مجلة الرسالة/العدد 98/شم النسيم
مجلة الرسالة/العدد 98/شم النسيم
في مركز بوليس!
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
اشتهيت مرة أن اخرج إلى الظل، ورقاق بغيضة معشاب، وأن أجلس تحت شجرة عظيمة تميل على أفنانها من الري واللين، فقلت لصاحب لي: (إني في ارض واسعة سهلة، ولكني كرهت مقامي بها، وأضجرني منها أني لا أرى في فضائها الرحيب عوداً ثابتاً، ولا أسمع إلا صوت الرمال وهي تجري على رمالها وتوقع بعضه على بعض، وغدا شم النسيم، فتعال بنا إلى ناحية من الريف قريبة من بعض أرباض المدينة، وعسى أن أحمد بقعة في طريقنا، فأنزل بها وأسكنها، فقد اجتويت الصحراء كما قلت لك، وما أظن بي ألا أن الحنين إليها سيعاودني، ولكن البعد عنها سنة أو سنتين، يكون كالاستجمام، فما قولك؟)
قال: (وتخرج في شم النسيم؟)
قات (: ومالي لا أفعل؟ أهو حرام - علي وحدي؟)
قال): لا، ولكنه يوم تكثر فيه العربدة، وأولى بك أن تلزم دارك - كعادتك)
قلت (: يا أخي، الله يوسع لي في الأرض، وأضيق على نفسي! كلا، ولن نعدم مكاناً ننأى فيه عن ضجات السكارى والمعربدين، فاختر لنا مكاناً، وتوكل معي على الله)
فاختار (المرج)
وحملنا معنا كفايتنا من الطعام والشراب، وكنا أربعة - أو خمسة، لا أذكر - وركبنا قطار الزيتون وكان كالحمار النهاق البليد، يمضي ويتوقف، ويميل هنا وههنا، ولا يزال يصلصل، كأنما يقطع أرضا أو يصنع شيئاً يستحق هذه الضوضاء، وأنا أمرؤ خلقني الله أكره التثاقل والاسترخاء، وأحب أن أفرغ مما أكون فيه بأسرع ما أستطيع، فمشي قفز،، وأكلي لقم، وكلامي لغط، وخطى أشبه بما تتركه أرجل على الرمل، من فرط العجلة؛ ولا صبر لي على دلال امرأة، ولا أعرف التمهيد لشيء؛ فإنه لف أو تطويل لا موجب له؛ وما أكثر ما أحببت، وما أسرع ما سلوت، وكم قلت لامرأة: (يا صاحبتي لقد أحببتك، ولكنني لم أحبك ليوجعني رأسي وقلبي، فإن كنت لا تحسنين إلا تصديعي وتنشيف ريقي، وإلا هذا الذي تسمينه دلالاً، فلا يا ستي ويفتح الله عليك بغيري) وأدعه وأمضي، ولا أعود بعده إلى ذكرها. وما أكثر ما قلت لنفسي: (ما هذا يا مازني؟ إني أرى حبك قد طال ساعاتٍ، وهذا شيء يمل ويسئم، وليس معقول أن تحب غائباً كأنه حاضر معك! نعم معقول أن تحبه ساعة يكون إلى جانبك، ولكن بعد أن يمضي عنك أو تمضي أنت عنه، لا يقبل منك أن يظل قلبك يتلفت إليه ويشغل به عن سواه)
فتقول نفسي: (أي والله، صحيح)
وأستلقي على سريري وأغمض عيني، وأنام، ثم أقوم وقد نسيت حتى اسم من أحببت. لهذا قلت لأصحابي (يا رفاق! ما قولكم؟)
قالوا: (ماذا؟)
قلت: (ننزل من هذا القطار ونذهب نعدو إلى جانبه)
فضحكوا ولم يسمعوا مني، ولكني كنت واثقاً أني أستطيع أن اسبقه على الرغم من عرجي؛ ونزلنا في (المرج) فلم نجد شجرة نجلس في ظلها، ولا جداراً يقينا وقدة الشمس، ولم نلمح في الأفق البعيد شيئاً يغري بالأمل، فقلت: أرجع إلى صحرائي فهي بي ارفق من هذا المرج فإن لي فيها على الأقل بيتاً آوى إليه، ولذي لا يرضى بالخوخ يرضى بشرابه
وإنا لكذلك وإذا بضابط يقبل علينا ويحي واحداً منا، ويسأله عما جاء به، فيخبره أنه جاء معنا، ليشم النسيم، ولكنا لا نجد مكاناً ظليلاً نميل اليعه، فيقول الضابط الكريم: (تعالوا عندي)، فنسأله (عندك أين؟ فأنا لا نرى بيتا ولا كوخاً) فيقول: (في مركز البوليس، فإني ملاحظ النقطة!) فينظر بعضنا إلى بعض وأقول: (نشم النسيم في مركز البوليس! هذا جديد!) وترددنا، ولكنه ضابط بوليس، وتحت أمره قوة كافية لإرغامنا، فقلنا: (لا بأس! هي تجربة جديدة فلننظر ماذا عسى أن تفيدنا من المتعة؟ وما يدرينا؟ لعل مركز البوليس خير مكان نقضي فيه يومنا! وما نظن أن أحداً جرب ذلك من قبل، فهي ميزة ننفرد بها ونستبد)
ودخلنا المركز، فدبت أقدام الجنود، وارتفعت أيديهم إلى رؤوسهم بالتحية، وتحركت عيونهم دون وجوههم، وجعلت تنظر إلينا وتتبعنا ونحن داخلون ومعنا السلة فيها الطعام والشراب، وصعدنا إلى غرفة فيها مائدة من خشب غير منجور، وحولها كراسي ثقيلة، وأنا نحيف هزيل، يقول أحد الأطباء في وصف جسمي إنه شبكة من الأعصاب تحملها طائفة من العظام، وتكسو هذه وتلك طبقة رقيقة من الجلد، ولا لحم لي ولا شحم فأحتمل الجلوس على هذه الكراسي الناشفة، ولكن ما حيلتي؟
وجاءونا بأطباق وملاعق وسكاكين وأشواك وفوط، فسألت الضابط:
(من أين لكم هذا!)
قال: (ماذا تظن؟)
قلت: (أظنكم أخذتموها من اللصوص الذين وقعوا في قبضتكم)
قال: (أو لعلنا سرقناها؟ هيه؟)
قلت: (كل شيء جائز في هذه الدنيا! ومتى صار جائزاً أن نشم النسيم في مركز البوليس، فكل شيء بعد ذلك هين ومقبول ومعقول)
وكان الجنود كلما دخلوا علينا بصحن أو كوب أو فنجان، يدبون بأحذيتهم الضخمة الثقيلة، ويحيون، ويضعون ما في أيديهم الأخرى، ثم يعودون إلى التحية والدب بالأرجل، ويخرجون، وتكرر ذلك منهم ألف مرة، فقلت للضابط:
(ألا تعفيهم من هذا التكليف؟)
قال: (إنهم جنود وقد ألفوا ذلك فليس في وسعهم إلا أن يفعلوه)
قلت: (لو لم تكن معنا لما تكلفوه)
قال: (ولكني معكم)
قلت: (إذن فأعفنا نحن، فإنه إزعاج)
فسال: (كيف أصنع؟)
قلت: (والله لا أدري! هل تستطيع أن تختبئ تحت المائدة حين يدخل منهم أحد؟)
وأكلنا هنيئاً، وشربنا مريئاً، ولم تمنعنا هذه التحيات والدبات أن نضحك ونمزح، ولم يحل شعورنا بوجودنا في (مركز البوليس) دون التبسط والمرح، واحتجت بعد ذلك أن أنام دقائق، والنوم من عاداتي بعد الغداء، فإذا حرمته حرمت الراحة، وتفتر جسمي، وغاض معين نشاطي، وساء خلقي، وانقلبت مخلوقاً شرساً مشاكساً، وشريراً مجرماً، تقذف عيناه الشرر، ومن أجل هذا تتخذني زوجتي هولة تخوف بي الأطفال والخدم. فإذا رأت أني لم أنم بعد الظهر، أقبلت تقول: (تعال!)
فأقول: (إلى أين؟) فتقول: (تعال خوف الأطفال، فإنهم لا يريدون أن يسكنوا!)
فأقول: (يا سيدتي، إن التخويف شر أساليب التربية)
فتقول: (دع هذه الفلسفة وقم، فقد كاد رأسي يطير من ضجتهم، ثم إن عند الجيران أطفالاً كثاراً يصيحون، فأخرج لهم وجهك من النافذة يخرسوا، وفي الشارع رجال يتشاجرون فاذهب إليهم واطردهم إلى شارع آخر)
فأهز رأسي وأقول: (تالله ما اشتهي إلا أن أخوفك أنت!) ثم أنهض آسفاً، وأصدع بما أمرت، فيهدأ البيت ويسكن الشارع، ويخفت كل صوت حتى صوت الترام، فينشرح صدرها وتقرعينها، وتتنهد مسرورة، وتقول: (ليت أنك لا تنام بعد الظهر أبداً!)
فأسألها: (أتكرهين لي الراحة؟)
فتسألني مغالطة: (أتكره أي أنت الراحة؟)
فلا أجد جواباً حسناً، وأسألها: (هل أستطيع أن أنام الآن؟)
فتقول: (وإذا قامت ضجة جديدة؟)
فأقول: (اطمئني. . . وفي وسعك دائماً أن توقظيني لهم) فتذهب تصف وجهي معجبة بما يكون مرتسماً عليه من مظاهر الإفزاع وبواعث الرعب، مباهية به وجوه القتلة والسفاحين وقطاع الطريق؛ ولكن هذا أستطراد، فلنرجع إلى ما كنا فيه من شم النسيم
كان لا بد أن أنام، فنمت على كرسيين، حططت نفسي على واحد، ومددت ساقي على الآخر، ولم يكن هذا فراشاً وثيراً بالمعنى الصحيح، ولكن النسيم كان عليلاً في مركز البوليس، فأغفيت دقائق زعمها أصحابي ثلاثين، وقالت لي عظامي المهيضة إنها كانت رقدة أهل الكهف
ولم تكن لي يومئذ زوجة، فلما عدت إلى البيت لاحظت أمي أشكو وجعاً في ظهري وتكسيراً في عظامي، فسألتني: (أين كنت؟)
قلت: (في مركز البوليس بالمرج)
فصاحت بي: (مركز البوليس؟ لماذا؟ ماذا صنعت؟)
قلت: (شممت النسيم!)
قالت: (أكنت تشم النسيم أم تضرب علقة؟) وظلت إلى أن ماتت، وهي في شك من هذا الأمر
إبراهيم عبد القادر المازني