انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 971/الأدب والفن في أسبوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 971/الأدب والفنّ في أسبُوع

مجلة الرسالة - العدد 971
الأدب والفنّ في أسبُوع
ملاحظات: بتاريخ: 11 - 02 - 1952



للأستاذ عباس خضر

الدكتور زكي مبارك:

. . . وأخيرا مات زكي مبارك. . . مات بعد حياة طويلة بعض الطول ولكنها عريضة كل العرض، حياة تتلخص في كلمة واحدة جامعة هي (الصراع). . . كان يصارع في معترك العيش، وكان يصارع في ميدان الأدب، وقد ظل يصارع حتى نال منه الجهد في السنوات الأخيرة من حياته الحافلة فأدمته أشواك كان يبدي لها الجلد، فيضمد جراحه ويحاول أن يمضي في كفاحه، ولكن كان يغلبه الترنح الذي أسلمه إلى التفكك. وكان الناس ينظرون إليه في هذه الحقبة الأخيرة على خلاف في الرأي والمزاج، كان بعضهم يأسف لانتهائه قبل وفاته، وكان قراؤه يلقفون ما يكتب على علاته ويتناولون ثمرات قلمه غير عابئين بما عليها من غبار وما يختلط بها من حشف. وكان أشد ما يجذب القراء إليه ما ظل يشعشع كتابته من روح نابض وظل خفيف.

كان زكي مبارك يمثل في صراعه الفلاح المصري أتم تمثيل، كان فلاحا خارج القرية، شق بقلمه طريقه إلى الجامعة المصرية وإلى السربون وإلى الصدارة في عالم الأدب العربي الحديث، كما يشق الفلاح بفأسه الأرض لاستنباط رزقه. وكان زكي مبارك يحرث حقله في الأدب ليقيم خطوطه، والويل لمن يعترض طريقه، فإذا استوى زرعه وآتى أكله تولى حراسته ووقف بالمرصاد لمن يقترب منه. ولم يفته طبع الفلاح في الجور على حدود جاره وقتاله إذا استدعى الأمر، ويتجلى هذا في صياله مع الأدباء، ذلك الصيال الذي كان يحمل فيه القلم كما يحمل الفلاح (النبوت).

نشأ زكي مبارك في الأزهر، ولكنه لم يكن كسائر الأزهريين , فلم يكن من المقبلين على (علم) الأزهر العاكفين على طرائقه المأثورة، بل كان من الفئة القليلة التي خرجت من بين تلك الجدران تتلمس الأدب هنا وهناك، وجده أولا في الأزهر على يد أستاذه وأستاذ غيره من تلك الفئة القليلة الشيخ سيد المرصفي الذي كان يقرأ لهم كتب الأدب القديمة ويدني كنوزها من قرائحهم وأذواقهم المتطلعة.

ولم يكن زكي مبارك في الأزهر بالطالب الخامل، فإن فاته الظهور في الدراسة الأزهرية المأثورة فلن يفوته مجال الشعر والأدب فكان خطيب المحافل وشاعر المجامع، وقد خاض غمار الثورة في فجر النهضة الوطنية وقذف نفسه في أتونها المستعر وعانى الأهوال في السجون والمعاقل.

واتجه صوب الجامعة المصرية القديمة فوجد فيها أفقا أرحب ومرودا أعذب , فجال فيها ونهل. وبعزيمة الفلاح وقدرته على التقشف رحل إلى طلب العلم في باريس، فقد كان يعيش هناك على النذر اليسير الذي يظفر به أجرا لمقالاته في بعض الصحف المصرية. ثم عاد إلى مصر بعد أن حصل على درجة (الدكتوراه) فتلقفته الجامعة وضمته إلى أحضانها، فاشتغل بالتدريس فيها ردحا من الزمن. على أنه كان متشعب الجهود يعمل في كثير من النواحي ويتنقل بين التدريس والصحافة والتأليف أو يجمع بينهما جميعا.

كان زكي مبارك واضح الشخصية متميز السمات في حياتنا الأدبية، كان فياضا في ثقافته وفي كتابته، حرا في إبداء رأيه، عنيفا في معاركه، وكان لا ينتظر حتى يثني عليه غيره، فيتطوع هو بالثناء على نفسه، ولعله كان يذهب هذا المذهب لاعتقاده الجحود في الناس فيعوض بنفسه ما ينقصه منهم. وكان يلطف عنفه ويسوغ استعلاءه روح خفيف ودعابة مستملحة.

كان زكي مبارك - من غير شك - علما من أعلام الأدب في عصرنا هذا، وقد أكسب الحياة الأدبية أضعاف ما كسب هو إن كان قد كسب شيئا. . وقد قضى بعد أن ترك للأدب ثروة كبيرة من مؤلفاته ومن آثاره في عقول تلاميذه وقرائه. وقد كان كثير الترديد لكلمة (الخلود) فيما يكتب، فإن كان فاته ما أدركه سواه من عرض الدنيا فقد نال ما تغنى به حياته من الخلود.

لغة المجتمع

ألقى الأستاذ محمود تيمور بك محاضرة موضوعها (لغة المجتمع) في الدورة الحالية لمؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية، تحدث فيها عن النزاع بين طوائف من اللغويين وجماعات من الكتاب والباحثين حول الألفاظ والعبارات من حيث وقوف الأولين بالقياس عند الحدود التي رسمها أئمة اللغة في العصور الأولى وبالسماع عند العهد الذي اختلط فيه العرب الخلص بغيرهم من الأمم، واتجاه الآخرين إلى الخروج عن هذا الجمود الذي يسلم اللغة إلى موت محتوم.

وقد فند الأستاذ تيمور بك ما يتمسك به اللغويون المحافظون فقال إن اللغة ظاهرة من ظواهر الحياة وقانون من قوانين المجتمع، وهذه الظواهر والقوانين تتبدل وتتطور وفقا لما تقتضي به ضرورات الاجتماع. والصواب في اللغة مناطه الشيوع، فمتى ساغت الكلمة في الأفواه فقد ظفرت بحجتها في الاعتداد بها وأصبح لها في الحياة حق معلوم، وإن غلبة اللفظ في الاستعمال أسطع برهان على صلاحيته وأقوم دليل على صدق الحاجة إليه، بل إن غلبة استعمال اللفظ وثيقة تثبت أنه خلية حية في بنية اللغة خليقة بالتقدير والاعتبار.

ثم عرض للمثل القائل (خطأ مشهور خير من صواب مهجور) فقال: ما أصدق انطباقه على اللغة لولا أنه يسمي المشهور خطأ ويسمي المهجور صوابا، فهذه التسمية لا تصح إلا من باب التجوز والتسمح، فليت شعري - أي خطأ في لفظ شهر، وأي صواب في لفظ هجر؟ سواء على القارئ أو السامع أن تروعه بلفظ عربي نافر لا يجد له في نفسه مدلوله الذي نبغيه منه وأن نفجأه بلفظ أجنبي مغلق ليس بعربي الأصل، فاللفظان عنده سواء في الإبهام.

ولكن على من نعول في توثيق الجديد من الألفاظ؟ يجيب الأستاذ عن هذا قائلا: لسنا بمستطيعين أن نعول في ذلك على جمهورنا الأمي العام خشية أن تذوب الفصحى في محيط اللهجات العامية التي لا ضابط لها ولا نظام , ولكنا نستطيع أن نعول كل التعويل على الجمهور المثقف الخاص الذي تعلم الفصحى وأشرب ذوقها، فهذا الجمهور الضارب في كل علم وفن هو مرآة اللغة المجلوة وقوامها الركين، والويل للغة إن بقيت وقفا على علماء اللغة وفقهائها الذين لا يبيحون لها السير مع الزمن والتجدد مع الأيام. على أن ذلك الجمهور المثقف يتجلى في هذا الفترة من حياة مجتمعنا الحاضر معتزا بالعربية جانحا إلى الإفصاح، مما يدل على أن هنالك وعيا لغويا قويا يجري تياره بين المثقفين جميعا ويبدو أثره في المرافق الاجتماعية على وجه عام.

ثم قال الأستاذ المحاضر: إن أهل صناعة الكتابة هم الذين يحملون القسط الأوفر من أعباء التخالف بين لغة الجمهور العام ولغة الجمهور الخاص ومن أثقال التنازع بين الأصيل والدخيل من الكلام، فالكتابة هي فن الأدب، والأدب هو أرفع مقامات التعبير في اللغة، وهو المعرض الجميل لنقاء الألفاظ وجودة الأسلوب. والكاتب إذا عرضت المسميات التي لا يجد لها فصيحا شائعا من الأسماء استشعر الحرج والضيق وتعذر على قلمه أن يجري الكلمات العامية أو الدخيلة في تضاعيف بيانه. وبعد أن أشار إلى الصعوبات التي يلاقيها الكاتب من جراء غلبة الألفاظ الأجنبية والعامية على الشؤون العامة وحيرته بين هذه الألفاظ وبين ما تيسر له من الكلمات العربية المهجورة - وقال: لكن الكاتب على أية حال مضطر أن يصف ما في البيت وما في السوق وأن يتناول ما يدور من أسباب العيش، فهو يبذل جهده ويعالج أمره، حينا يصطنع الكلمة الفصيحة على حذر، وآنا يقبل من الكلمات العامية ما ليس منه بد، وساعة يتخذ له اصطلاحا يرشحه للاستعمال.

ثم عرض لما صنعه المجمع في ذلك من أوضاع وما وضعه من أسماء عربية لمسميات في الشؤون العامة وما قوبلت به من سخرية الأقوام والأقلام قائلا بأن مهمة المجمع تقتضيه أن يمضي في طريقه، والحكم الأول والأخير في ذلك هو الجمهور المثقف فما يرتضيه يكتب له الشيوع والبقاء وما لا يستسيغه يسحب عليه ذيل العفاء.

عباس خضر