انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 989/زعماء التاريخ:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 989/زعماء التاريخ:

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 06 - 1952



مصطفى كمال أتاتورك

للأستاذ عبد الباسط محمد حسن

(لم يكن مصطفى كمال. رجلاً من رجال المصادفة والحظ.

يرفعه إلى البطولة خلو الميدان. ويدفعه إلى الزعامة غباء

الأمة. وإنما كان من الصفوة المختارة الذين يضع الله فيهم

الهداية للقطيع الذي يوشك أن يضل. والحيوية للشعب الذي

يأبى أن يموت. .)

(الزيات بك)

- 1 -

يقال إن التاريخ يخلق العظماء. . . إذ يتيح لهم فرص الزعامة. . . ويمهد لهم سبل العظمة. . . كما يقال إن الزعماء يخلقون التاريخ. . . لأنهم يغيرون اتجاهاته، ويؤثرون في أحداثه. . . ويعملون على تكوينه وخلقه بصورة جديدة. . .

والواقع أن للزعامة أسباباً عامة. . . متصلة بتاريخ الأمة. . . وأسباباً خاصة متصلة بحياة الزعيم، بحيث لا نستطيع أن نرجعها إلى تاريخ الأمة وحده، أو لظروف داخلية معينة. . . كما أن تاريخ الدول - قديمها وحديثها - متأثر بسياستها الداخلية. . . وظروفها الدولية. . . لهذا يتأثر التاريخ بحياة العظماء. . . ولكن العظماء ليسوا كل شيء في تاريخ الدول. . .

وزعماء التاريخ يظهرون في غالب الأحيان. . . حينما تشتد ببلادهم الأزمات. . . ويتعقد الموقف السياسي، ويختل الميزان الاجتماعي والاقتصادي. . . وتنحرف الأمور عن سيرها المستقيم. . . حينئذ يشعر الزعماء بآلام شعوبهم أكثر مما تشعر. . . ويدركون الأخطار المحيطة بهم أكثر مما تدرك. . . ويفكرون التفكير العميق في معرفة أسباب الداء. . . ووصف الدواء. . . ثم يأخذون بيد بلادهم. . . وينيرون أمامها السبيل. . . ويهدونها إلى الحق وإلى صراط مستقيم. . .

وتاريخ الشعوب في مختلف العصور والأزمان. . . حافل بكثير من الزعماء والقادة. . . سواء كانوا زعماء سياسة، أو قادة فكر، أو أبطال حرب. . . وهؤلاء جميعاً ساهموا بنصيب كبير، وقسط وافر في نهضة بلادهم. . .

ولقد ظهر في العصر الحديث - في الشرق والغرب على السواء - زعماء كثيرون. . اتصف معظمهم بالجرأة والحزم. . وسرعة البت في الأمور. . وكان لكل منهم أثره في تكوين الأمور. . وتشكيل الحوادث. . وتوجيه الأمم. . من بين هؤلاء مصطفى كمال في تركيا. . وهتلر في ألمانيا. . وموسوليني في إيطاليا. .

ظهر مصطفى كمال في تركيا بعد الحرب الأولى. . وق خرجت منها مهزومة ذليلة. . ولم تكن الهزيمة في تلك الحرب أول الكوارث التي لحقت بتركيا. . فقد انتزعت القوات البريطانية من الأتراك سوريا وفلسطين والعراق خلال الحرب. . كما سبقتها هزائم الحروب مع إيطاليا ودول البلقان. . كما سبقتها أزمات إنشاء الحكومة النيابية. . وقد زاد في حرج الحالة بعد انتهاء الحرب. . احتلال اليونانيين لكثير من الولايات التي كانت تابعة لتركيا، ونزولهم في أزمير. . .

كان العالم كله يتوقع أن الأتراك وهم على هذا الحال من الضعف. . لن تقوم لهم قائمة قبل عشرات السنين. وإذا بهم يخيبون ظن الدول. . ويعملون على إحياء تركيا وبعثها من جديد. . . وكان ذلك بفضل زعيمها العبقري (مصطفى كمال. . .)

رأى مصطفى كمال. . . أن من الواجب العمل على قيام حركة قومية نضالية. . . تهدف إلى الاستقلال والحرية والكرامة. . . وتعمل على توحيد قوى الأمة. . ومقاومة كل حركة أجنبية. . لذلك ترك القسطنطينية. . مركز الدول العثمانية. . ورفع علم القومية العثمانية في أنقرة. . بعيداً عن مرمى مدافع الحلفاء. . وهاجم جيوش اليونان. . فردهم على أعقابهم خاسرين. .

وكان مصطفى كمال يؤمن كل الإيمان بحيوية الأمة التركية. . واستعدادها للنضال في سبيل الحرية والكرامة والعزة. . وكان إيمانه بوطنه أكبر مشجع له على العمل. . وخير دافع له للنهوض ببلاده. . لذلك أثار حربا دامت ثلاث سنوات من سنة 1919 - 1922م.

استطاع بعدها أن يملي شروطه على الدول الأوربية الكبرى. . فمزق معاهدة (سيفر) التي كانت الحكومة الشرعية قد قبلتها. . وأجلى اليونان عن الولايات التي كانت قد احتلتها، وأرغم الدول على التسليم باستقلال الوطن التركي في معاهدة (لوزان)، وبذلك كانت تركيا الدولة الوحيدة التي رفضت صلحا يملي عليها إملاء. . أو معاهدة تفرض عليها فرضا. . ولم يكن تخليص الوطن التركي من المستعمرين إلا مقدمة لسلسلة الإصلاحات الجريئة التي قام بها أتاتورك. . والتي أعطت لتركيا مظهر الدولة المتمدينة العصرية

- 2 -

ولد مصطفى كمال سنة 1881م. . . في مدينة سالونيك. . . وهي بلدة إغريقية الأصل، وكان أبوه (علي رضا) موظفا صغيراً في الجمارك. . وأمه (السيدة زبيدة) من أسرة محافظة تتمسك ما استطاعت بالتقاليد الموروثة، لذلك كانت أمنيتها الكبرى. . أن ترى وحيدها مصطفى في مدرسة دينية إسلامية حتى يصير شيخا من شيوخ الدين. . .

أما والده فكان يرغب في أن يثقف ولده ثقافة غربية. . وكان الفوز لأبيه في النهاية، فدخل المدرسة وعمره سبع سنوات وقد غادر أبوه بعد ذلك وظيفته. . استعدادا للحياة الجديدة، وما تتطلبه من نفقات - فاشتغل تاجر أخشاب. . . ولم يلبث إلا قليلا حتى مرض مرضه الأخير وما قبل أن يرى ولده في المدرسة العالية. . .

وجدت الأم نفسها وحيدة في (سالونيك) ولم يكن هناك من يرعى شؤونها، ويتولى أمورها. . بعد أن فقدت زوجها وعائلها. . وكان معها من هو أحق منها بالعناية والرعاية. . لذلك وجدت نفسها مرغمة - أمام قسوة الحياة - لأن تنتقل مع صغيرها. . إلى منزل أخيها. . وكان مزارعا في قرية قريبة من المدينة. .

وهناك في وسط الحقول. . نسى مصطفى المدرسة والعلم وأقبل على حياته الجديدة. وعاش كما يعيش صبيان القرية في أحضان الطبيعة. . ونعم بحرية لم ينعم بها من قبل في (سالونيك)

وظل هكذا عامين كاملين حتى بلغ من العمر إحدى عشرة سنة، أكتسب فيها خشونة الفلاحين في طباعه، كما أتكسبها في بنائه الجسمي، ولم يعد يرضخ لمشيئة أمه كما كان حاله من قبل وكان مصطفى على الرغم كم عناده وصلابته، شديد الذكاء قوي الملاحظة - وكانت أمه تنظر إلى حياته الجديدة، فتشعر بالأسف العميق لأنها لم تسطع أن تحقق الأمنية التي أرادها له أبوه، وهو أن يدخل المدرسة العالية، كما أنه - في نظرها - لم يخلق للقرى والحقول، والسير طولب حياته وراء الماشية، لذلك ظلت تبذل جهودها حتى التحق ولدها بالمدرسة من جديد. . .

وجعل مصطفى يتابع عمله في المدرسة بجد وعناية حتى أكمل تعليمه بها، فاقترح عمه أنه يلحقه بالمدرسة العسكرية في سالونيك، وكان مصطفى ميالا بطبيعته لحياة الجندية، يقول في مذكراته عن هذه الفترة (كان يسكن في البيت المجاور لنا - طالب بالكلية الحربية يدعى (أحمد)، وكنت أحسده كلما التقيت به، على هندامه الجميل، وكذلك كنت كلما التقيت في الطريق بضابط يسير مرتديا ثيابه الزاهية الخلابة، أقف مبهوتا؛ وأنا أتابعه بنظري، لذلك ما كدت أنتهي من دراستي الابتدائية حتى صممت على أن أدخل الكلية العسكرية لأصبح ضابطا أزين جسمي بالملابس العسكرية الجميلة. .)

التحق مصطفى بالمدرسة العسكرية، فأظهر نبوغاً وتفوقاً على أقرانه، مما جعل أساتذته يوصون بنقله إلى مدرسة حربية أخرى ولما أكمل علومه بالمدرسة الجديدة، التحق بمدرسة أركان الحرب في القسطنطينية حيث تخرج فيها برتبة (يوزباشي)

وكان مصطفى خلال هذه الفترة قد تطور تطوراً غريبا، فلم يعد ذلك الطفل الصغير الذي يلهو عابثاً في الحقول، أو يتشاحن مع أحد أقرانه لأمر تافه بسيط، فقد تعلم الفرنسية أثناء دراسته وقرأ كثيراً من الكتب الثورية مع صديق له يدعى (فتحي) قرأ فوتير وروسو، وهوبز، وجون سيتورات ميل، كما اشترك في جمعية (الوطن) وهي جمعية سرية تعمل على محاربة الاستبداد السياسي، وتحطيم القيود الأجنبية، وأخذ يكتب النشرات الحماسية ناقداً فيها سياسة السلطان ورجال الدين وداعياً إلى تحطيم القيوم، ومحاربة الظلم والاستبداد، على اختلاف صوره

كانت تركيا في ذلك الوقت تحت حكم السلطان (عبد الحميد) الذي وقف عقبة في سبيل الحركات الإصلاحية الكبرى، والذي ألغى مجلس النواب ليصيح الحاكم المطلق في تركيا - والذي فرض رقابة شديدة على الشعب، حتى ذكروا أنه ما من ثلاثة تكلموا معا في أمر من الأمور إلا وكان أحدهم جاسوساً للسلطان (بعد الحميد. . .)

ولذلك لم تمض فترة طويلة حتى استطاع جواسيس السلطان القبض على زعماء جمعية الوطن، وتقديمهم إلى المحاكمة، وبذلك أبعد مصطفى كمال عن القسطنطينية ونفي إلى بلاد الشام. . .

(للكلام بقية)

عبد الباسط محمد حسن