مجلة الرسالة/العدد 98/فصول ملخصة من الفلسفة الألمانية
مجلة الرسالة/العدد 98/فصول ملخصة من الفلسفة الألمانية
10 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
فلسفة نيتشه 1844 - 1900
للأستاذ خليل هنداوي
(عملت على إنجاز كتاب (فلسفة نيتشه) للأستاذ (هنري
ليشتانيرجر)
(خ. هـ)
- 1 -
نيتشه هو ممثل الفكرة الألمانية الجبارة في تاريخها الحديث كما كان (بسمارك) رجلها الحديدي في السياسة. فهما وإن اختلفت منازعهما وتباينت الحقول التي غرسها فيها، فما غرس الاثنان إلا بذور القوة والإرادة في شعب تلقحت دماؤه وأفكاره بمصل القوة والإرادة.
هنالك كلمة تسطرها براعة الفلاسفة والنقاد وتشغل مكاناً من العصر الحديث. هذه الكلمة هي كلمة (الانحطاط الاجتماعي) وفلاسفة الاجتماع لا يرون في هذا الانحطاط شيئاً سياسياً يمكن إصلاح الفاسد فيه، أو اعوجاجاً يمكن تقويمه، بل هو داء عضال قد تأصل في جسم البشرية وتمشى في لحمها وعظمها ودمها فهو لا يذهب إلا بذهابها ولا يتلاشى إلا بانقراضها. ومن هؤلاء المغالين في تشاؤمهم (فردريك نيتشه) الذي نازل العالم كله وحده، وهدم العقائد والتقاليد مستمداً من عقله وقلبه عقائد وتقاليد أسمى منها.
- 2 -
الشخصية في نيتشه
إن من الجور أن ننظر فيما ترك نيتشه من تعاليمه (كمذهب محدود) لأن الرجل لم يعمل على أن يؤلف مدرسة فلسفية، ولم يكن لمثل عقله الوثاب أن يقيد نفسه بقيود ضيقة؛ وإنما هو الثورة المتدفقة التي لا تعرف نظاماً ولا انتظاما يملك عليها الاضطراب في اندلاعها، ويملك على عقله التناقض حتى في الفكرة الواحدة. وإنما الأجدر بنا أن ندرس من فلسفته (الناحية الفردية والشخصية) وهي أبرز نواحي فلسفته جلاء وقوة، لأنها ابنة طبع خاص، وهوى صادق مستقيم إن فلسفة (نيتشه) فلسفة تتجلى فيها (الذاتية) المنقطعة عن الناس. (ماذا يقول لك شعورك؟ يجب أن تكون كما أنت! فينبغي للإنسان أن يعرف نفسه وجسده وحواسه، وأن يمشي بحياته كما تريد ذاته وشخصيته، وأن يغتنم من الفرص أحسن ما يغتنم، ومن المصادفات ما يحقق مطامعه، وبقرب غايته. وأن يصحح - بقدر ما يستطيع - هذه الطبيعة بالفن، ليتسنى له أن يظهر ذاته ويبعث حياته. كلٌ يغترف من هذا المذهب بحسب غريزته وطبيعته؛ إذ لا قواعد ولا أساليب محدودة تصنع لكل إنسان نفسه. فمذهب (عدم المساواة) بين الناس هو من مبادئ نيتشه. إذ ينبغي لكل إنسان أن يخلق بنفسه حقيقته وهدفه وفضيلته؛ فما كان صالحاً للواحد قد يكون ضاراً للآخر. وما كان ضاراً للواحد يكون صالحاً للآخر. وكل ما يستطيع المؤرخ أن يصنعه هو أن يقص تاريخ نفسه، والطريقة التي اكتشف بها نفسه، والإيمان الذي وجد به راحة نفسه. وأن يكون المثال الذي يقتدي به معاصروه للوصول إلى عوالم أنفسهم. . . . ولكنه ليس له بعد هذا كله من مذهب أو من طريق. لأنه لا يود أن يكون راعي قطيع خاضع ذليل
(يقول (زرادشت) لرفاقه الأمناء: (إنني وحدي أذهب يا رفاقي. . . وأنتم وحدكم اذهبوا. . . أنا أريد ذلك
في الحقيقة أعطيكم هذه النصيحة. ابتعدوا عني كثيراً، واحموا أنفسكم من زرادشت. . . وخير لكم أن تخجلوا منه
أنتم تقولون: إنكم مؤمنون به ولكن ماذا يهمه إيمانكم؟ أنتم المؤمنون به، ولكن ماذا يهمه كل المؤمنين؟
أنتم لم تفتشوا بعد عن أنفسكم، ولذلك وجدتموني. هكذا يقول كل المؤمنين، ولهذا أرى أن كل إيمان هو شيء ضئيل. والآن آمركم بأن تفقدوني لتجدوا أنفسكم، وعندما تكفرون بي أعود إليكم في تلك الساعة. . .)
يتميز تيتشه من أصحاب المذاهب الفلسفية بأنه لا يخاطب العقل وحده كما يفعلون، بل يخاطب الإنسان بأسره عقلا وجسداً. فما التفكير عنده والعاطفة إلا أهواء تعبث بها قوة خفية كامنة تصرفها كما تشاء إلى أين تشاء. (إن وراء أهوائك وعواطفك - يا أخي - سيداً (قادراً) وعاقلاً مجهولاً يسمى (الذات) يسكن جسدك، وإنما هو جسدك، فالجسد بما يضم من أعضاء وبما يحتوي على إرادة القوة، ذا ما يدعوه نيتشه (العقل الكبير للإنسان) وأن العقل الحقيقي - وحده - ناقص سريع العطب. تستعين به الذات على بسط قوتها ونفوذها. فإذا أراد إنسان أن يؤثر في آخر فبهذه الذات الخفية وحدها يمكنه أن يؤثر. وكل شيء سواها باطل. ومن اللغو أن تعرض مذهباً فلسفياً بالطرق المنطقية، أو تحدد العقل بالمقاييس التي اخترعها العقل. وإنما هذه الأحكام المنظمة (مجموعة التقاليد المقدسة) محددة الخير والشر، والجميل والقبيح، هي أحكام موضوعة لا ظل لها من حقيقة، ولكن الإنسان هو واضعها ومقدسها. وخيرهم من ساعد على نشر (ذاته) وشخصيته. فالكتاب - مثلاً - إن هو إلا فعل يقوم بقيام شخصية صاحبه، وبكيانه الكامل. فهو ليس بمفكر فحسب بل هو نبي. . . لا يقول للناس (أنا أحمل إليكم الحقيقة العالمية غير المتعلقة بذاتي. ولكنه يقول (ها أنا بما فيّ من إيمان وحقيقة وخطأ، كما أنا. أقول (نعم) للكون، لكل أفراحه وآلامه. فانظروا إن كنتم تجدون أيضاً سعادتكم في هذه الآراء التي وجدت فيها سعادتي)، وبينا يروح غيره من الفلاسفة متباهين (بانسلاخهم عن شخصيتهم نرى نيتشه يجعل من شخصيته مدار فلسفته. . . فلسفته في الحقيقة هي تاريخ نفسه. وزرادشت النبي الذي يكتب عنه بلهجة شعرية مؤثرة هو ذات نيتشه بما يجول في ذاته من رغائب وآمال وأحلام ومن لم يفهم شخصيته لا يفهم فلسفته
- 3 -
صفحة من حياته الأولى:
ولد نيتشه عام 1844 من أسرة يعتقد بأنها أسرة بولونية قديمة ألجأها إلى ألمانيا ما ألجأها. نراه في حداثته مثال السيطرة والاعتماد على الذات وقهر الآلام الجسدية. وقد كان كثير الوفاء والاحترام لأصدقائه برغم ميله الطبيعي إلى العزلة، صارماً في معاملته. لا يميل إلا إلى من يلائم هواه ويوافق مزاجه ولا ينفر إلا ممن طغت الرداءة والشراسة على خلقه. صارم في حديثه، جاد في مزحه. لا يهوى المزح الكاذب مهما كان عنصره. لأن خروج الرجل عن طبيعته في الحياة الخاصة يخرجه عنها ما يخرجه في الحياة العامة. لا يطيب له مجلس العوام ولا الدخول في حلقاتهم. وإنما هو في حياته كما تمثله لنا كتاباته إرادة فولاذية وسيطرة بعيدة. وكأنه جبل من طينة غير طينة البشرية. لا يهوى الضعف ولا الاستكانة ولا يميل إلى الاستسلام. ولعل الكاتب الدانماركي (أبسن) قد رسم شخصية نيتشه في روايته التمثيلية (الراعي براند) الذي كان رجل كل شيء ولا يقفه حائل. لا يشفق على نفسه ولا على غيره. يضحي - بدون وجل - بسعادته في سبيل تتميم إرادته؛ يمشي ولا يتسرب إليه الضعف، دامي القدم، محطم القلب. مخترقاً سبيله، بطلاً أبسل في كل ما يخترق. ولا يزال هذا دأبه حتى يريحه الجنون، وترحمه المنون) مثل نيتشه مثل هذا الراعي رجل كل شيء أو رجل لا شيء. يذهب بإرادته لا يصده صاد ولا يمنعه مانع. وقد تكون هذه البطولة - عند نيتشه - أحد عوامل سروره. كما يكون الاستشهاد عند من يقضي في سبيل وطنه. على أن هنالك (نفوساً شاذة) في هذا المجتمع، ممن يقدر لها أن تحارب التعالم وهي تلم أن في هذه الحرب شقاءها وبلاءها، تراها مضطرة بطبيعة حالها إلى أن تكون ذات قلب شديد وإرادة فولاذية، تستعين بها على اقتحام المصاعب ومثل هذه البطولة بطولة المجاهد الذي تتصلب إرادته، وتتحجر عزيمته وهو - خلال ذلك - مفتقر إلى صداقة تسعفه وتساعده، ومن عسى يتخذ صديقاً من بين هذه (المخاليق الناقصة) ولكنه اتخذ أصدقاء يقبل بكمالهم ويؤمن بمثلهم ويغضي طرفه عن نقصهم، وقد صور في مطلع حياته بعض صور أصدقائه تامة كاملة كأنها المثل الأعلى، وبهذا وجد في (شوبنهاور) أسمى مثل للفلسفة. وفي (ريشارد فاحبز) أسمى مثل للفن. وإذا هو وجد في صحبة هؤلاء راحة نفسية فإنه وجد في نهاية هذه الصحبة ألماً طالما أمضه وعذبه. ومبعث هذا الألم أن الفيلسوف ظل ساعياً دائباً وراء الإنسان الكامل الذي كان مثله الأعلى. فكان - لذلك - في نزاع مستمر مع نفسه، وقد كلفته هذه الصداقة كثيراً، لأن مثله الأعلى يقضي عليه بأن يضحي بها. فجرب كثيراً أن يغض الطرف عن نقص صديقيه، وألا ينظر فيهما إلا مثلاً أعلى الصداقة. فتذوق من الصداقة مرارتها كما تذوق حلاوتها. . . وهكذا آب إلى عزلته لأن طبيعته تدعوه إليها
(يتبع) خليل هنداوي
-