مجلة الرسالة/العدد 980/البريد الأدبي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 980/البريد الأدبي

مجلة الرسالة - العدد 980
البريد الأدبي
ملاحظات: بتاريخ: 14 - 04 - 1952



من أين لك هذا؟

قد يكون من المفيد - بعد ما تبين لأولي الأمر منا أي ضرورة ملجئة، وأي مصلحة عامة تجعل حتما سن مثل هذا القانون - أن نذكر الحكومة الإسلامية منذ ثلاثة عشر قرناً، فطنت إلى هذا القانون، فنادى به محمد زعيم الإصلاح، ومعلم الإنسانية الأول، وآمن به من بعده إيماناً لا يتسرب إليه شك. والتاريخ يحدثنا عن غير واحد من علية القوم ووجهائهم ممن حوكموا بمقتضى هذا القانون، فهذا خالد بن الوليد الذي اقتعد غارب المجد، وتسنم ذروة الشرف، وأبلى في الدفاع عن الإسلام أحسن البلاء، لم يغن عنه كل أولئك أمام الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فحين أحس أنه أثرى فجأة - وكان عاملاً له - عزله من الولاية ثم استجوبه وحقق معه، ورد إلى بيت المال بعض أمواله.

روى الطبري أن خالد بن الوليد إثر عودته من (قنسرين)، بعد أن أظفره الله عليها، وأفاء خيراً كثيرا عليه، وفدت عليه الوفود، وكان ممن وفد عليه الأشعث بن قيس، فأجازه خالد بعشرة آلاف. وسرعان ما أنهى إلى الخليفة العادل الساهر هذا النائل الغمر، فأبرد إلى عبيدة (أن يقيم خالداً، ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته، حتى يعلمهم من أين إجازة أبن الأشعث؟ أمن إصابة أصابها؟ أم من ماله؟ فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أقر بخيانة، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف، وأعزله على كل حال، وأضمم إليك عمله) فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه، ثم جمع الناس، فقام البريد. فقال: يا خالد! أمن مالك جزيت بعشرة آلاف؟ أم من إصابة؟ فلم يجبه، حتى أكثر عليه - وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئا - فقام بلال إليه فقال: إن أمير المؤمنين أمر بكذا وكذا فيك، ثم تناول قلنسوته، فعقله بعمامته وقال: ما تقول؟ أمن مالك؟ أم من إصابة؟ فقال: لا! بل من مالي، فأطلقه، وأعاد إليه قلنسوته، وعممه بيده، ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخم ونخدم موالينا. وعندما قدم خالد على عمر المدينة، بعد عزله، شكاه إلى المسلمين وقال له: لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله إنك غير مجمل في أمري يا عمر. . فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال خالد: من الأنفال والسهمان، وما زاد على الستين ألف فلك. فقوم عمر عروضه، فخرجت إليه عشرون ألفاً، فأدخلها في بيت المال، ثم قال: يا خالد! والله إنك علي لكريم، وإنك ألي لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء.

وكذلك وقف عمر بن الخطاب موقفا مشابها من والي مصر عمرو بن العاص، فقد كتب إليه: (أما بعد، فقد بلغني أنه فشت لك فاشية من خيل وإبل وبقر وعبيد، وعهدي بك ولا مال لك، فأكتب إلي من أين أصل هذا المال؟ ولا تكتمه)

فأجاب عمرو: (. . وإني أعلم أمير المؤمنين أنني ببلد السعر فيه رخيص، وإني أعالج من الحرفة والزراعة ما يعالج أهله، وفي رزق أمير المؤمنين سعة، وواله لو رأيت خيانتك حلالا ما خنتك، فأقصر أيها الرجل، فإن لنا أحساباً هي خير من العمل لك، إن رجعتنا إليها عشنا بها).

على أن عمر لم يجد في هذا مقنعاً، فأرسل إلى عمرو محمد بن سلمة ليشاطره ماله. وعندما قدم رسول عمر إلى عمرو قدم إليه أصنافاً كثيرة من الأطعمة، فرفض أن ينال منها شيئاً، فقال له عمرو: أتحرمون طعامنا؟ فقال: لو قدمت إلي طعام الضيف لأكلته، ولكنك قدمت إلي طعاماً هو تقدمة للشر. نح عني (أكلك) طعامك، وأحضر إلي مالك، وأكتب إلي كل شيء، هو لك، ولا تكتمه. فشاطره ماله أجمعه، حتى بقيت نعلاه، فأخذ إحداهما وترك له الأخرى. هذا وغيره كثير وفي هذا بلاغ.

وصنيع عمر هذا يعد من قبيل الاحتياط والتورع، ولم يكن عن خيانة من خالد أو عمرو، فإنهما أعز وأكرم التماس الغني والثراء مما لا يحل، يدل لهذا كتاب عمر إلى عمرو بن العاص (والله يا عمرو لقد ابتليت بولاية هذه الأمة، وآنست من نفسي ضعفاً، وانتشرت رعيتي، ورقي عظمي، فاسأل الله أن يقبضني إليه غير مفرط، والله إني لأخشى لو مات جمل ناقص عملك ضياعاً أن أسال عنه).

وورد في كتاب من عمرو لعمر (معاذ الله من تلك الطعم، ومن شر الشيم، والاجتراء على كل مأثم، فأقبض عملك، فإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنيئة، والرغبة فيها).

أما موقف سيدنا خالد فيشهد لما أشرت إليه ما جاء على لسان أمير المؤمنين نفسه؛ على ما مر بك، والله ولي التوفيق.

رياض عباس عبد المنصف محمود باشا

كان لتعيين عبد المنصف محمود باشا وكيلاً لوزارة الداخلية وقعه الجميل في نفوس أصدقائه ومحبيه. وإني وإن كنت ممن لم يتشرفوا بتلك الصداقة الشخصية، إلا أن للرجل في نفسي مكانة أدبية من حق الرسالة على أن أنوه بها، على سبيل التهنئة الخالصة لوجه الثقافة والأدب.

ولقد أشرت في تقريظي لكتاب (السنوسية دين ودولة) للدكتور فؤاد شكري إلى رجالات مصر الذين أسهموا في الجهاد الليبي، وذكرت من بينهم عبد المنصف محمود الذي كان ضابطاً في ذلك الوقت.

وعسى ألا يغيب عن الأذهان أن عبد المنصف محمود - الذي كان من قبل مديراً لمصلحة خفر السواحل ومصائد الأسماك - من أدباء الإسكندرية المعدودين، ومكانة في ثقافة عروس البحر لا يزال كالدر اللامع في جيد الأدب الرفيع.

ولم تكن مشاغل الوظيفة لتصرفه عن التأليف والبحث، فوضع سلسلة من الكتب القيمة عن بحيرات مصر، ضمنها دراسات تاريخية واجتماعية وأدبية، وجمع فيها بين التقرير والتقدير، ولما كانت قد وضعت سنة 1936 كتاب (إدكو) ودرست فيه كل ما يتعلق ببلدة إدكو، فإن كل دراسة تتصل بها مما يدفعني إلى التلهف عليها، لهذا كنت أتابع عبد المنصف محمود باشا في كتابه (على ضفاف بحيرة إدكو) كما أني اشتركت في المعركة الفكرية بين الرأي القائل بتجفيف تلك البحيرة أو الإبقاء عليها، وأدليت برأيي على صفحات الأهرام.

أما عبد المنصف محمود، وهو الشاعر الحريص على الجمال، فقد كان يرى عدم التجفيف لتظل البحيرة كغيرها من البحيرات (ترصع جيد مصر)، ومما جعلني أخالفه في هذا الرأي ما انتهت إليه الحالة الاقتصادية في إدكو من تدهور أدى إلى انهيار اجتماعي عام، ولولا ذلك لحرصت أكثر منه على بقاء هذه البحيرة الجميلة وهي أول ملهم لي في حياتي الأدبية، حتى لقد كانت قصيدتي (البحيرة الناعسة) أول ما نشر لي في الأهرام وأنا طالب بالسنة الثالثة الثانوية سنة 1933.

وعسى ألا يكون المنصب الجديد بمعوق شاعر البحيرات عن المضي في بحوثه وأشعاره، وأمل الرسالة في الباشا الكبير ألا يحرمها من نفحاته، وكيف لا يفعل وهو تلميذ صاحب الرسالة؟ ولعلي بهذا أن أكون قد اشتركت بتقديم هذه التحية مع المهنئين

محمد محمود زيتون