مجلة الرسالة/العدد 98/مصرع الصحافة العظيمة في ظل النظم الطاغية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 98/مصرع الصحافة العظيمة في ظل النظم الطاغية

مجلة الرسالة - العدد 98
مصرع الصحافة العظيمة في ظل النظم الطاغية
ملاحظات: بتاريخ: 20 - 05 - 1935



للأستاذ محمد عبد الله عنان

لا يستطيع مؤرخ أن يتجاهل الدور العظيم الذي أدته الصحافة في تطورات العالم السياسية والثقافية منذ أوائل القرن الماضي؛ ولا يستطيع مؤرخ الحرب الكبرى أن ينسى أن الصحافة كانت إلى جانب الجيوش والأساطيل أداة من أدوات النصر؛ وليس مبالغة أن توصف الصحافة الحديثة بأنها في الدولة سلطة رابعة إلى جانب السلطات الدستورية الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية؛ وفي ظروف معينة تبدو الصحافة أولى السلطات وأهمها في الدولة أو المجتمع: تنشئ حكومات وتسقط حكومات، وتحشد الرأي العام لتحقيق برنامج معين أو فكرة معينة، وقوتها في ذلك لا تعادلها قوة، ونفوذها لا يجاريه نفوذ. هذه حقائق بديهية لا تقتضي جدلاً أو مناقشة. وما زالت الصحافة في الأمم العظيمة الحرة هي صاحبة المقام الأول في قيادة الرأي العام، وفي توجيه القوى السياسية والاجتماعية. وفي عصرنا قطعت الصحافة في سبيل التقدم العلمي والفني مراحل مدهشة؛ ولكن الصحافة أصيبت في عصرنا أيضاً بأقسى محنة عرفتها في تاريخها القصير المدى. ففي عدة من الأمم العظيمة لقيت الصحافة ضربتها القاضية، وأصبحت شبحاً فقط لما كانت عليه من قبل، وجردت من أعظم وأسمى مظاهرها: حرية التفكير والكتابة؛ ولم تبقى سوى أداة ذليلة خانعة للقوى الطاغية التي تخنقها وتسيرها كيفما شاءت

وقد كانت الصحافة الحرة وما زالت مظهراً من أهم مظاهر الديمقراطية والنظم الحرة؛ وقد أصيبت الديمقراطية والنظم الحرة في عصرنا برجعة خطيرة، وأصيبت معها كل مظاهرها الحقيقية ومنها الصحافة؛ فحيثما نكبت الديمقراطية: في روسيا السوفيتية، وفي تركيا الكمالية، وفي إيطاليا الفاشستية، وأخيراً في ألمانيا الهتلرية، تلقى الصحافة أشد محنة عرفتها، وتسحقها النظم الطاغية التي رأت أن تتخذها مع باقي القوى العامة، أداة لتحقيق برنامجها وتوطيد سلطانها. وفي هذه البلاد التي يسود فيها الطغيان المطلق، لم بيق رأي حر يستطيع أن يتنفس، ولا رأي عام يستطيع أن يعبر عن شعوره أو يحدث أثره المشروع في الحياة العامة؛ ولا تستطيع أن تخرج من الصحافة إلا بصورة واحدة مكررة هي إرادة الطغاة ومزاعم الطغاة، تفرض على ملايين من الناس لا حق لهم في مناقشة أو تذمر، و يسمح لهم بغير التأييد الأعمى

وتزعم هذه الحكومات الطاغية دائماً بأنها تحظى بتأييد الأمة المطلق، وتحاول دائماً أن تتخذ من إجماع الصحافة المصفدة المسيرة دليلاً على هذا التأييد؛ ولكن كيف يعرف رأي أمة لا يسمح لها بإبداء الرأي، وكيف يوصف شعور أمة نحو الطغاة، وهي ممنوعة بالقوة عن إبداء هذا الشعور؟ إن حكومات الطغيان تسن من القوانين الاستثنائية ما يكفل إخماد كل صوت وكل رأي معارض، ثم هي لا تقف عند هذه القوانين، بل تلجأ في أحيان كثيرة إلى إجراءات الهوى، فتنزل بأولئك الذين يجرءون على معارضتها أشنع العقوبات من قبض واعتقال ومصادرة، بل ومن إعدام، كل من ذلك دون قانون ودون تحقيق أو محاكمة؛ وليس من المبالغة أن نقول إن الحياة البشرية في هذه الأمم، أضحت كالحريات العامة، دون ضمان وطمأنينة؛ وما زلنا نذكر كيف أن مئات من الألمان أزهقوا في 30 يونيه الماضي بيد هتلر ومعاونيه لريب في تأييدهم للنظام القائم؛ وقد أهدر دمهم جميعاً لأن (الزعيم) أراد إعدامهم وكفى

تصفد الحرية الفكرية بهذه الأغلال حيثما يقوم الطغيان (الدكتاتورية). وقد كان البلاشفة أول من أخضع الصحافة لهذا النظام الحديدي، فلقيت في ظل العهد الجديد ما لم تعرفه في ظل القيصرية من القيود والأغلال المرهقة، ولم تلبث أن استحالت إلى أداة رسمية صماء لا رأي لها ولا إرادة، وخفت الرأي العام الروسي منذ ثمانية عشر عاماً فلا يعرف العالم لخارجي عنه شيئاً؛ وحذت الفاشستية حذو البلشفية في استبعاد الصحافة وإخماد هذا المتنفس الذي قد يثير حولها الصعاب إذا ترك طليقاً؛ ثم اقتفى الكماليون هذه الخطة في تركيا، وفرضوا على الرأي العام أغلالاً لم يعرفها في العصر الحميدي؛ ولما قام الطغيان الهتلري في ألمانيا، كانت أولى وسائله لتوطيد سلطانه أن يسحق الرأي العام الألماني، وذلك بسحق الصحافة متنفسه الطبيعي. وقد ذهب الهتلريون في ذلك إلى حدود لم تعرفها أشد عصور الطغيان

كان في ألمانيا، قبل أن يغمرها طغيان الوطنية الاشتراكية، صحافة عظيمة زاهرة تعد في مقدمة أعظم صحافات العالم؛ وكان لها نفوذها القوي في توجيه الرأي العام وفي التعبير عن رغبااته وميوله، شأنها في كل الأمم العظيمة. ولكن زعماء النظام الجديد أدركوا قوة الصحافة وخطرها على نظم الطغيان، فسحقوها بيد من حديد ووضعوا لها تشريعاً استثنائياً خاصاً يسلبها كل حرية وكل استقلال في الرأي، وجعلوا منها صناعة رسمية، ومن محرريها المسئولين عمالاً للحكومة؛ وأنشأوا وزارة خاصة للدعاية، تتمركز فيها جميع عناصر الوحي والرأي والقول في ألمانيا كلها؛ ولم يحجموا بذلك عن أن يمزقوا بيدهم آخر الأقنعة التي تستتر بها الدكتانورية، وأن يعترفوا جهاراً بأنهم هم الذين يوجهون الصحافة ويغذونها بكل عناصر القول والرأي؛ ولم يصفد الهتلريون الصحافة السياسية فقط، ولكنهم صفدوا كل أنواع التفكير والكتابة؛ والأدب والشعر، والفنون والعلوم وكل ألوان الثقافة، وجعلوا منها جميعاً أداة لبث مبادئهم وتمكين سلطانهم من أعناق الأمة التي يدعون الوصاية عليها. ومنذ أيام قلائل أصدرت الحكومة الهتلرية قانوناً استثنائياً جديداً يشدد أغلال الصحافة الألمانية ويقضي على آخر المظاهر التي بقيت لها. وقد وصف القانون الجديد بأن القصد منه (صون استقلال الصحافة) والواقع أنه يقضي على أخر ما بقى لها من لمحات الاستقلال، والمقصود به بنوع خاص أن يقضى على الصحافة التي تمثل مصالح المهن والطوائف والجماعات العامة، وعلى الصحافة الكاثوليكية التي ما زالت قوية في جنوب ألمانيا وغربها. وهو ينص على حرمان كل شخص لا ينتمي إلى الجنس الآري من العمل في الصحافة وكل متعلقاتها؛ وإذا أريد تغيير ناشر الصحيفة أو محررها وجبت موافقة السلطات؛ وإذا رؤى في أي جهة من الجهات أنه يوجد من الصحف ما يزيد عن حاجتها عطل منها ما كان زائداً عن الحاجة، وقد نص أيضاً على تعطيل جميع الصحف التي تعنى بنشر الحوادث الجنائية والاجتماعية ووصفت في المرسوم بأنها (صحافة الفضائح)، والخلاصة أن القانون الجديد لا يفسح مجال الحياة والظهور لغير الصحافة النازية الحكومية

ولقد كانت هذه الضربة الجديدة لقتل صحافة عظيمة مثار الاشمئزاز حيثما تقدس حرية الفكر والرأي، واستقبلتها الصحافة الإنكليزية بعاصفة من السخط؛ وكتبت (التيمس) مقالاً رناناً قالت فيه؛ (إن خضوع الشعب الألماني أمام تقييد حرياته ومورد أخباره يعتبر حادثاً مزعجاً جداً. وكيف يستطيع الشعب الألماني بعد ذلك أن يقف على الظروف الحقيقية للسياسة الدولية من هذه المصادر التي تقدم له الآن. وكيف يفهم الألمان عبارة (الاعتزال السياسي) في أوربا، وهي عبارة يرددها زعماؤهم وهي في الغالب من صنعهم وتدبيرهم؟ وهل يفهمون الظروف الحقيقية التي قتل فيها الدكتور دولفوس المستشار النمساوي؟ والتي دبرت فيها مذبحة 30 يونيه في ألمانيا؟ وما يلقاه اليهود والسجناء السياسيون، وما يكون لهذه الأمور من أثر في الرأي العام الأوربي؟) وقالت الجارديان: (أن الصحافة التي كانت في ألمانيا من أعظم الحرف وأرفعها، تنحدر الآن إلى الحضيض. وليست الجرائد (النازية) الحالية التي حلت محل الصحف التي كانت من قبل من أمهات الصحف العالمية، سوى وريقات لبث الدعاية الخاصة؛ ولم يبق أثر للحرية الفكرية والجدل والمناقشة. وكان من مفاخر هذه الحرفة الكريمة في ألمانيا أن عدداً عظيماً من كتابها وصحفييها آثروا الخراب والنفي والسجن على هذا الانحطاط الشنيع) ثم تتساءل الجارديان: (فهل بقي في الشعب الألماني روح حي يأسف على ضياع حرياته الفكرية والقلمية أو يثور على تلك التدابير التي تخذ لسحق هذه الحريات بصفة نهائية؟)

والواقع أن الصحافة الألمانية سقطت من عداد الصحافات العظيمة مذ تولى الهتلريون الحكم؛ ولم تفقد كل قوتها ونفوذها السياسي والاجتماعي فقط، ولكنها فقدت كل قوتها ونفوذها السياسي والاجتماعي فقط، ولكنها فقدت كل خواصها ومميزاتها الثقافية الممتعة التي كانت من قبل فجر التفكير الألماني؛ وأخذت الصحف الألمانية العظيمة تختفي من الميدان تباعاً بعد أن فقدت مركزها وخاصة قرائها، وامتدت النكبة إلى الصحافة الأدبية والفنية والعلمية، فأخذت تنحدر إلى نفس المصير المحزن؛ وتسيرها نفس الدعاية السياسية والثقافية التي غمرت ألمانيا؛ وغدت الصحف الألمانية العلمية التي كانت من قبل أسفاراً جليلة تحمل على الإعجاب والاحترام، أدوات للدعاية الهتلرية، تحدثك باستمرار عن نظريات (الزعيم) في خواص الجنس الآري، وانحطاط الأجناس السامية، وتفوق السلالة الألمانية، وأصول الثقافة الجرمانية القديمة، ويغره من المبادئ والنظريات الجنسية المتعصبة التي أصبحت ظاهرة الحياة العامة في ألمانيا، وأضحى أصدقاء الثقافة الألمانية الحرة في حيرة من هذا الخلط المحزن بين الحقائق والغايات العلمية، وبين النظريات والدعيات الحزبية التي جعلتها وزارة الدعاية الهتلرية فوق كل شئ في حياة الشعب الألماني وتشعر الدوائر العلمية والأدبية والطبقات المفكرة الألمانية عامة بخطر هذا التيار الجارف على مستقبل التفكير وال آدابالألمانية، ولكنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً لمقاومة هذا الخطر لأنها توضع تحت نفس انظم الجديدة التي جعلت من الصحافة ووسائل الثقافة الفنية كالمسرح والسينما والموسيقى والراديو، أدوات لدعوة الحزبية المحضة. ويشعر الزعماء الهتلريون أنفسهم بفداحة الأثر الذي أحدثه هذا الاستبعاد المطلق للتفكير الألماني، ويحاولون تبريره بمختلف النظريات والمحاذير. وملخص نظريتهم في ذلك هو أن الصحافة من مظاهر الأنظمة الحرة وخواصها، ومثل هذه المظاهر لا توجد في ظل الاشتراكية الوطنية؛ والمبادئ الحرة لم تسمح بتوحيد كلمة الشعب، والاشتراكية الوطنية تريد الشعب كتلة واحدة. وقد كانت الصحافة في عهد الحريات القديمة تستمد أعظم قواتها ونفوذها من الانتماء إلى الأحزاب، أو زال منه تلقاء نفسه انحدرت الصحافة الحرة إلى مثل هذا المصير، وفقدت أهميتها الحزبية والسياسية؛ والاشتراكية الوطنية لا تقيم وزناً للجدل السياسي، وفي رأيها أنه متى زالت البواعث الموجبة لهذا الجدل، وهو الخلاف الحزبي، فإن الصحافة تغدو أداة متماثلة في عملها ومظهرها. والاشتراكية الوطنية لا تعتمد على الصحافة كأداة للدعوة، ولكنها تعتمد في ذلك على الإذاعة اللاسلكية؛ وهي عمادها في قيادة الشعب وإرشاده. وأما الصحف فمهمتها أن تنقل للناس ما يسمعونه بواسطة (الراديو) لكي يعودوا فيقرءوه ويتدبروه. وأخيراً ترى الاشتراكية الوطنية أن الصحافة من الأنظمة القومية، فيجب أ، تكون حرفة رسمية تشرف عليها الدولة، ويجب ألا يشتغل بها سوى الآريين، فلا يسمح لليهود أن يشتغلوا بها سوى الآريين، فلا يسمح لليهود أن يشتغلوا بها أو يساهموا في امتلاكها (وهذا ما يقرره قانون الصحافة الهتلري). وكما أن الصحافة السياسية تتلقى كل مواد الكتابة والتعليق من المكتب السياسي بوزارة الدعاية، فكذلك تشرف على توجيه الصحافة العلمية والأدبية والفنية (غرفة للثقافة) وعلى توجيه الصحافة الاقتصادية والمالية (غرفة الدعاية الاقتصادية)، وهكذا يسير التفكير الألماني كله طبقاً لخطة حزبية موضوعة تقرر له المبادئ والمواد من وراء ستار وتلقنها إليه تحت سلطان القوة والوعيد

وهل نحن في حاجة لأن ندحض هذه النظريات والآراء الرجعية الطاغية؟ إن الاشتراكية الوطنية تعترف بأنها تقتل الصحافة لأنها لا تطيق النظم الحرة، وفي ذلك ما يكفي للحكم على تدليلها ووسائلها. ولقد كانت حرية التفكير في جميع العصور والأمم من خواص الأنظمة والحضارات العظيمة. ولكن ما هي الاشتراكية الوطنية الألمانية في الواقع؟ هي مزيج من الآراء والنظريات القومية والجنسية المغرقة، التي تحمل في معظمها طابع التناقض وضيق الأفق، وهي في روحها واتجاهها، أشد طغياناً من البلشفية والفاشستية، وأشد إذكاء للشهوات والأحقاد الجنسية والطائفية، وهي أوهام أذهان ضيقة متعصبة، لا تؤمن بغير القوة والعنف؛ وإنما يسبغ العنف عليها طابع النجاح. ومن الطبيعي أن تمقت كل صنوف الحرية وتخشاها. والصحافة الحرة من أخطر القوى على نظم الطغيان

ولنلاحظ أخيراً أن محنة التفكير الألماني لا تقف عند مصرع الصحافة، بل هي أشد أثراً وأوسع مدى، فهي تشمل كل صنوف التفكير وال آداب والعلوم والفنون؛ وهذه كلها تخضع اليوم لنفس الأغلال والقوى، وتمزقها وتشوهها نفس الأهواء والشهوات الهدامة؛ وهي كلها تسير في ظل الاشتراكية الوطنية إلى نفس المصير المحزن الذي تنحدر إليه جميع القوى الروحية والفكرية في ألمانيا

محمد عبد الله عنان المحامي