مجلة الرسالة/العدد 980/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 980/الكتب
الصعلكة والفتوة في الإسلام
تأليف الدكتور أحمد أمين بك
للأستاذ عبد العزيز محرم
نحن في حاجة إلى مثل هذه الكتب أو الكتيبات التي ترسل أضواء كاشفة على بعض المعاني التي ورثناها عن القرون الماضية، فهذه المعاني هي الميراث الذائب في دمائنا، يوجهنا ويرشدنا ويوحي إلينا. وكل أمة تعرف ما اختلج في ضميرها، وما استسر في أعماقها، وما يبتعثها دائما إلى أنواع معينة من السلوك، تسترشد في طرائق الحياة الصحيحة، لأنها تجربتها على مدرجة الزمن وانصرام الأعوام، قد عرفت الشيء الكثير عن عوامل الرقي وأسباب الانهيار.
ونحن الآن في زمن نتلفت فيه كثيراً إلى الماضي نسترشده ونستلهمه، ونسأله العون والتوفيق. وإذا عرفنا معانينا الموروثة، وأخلاقنا الكريمة، ومثلنا الرفيعة، وما طرأ على كل ذلك من عوامل تقدم أو من عوامل نكوص، استطعنا أن نتبصر في موقفنا الراهن وحياتنا الحاضرة.
وليس على وجه التاريخ أمة عاشت منقطعة عن ماضيها، بل الحياة دائمة مستمدة من ميراث الماضي، ومن ضرورات الحاضر، ومن آمال المستقبل. والأمم والأفراد في هذا المجال سواء. واليوم وليد الأمس. والغد وليد اليوم وحفيد الأمس. والأمة التي تتنكر لماضيها لا تتمكن من السير ولا تتمكن من الرقي. وقد تندفع إلى مهاوي الضلال والدمار.
على هذا الأساس نرحب بكتاب (الصعلكة والفتوة في الإسلام) لأنه يكشف لنا بعض تقاليدنا وآدابنا ومعانينا التي ورثناها عن أجدادنا السالفين، ولأنه وضع أيدينا على مواضع الرشاد ومواضع الخيبة في حياة هؤلاء الأجداد، ولأننا بهذا نستطيع أن نرسم لأنفسنا طريقاً لا حباً. يوصلنا إلى أهدافنا، ويدفعنا إلى غايتنا، ويستشرف بنا إلى حياة رفيعة مأمولة، ويخلصنا من أصر ما نحن فيه من انحلال وضعف وتخاذل وذلة.
وقد ذكر الأستاذ الدكتور أحمد أمي بك معاني الفتوة. فقال إنها الشباب. وقال إنها القوة. وقد تلونت الكلمة بلون البيئة، فإن إنساناً قد يرى في الفتوة أنها كرم وشجاعة كطرفة أبن العبد، وقد يرى غيره أنها العقل والفصاحة والرزانة كزهير، وقد يرى ثالث أنها كتمان السر وعدم البوح به كمسكين الدارمي.
ويرى الدكتور أن الفتوة أثر الغنى، وأن الصعلكة أثر الفقر، ومن فتيان الجاهلية طرفة بن العبد وامرؤ القيس. ومن صعاليكها السليك بن السلكة، وعروة بن الورد، والشنفري، وتأبطشراً. وهؤلاء كانوا فقراء صعاليك. وطرفة وامرؤ القيس كانا غنيين من الفتيان.
واستعرض الدكتور مثل الصعاليك ومثل الفتيان استعراضاً تاريخياً تحليلياً من العصر الجاهلي، إلى عهد الخلافة الرشيدة، إلى العهد الأموي، إلى العهد العباسي، إلى أزمنة المماليك، إلى العصر الحاضر في مصر. وبين الآداب الرفيعة والتقاليد الرائعة للفتوة والصعلكة. وبين كذلك ما لحقها من ضمور وهزال وشوائب أضعفت من أثرهما، وقللت من شأنهما في بعض الأوقات.
وقد استشهد بكثير من الأشعار في العصر الجاهلي على ما يقول. أو قد استخلص كثيراً من معلوماته في هذا الموضوع من أشعار الجاهليين. فذكر شعراً لطرفة. وذكر شعراً لتأبط شراً. وذكر شعراً للشنفري. وذكر شعراً لعروة أبن الورد.
وعروة بن الورد هو المثال الرفيع للصعلكة الجديرة بالتقدير والاحترام. إذ كان اشتراكياً بكل ما تحمل الكلمة من معنى. وكان يغير على الأغنياء البخلاء ليرد أموالهم على الفقراء المحاويج. فهو لم يكن يغير لغرض ذاتي؛ بل لغرض تهذيبي. وآخر اجتماعي. الغرض التهذيبي أن يؤدب هؤلاء الأغنياء الذين يضنون بأموالهم ورفدهم على المحتاجين والمساكين. والغرض الاجتماعي أن يمول كثيراً من الذين يعجزون عن الكسب لمرض أو شيخوخة أو عجز. أما هو نفسه فلم يكن يظفر من غنائمه ولا من نهبه بأكثر مما كان يظفر به شيخ قعيد أو عاجز ضرير.
(فهو فقير يتحسس أخبار الأغنياء، فمن وجده كريماً سخياً خلاه، ومن وجده شحيحاً بخيلاً غزاه، وفرق ما جمعه على زملائه بالعدالة لا يرضى بشيء لنفسه إلا برضاهم. فمثله مثل برنادشو في إحدى رواياته إذ هاجم قوم سيارة فخمة يركبها أغنياء مرابون. فقال الهاجمون، نحن سراق الأغنياء، وأنتم سراق الفقراء. وكما فعل تولستوي إذ كان غنياً واسع الغنى، فوزع ثروته على فلاحيه وعاش فقيراً. غاية الأمر أن عروة هذا سبقهما في النبل بنحو ألف سنة.
(والخلاصة أننا نرى في الحياة الجاهلية البدوية نوعين متميزين من الشبان: (أبناء الذوات)، قد يجتمعون ويتخذون لهم محلاً مختاراً، ويعيشون عيشة إباحية، فيها خمر، وفيها غناء، وفيها نساء. وهم مع ذلك كرام، يضيفون من نزل بهم، ويغدقون عليهم من خيرهم. وتقابلهم طائفة أخرى من أبناء الفقراء يسمون الصعاليك، يشاركونهم في الكرم والاشتراكية، ويخالفونهم في أن حياتهم ليست حياة دعة واستمتاع، ولكن حياة غزو وسلب ونهب، وتوزيع المال على أمثالهم. يضاف إلى ذلك فرق آخر وهو أن الفتيان يعطون ما يعطون وهم مترفعون، والصعاليك يعطون ما يعطون وهم يعتقدون أنهم مع زملائهم متساوون. وإن شئت فقل إن الفتيان يعطون ما يعطون عطفاً وتفضلاً، والصعاليك يعطون ما يعطون أداء لما يرونه واجباً).
وفي عهد الخلافة الرشيدة أرتفع الدين بمعنى الفتوة. ورفع الإماء والعبيد إلى مقام الأحرار، فسيدنا إبراهيم في حجاجه قومه فتى، وأهل الكهف فتية آمنوا بربهم، والعبد والأمة ليسا عبداً ولا أمة، إذ (لا يقوا أحدكم عبدي وأمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي) ولا يجوز أن تكرهوا (فتياتكم على البغاء).
وعلى العهد الأموي نجد نكوصاً إلى فتوة امرؤ القيس وطرفة بن العبد. وهب فتوة الخمر واللهو والعكوف على الغناء. وقد يكون فيها إكرام للناس وقرى للضيف وإيواء للغريب. وقد يكون من هؤلاء الفتيان اللاهين من يخرج للصيد والطرد بعدده وآلاته، وهذه الفتوة الموروثة جاهلياً، المبعوثة أمويا، تأثرت بما أخذه الفتيان عن الفرس من اللعب بالبندق، وهي كرات صغيرة من طين أو حجر أو رصاص يرمى بها على قوس لصيد طير أو نحوه. ثم حشيت بالبارود. ومن هنا سميت البندقية.
وكما كانت الفتوة في العهد الأموي متأثرة بفتوة طرفة وفتوة الفرس، كذلك كان بعض ألوان الفتوة في العهد العباسي. ونجد لونا آخر وهو فتوة المتصوفة؛ وفي هذا يقول محي الدين بن العربي:
إن الفتوة ما ينفك صاحبها ... مقدماً عند رب الناس والناس إن الفتى من له الإيثار تحلية ... فحيث كان فمحمول على الرأس
ما إن تزلزله الأهوال قوتها ... لكونه ثابتا كالرأس في الرأس
لا حزن يحكمه، لا خوف يشغله ... عن المكارم حال الحرب والبأس
أنظر إلى كسرة الأصنام منفرداً ... بلا معين. فذاك اللين القاسي
وفي البيت الأخير إشارة إلى فتوة إبراهيم عليه السلام
وكذلك نجد في العهد العباسي لونا ثالثا من الفتوة وهو فتوة العيارين والشطار، وكانت تستخدم في السلب والنهب. وثمة لون رابع من الفتوة، وهو الفتوة المنعقدة بين جماعة لسبب ما كغربة، وكما حدث من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في عهد النبوة الكريم. وهناك فتوة الإسماعيلية كالحسن الصباح وفتيانه، وأيضاً فتوة الحروب الصليبية كصلاح الدين الأيوبي، وأسامة بن منقذ، ونور الدين محمود بن زنكي.
وقد تأثرت الفتوة في العصر العباسي بفتوة الفرس وفتوة الترك، علاوة على تأثرها بالفتوة العربية، وعلاوة على تأثرها بالعناصر الدينية.
ومن ميزات الفتوة أنها (تتضمن الشجاعة، والإتيان بأعمال البطولة، والكرم والسماحة والعفو عند المقدرة، واحترام المرأة، ووفاء العهد وحماية الضعفاء)، وكذلك يكون الفتى معروفاً بالسخاء والشجاعة، والزهد والعبادة، وإطعام الطعام للمساكين، وإكرام العلماء والفقهاء، وحسن سيرة وصدق الحديث. قليل الكلام، لا يسمع منه أحد كلمة كذب ولا غيبة. لا يخوض في كلام لا طائل تحته، آمر بالمعروف ناه عن المنكر)
وأنت ترى أن هذه الصفات الكريمة والأهداف النبيلة لم تتحقق في كل ألوان الفتوة التي ساقها الدكتور أحمد أمين بك، وهي إن تحققت في الفتوة الدينية، أو الفتوة الصوفية، أو فتوة صلاح الدين وأسامة بن منقذ، فهي قاطعاً لم تتحقق في فتوة العيارين والشطار، ولا في فتوة العابثين اللاهين.
ولعله كان من الأجمل أن تعدد ألوان الفتوة بالنظر إلى أهدافها، فقد يهدينا هذا إلى معرفة الفتيان حقيقة هؤلاء الذين يجمل بهم وبنا أن نذكرهم دواماً ليكونوا أمثلة للهداية والنور والحق والطهور. وبهذا نحفظ مقاماتهم، وذكرهم عند الاقتران بهذا الخليط العجيب من الفوضى والإباحة الذي أنساق إليه كل لاه عابث مغلوب. وبهذا نضع كل إنسان في مكانه من الفتوة الصادقة حتى نربأ بصلاح الدين وأسامة بن منقذ ومحي الدين بن العربي عن دنس قرنهم بالعيارين والشطار في إطار الفتوة. وحتى نحفظ لهذا الاسم الجميل معناه الجدير بالاحترام والتقدير.
ولم يذكر المؤلف فتوة المسلمين الأولين في العهد الرشيد التي تمثلت في فروسية الفاتحين كأسامة بن زيد، وخالد بن الوليد، وعلي بن أبي طالب.
ويدو أنه لم يكن من اللازم، في هذا العصر الرشيد على الأقل، أن يكون الفتى في سن الشباب. والمثال على ذلك قصة إبراهيم التي كسر فيها الأصنام، والتي أحرقوه بسببها، والتي سموه فتى فيها. ومن سياق هذه القصة - كما وردت في سورة الأنبياء - نعرف أنها بعد بعثته بنبوته، أي بعد الأربعين، وهي السن التي يرسل فيها الرسول إلى قومه. وليسمن السائغ أن نقول إن الإنسان نبياً أو غيره، في هذه السن، يكون في شبابه. بل هذه فاتحة الكهولة التي يستحصف بها العقل وتصفو النفوس.
وحين ننتقل إلى العهد الأموي نجد مؤلفنا الجليل لم يذكر الخوارج. وقد كانوا من الفتيان حقاً وصدقاً. وقد وهبوا كل ما يملكون لمبدئهم الذي رأوه حقاً وصواباً.
ولم يذكر أيضا فتوة أشياع علي والحسين، مع أنهم خرجوا على ملك بين أمية العضوض راجين رد الحق إلى نصابه ومصادره، ولقوا في سبيل ذلك القتل والتمثيل والتشريد.
وذكر الدكتور المؤلف فتوة المماليك؛ ولكن يهمنا نحن المصريين هذه الفتوة التي تجلت في موقفين رائعين: الموقف الأول هو انهزام الصليبين أمام المماليك والمصريين في المنصورة.
والموقف الثاني هو تفرق التتار في عين جالوت أمام المماليك والمصريين أيضاً. وهاتان الموقعتان حفظتا العالم الإسلامي من الضياع بفضل فتوة المماليك الرائعة.
وعرض المؤلف للإخوان المسلمين، وهم جماعة أكثر أتباعها من الشبان المسلمين. بدءوا أمرهم بتعليم الشبان الفضائل عن طريق الدين. والحق أن الناظر إليهم كان يراهم أميز من زملائهم من حيث القوة والرجولة والتخلق بالأخلاق الحسنة. ثم دعتهم الظروف المحيطة بهم أن يتحزبوا. فتظاهروا. وأيدوا الحكومات أحياناً وعارضوها أحيانا تبعا للتعليمات. ثم تطوروا تطور آخر، فكان منهم محاربون، وكان منهم فدائيون.
ومن رأي الدكتور أن الأخوان ضعفوا عما كانوا عليه. وفي رأيه أن قتل الشهيد حسن البنا كان جزاء وفاقا لما فعل الأخوان من قتل المرحوم النقراشي. وقد تكون للتاريخ كلمة غير هذه الكلمة حين تنجاب الحجب عن الألغاز الاستعمارية والأحاجي السياسية، وحين يعرف لماذا شرد وعذب وأعتقل شباب مسلمون لا هم لهم إلا نصرة دينهم على المستعمر الغاشم، وإلا نصرة دينهم على الانحلال والرأسمالية البغيضة.
لقد كانت رحلة شائقة من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث أفدت منها كثيراً، واستمتعت كثيراً، وعرفت ما لم أكن أعرف من وجوه الكرامة والرجولة والفتوة لدى هؤلاء الاماجد الأبطال الذين تنطفئ الدنيا ولا تنطفئ مصابيحهم. فشكراً للمؤلف الفاضل. وشكراً للفرص المواتية.
محمود عبد العزيز محرم