مجلة الرسالة/العدد 997/ما غرض التربية في مدارسنا؟
مجلة الرسالة/العدد 997/ما غرض التربية في مدارسنا؟
للأستاذ إيليا حليم حنا
لكل أمة طابع وغرض من التربية. فما هو طابعنا الحالي؟ وما الغرض العام المرسوم للتربية عندنا؟ الحقيقة لا طابع ولا غرض لنا إلا إعداد أطفالنا وشبابنا للامتحانات لينجحوا ويحصلوا على الشهادة التي تمكنهم من النزول في معترك الحياة ليرتزقوا ويعيشوا. هذه غاية التربية في مدارسنا، وقد مضى هذا الهدف على كثير من شبابنا المتعلم أن يموت فكريا لأنه لا يتابع سير تفكيره بعد أن يتخرج في معهده أو مدرسته. ونجد أن أصحاب المهن الفنية من شبابنا المثقف يعيشون بما يتعلمونه لا يسايرون الزمن في فنهم، ولا ينتجون شيئا جديدا في ميدان الخلق والابتكار. إننا في حاجة إلى نوع العلم الذي يتيح للمواهب الفردية أن تنمو تبعا لطبيعتها، ويكفل لكل طفل الأحوال التي تتمكن فيها فرديته من النمو إلى أكمل حد مستطاع ونزوده مع ذلك بالثقافة التي تجعله منسجما مع المجتمع. يجب أن نقلب سياسة التربية الحالية رأسا على عقب، ونوقف نظام صب القوالب وحشو الرءوس. إننا الآن لا نراعي الفروق الفردية والميول المختلفة؛ بل نصب أطفال الفرقة كلها في قالب واحد.
لقد بدت في الأيام الأخيرة ظاهرة يجب أن يهتم بها رجال التربية أشد الاهتمام، وهي تفشي داء الغش بين الطلبة والطالبات في جميع مراحل التعليم والسبب الأول لهذا الداء الخلقي الوبيل هو أن ما يتعلمه الفرد عندنا لا يناسب الميول والقوى الكامنة، وأن الهدف الذي يهدف إليه المتعلم هو الشهادة وليس العلم لذاته، وفي هذا أكبر دلالة على أن مناهجنا الحالية فاشلة في توجيه أبنائنا نحو حياة اجتماعية خلقية شاملة وشخصية متكاملة.
وهناك ظاهرة أخرى هي كراهية الشباب لمعاهد التعليم، وللقراءة بعد التخرج. ذلك أيضاً لأننا لا نراعي ميولهم التي هي النواة الحية ونقطة الابتداء والأساس لتربيتهم في مراحل التعليم المختلفة. إن كل اهتمامنا موجه إلى ملء الإناء الفارغ إننا نملأ الرءوس استعدادا للامتحان؛ المدرس يجاهد لإدخال المعلومات؛ والطالب يكافح لإتقانها حتى يفرغها على ورقة الامتحان ويخرج وقد شعر براحة لأنه قد تخلص مع عبئه الثقيل. وقراءة سطرين في كتاب بعد تخرجه تجعله يشعر بالسأم والملل، وهو إن أراد أن يقضي على أرقه إحدى الليالي فعلاجه يسير وهو قراءة بضعة أسطر في كتاب. إننا نحن الذين غرسنا في نفسه الكراهية للعلم، وقضينا عليه ألا يتابع التطور الفكري ويتخلف عن قافلة الزمن؛ هذا بجانب النسيان الذي يقضي على معلوماته المكروهة وهو يفزعه ولا يهمه أن ينسى كل ما درسه. أليست معه الشهادة تلك الوثيقة الرسمية من الدولة؟ ماذا يهمه حتى لو أنه أصبح أميا!
إننا في حاجة إلى سياسة محدودة مدروسة في المراحل التعليمية المختلفة لنصل إلى الهدف التربوي الصحيح؛ ونقضي على الركود الفكري والأمية الفاشية بين كثير من المعلمين منا. ففي مراحل التعليم العام يجب أن نراعي وضع البرامج التي تمكن كل فرد من أن ينمي ما تنطوي عليه نفسه، وأن نجعل المدرسة صورة مصغرة للمجتمع الكبير حتى يتدرب النشء على الحياة نفسها. . . فالتربية ليست إعدادا للحياة بل هي الحياة نفسها.
أما الجامعات في كل أقطار العالم الراقية فهي معاهد للبحث تخرج العلماء في الفنون المختلفة ينزلون إلى الحياة وقد تدربوا على الأسلوب العلمي؛ يمنحون الإجازات الدراسية ليبدءوا حياة البحث والاستزادة. . مستقلين معتمدين على أنفسهم يستخرجون الحقائق الجديدة من المبادئ التي درسوها وبحثوها. أما إن جعلناها معاهد للدرس لنيل الشهادة ليحصل المتعلم على درجة ممتازة في كادر الموظفين فقد قبرنا مواهب شبابنا، وأقصيناه عن ميادين العلم والفن وجعلنا منه آلة متحركة وعبدا للوظيفة، وحرمنا مصر من نبوغ كامن كل ما يمكن استغلاله في اختراع والاستكشاف وكل ما يتصل بقوى الفكر. وإذا قضى على الناحية الإبداعية في التفكير فإن الأمة تصبح جامدة متخلفة ذات رتابة مملة وشخصية مطموسة.
جميل حقا أن نهتم بزيادة عدد المتعلمين وتيسر التعليم للجميع وأجمل من ذلك أن نهتم بنوع العلم الذي نقدمه. لقد أوليت لكم ما فيه الكفاية وبقى أن نولي الكيف عناية أشد.
إن هدف الأمم الديمقراطية في التربية هو تدريب النش على أن يفكر بنفسه لنفسه بتنمية قواه العقلية والنفسية والخلقية وتغذية ميوله الكامنة، وإعداد أصحاب النبوغ والعقليات والملكات الممتازة ليكونوا علماء الأمة وروادها في مختلف فنون الحياة. لذا أقول لا فائدة من وضعنا سياسة تعليمية نسير بها العلم وننشره ما لم نتجه نحو قيم جديدة نصل إليها بالأساليب التربوية الصحيحة التي تجعل النفس تبسط وتعبر عن كيانها؛ لا عما تخزنه الحافظة محنطا دون روح ولا انسجام.
إيليا حليم حنا