنفية.

(حاشية: - إن الأئمة من المتكلمين في الأدب واللغة والتاريخ قد ذكروا كل من كان على دينٍ من أهل الجاهلية وصرحوا به تصريحاً بيناً. ولم نجد أحداً نسب النصرانية إلى امرئ القيس إلا أنهم نسبوا المزدكية إلى أبيه وجده ولهذا ورد فيه: إنه القائد لمن سلك مسلكه إلى النار مع أن كلام الأئمة في أهل الفترة يأبى كونه من أهل النار إذا كان على النصرانية أو اليهودية يعني إذا كان من أهل الكتاب).

3 - الاستدلال بأسماء العرب أو بدين قبائلها وعشائرها وأقوامها على حقيقة دين الواحد منها أو ببعض عوائده الملية أو ببعض مبهم إشاراته وتلميحاته وكلامه غير كافية لإقامة الدليل على جوهر دينه. اللهم إلا أن تجتمع هذه الحجج العامة مع حجج خاصة فحينئذ تحمل تلك محمل هذه فيتبين الحق ويتصرم الباطل. وهذان الدليلان يوضحان أن امرأ القيس على دين المزدكية ولم يكن أبداً على دين آخر ولاسيما النصرانية كما توهمه الأب لويس شيخو اليسوعي.

4 - إن ما يزيد إشكالاً مسألة دين عرب الجاهلية وجود عدة أديان وفرق كانت تقول كلها بالتوحيد. ولم يكن اليهود والنصارى وحدهم موحدين ففي القرآن آيات كثيرة تشير إلى هذه الحقيقة. وكتبة العرب قد ذكروا معتقد تلك الفرق بحيث لا يبقى في الأمر شبهة البتة. وعليه فإننا إن عدلنا عن القول بمزدكية امرئ القيس (وهو أمر بعيد) فلا جرم أننا نميل إلى القول بأنه كان موحداً إلا أنه لم يكن نصرانياً مهما حاول الغير أن يثبتوه لضعف براهينهم في هذا الصدد. وفوق كل ذي علم عليم.

بغداد

أحد قراء المقتبس