مجلة الرسالة/العدد 961/موقف الفكر العربي من الحضارة العربية
مجلة الرسالة/العدد 961/موقف الفكر العربي من الحضارة العربية
لحضرة صاحب العزة الدكتور أحمد زكي بك
الفكر العربي والديمقراطية:
(تابع)
ثم إلى الديمقراطية، تلك الصفة الثانية من صفات هذه المدنية.
ونحن نعني بالديمقراطية هنا معناها الحرفي يدل عليه لفظها، وتدل اشتقاقاته، ذلك حكم الشعب بالشعب. إنها الديمقراطية السياسية.
إن العصور الغابرة لم تعرف الديمقراطية إلا حكمة في القول عابرة، وإلا نصيحة يأخذ بها من يأخذ ويدع من يدع، وإلا حثا للحكام على الشورى لم يبلغ حد الفرض، ولم يكن له أثر يطول.
ولقد عدوا أثينية البلد الديمقراطي الأول الذي عرفه التاريخ، وكانت أثينية مع هذا مدينة من مدائن الإغريق أكثر أهلها العبيد. كانت ديمقراطيتهم ديمقراطية للقلة فيها من الأحرار. وكانت ديمقراطية محدودة مشروطة. وهي ديمقراطية ضاقت بالذي قال سقراط، بالذي صرح به من آراء، فقضت عليه بالموت. وهي الديمقراطية التي قام فيها فيلسوفها الثاني أفلاطون يقول في جمهوريته بحصر الحكم في فئة من خيار الناس، هي وحدها الصالحة، وهي وحدها المسئولة، وسائر الناس لها تبع.
وجاء من بعد الإغريق الرومان فما عرفوا الديمقراطية في الحكم. كانت الديمقراطية بينهم اسما في عهود الجمهورية، ثم زال حتى اسمها في عهود الأباطرة. ولقد جهد الرواقيون الرومان في إبراز معنى المساواة بين الناس. سنكا وأضراب لهؤلاء. ولكن لم يكن لهذه الفئة من الخطباء والكتاب من أثر في أسلوب الحكم، إنما كان أثرها في القانون من حيث تخفيفه وترقيقه لا سيما على العبيد الأرقاء.
وجاءت المسيحية فحاولت ما حاولته الأديان من قبل ومن بعد، أن تجعل الناس سواسية. وحاولت أن ترفع حظ الفقير، وأن تجعل الثراء أمانة في عنق صاحبه يرعى فيه، وبه، صوالح الناس. ولكن لم تلبث المسيحية أن صارت دين الرومان، ولم تلبث الكنيسة أ صار لها وجود ذاتي، وصار لها استقلال وقوة، وصار لها ثروة، وصار حكم، وصاحب الحكم لا يزال عن حكمه طوعا ليقسمه بين الناس.
وجاء الإسلام فقال بالذي قالت به الأديان وزاد. وجعل الحكم شورى. والرق جعله كفارة لشتى الخطايا، تفريجا له وتكريها فيه. وقال سلمان منا آل البيت. وقال: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وجعل للفقير حظا في مال الغني. وفعل وفعل. . . ولكن لم يلبث الإسلام أن صار ملكا عضوضا، ولم يلبث الخلفاء أن صاروا حكاما مطلقين، يصلح منهم من يصلح، ويفسد منهم من يفسد، والناس تتلقف الخير وتتلقف الشر جزافا كما يأتي به الزمان.
وجرى الحال على هذا المثال في الأمم قرونا، لم يطمئن الناس فيها على ما في جيوبهم من مال، ولا على ما فوق أكتافهم من رؤوس حتى جاء القرن السادس عشر، وبدأت بوادر الديمقراطية بين أمم الأرض في أوربا. وبدأت بانشقاق الكنيسة على نفسها. ودافع المنشقون عن عقائدهم. والنقلة من الدفاع عن الحقوق الدينية إلى الدفاع عن الحقوق الدينية نقلة يسيرة. وجاء القرن السابع عشر فهب الإنجليز يوطدون دعائم السلطة في الشعب بالدفاع عن برلمانهم. فكانت الثورة. وكان أن طاحت الرأس الذي دار به خمر السلطان المطلق فأساءت حكما.
وجاء القرن الثامن عشر فقامت الثورة الفرنسية، مهد لها الكتاب الذين أسموهم بالفلاسفة، روسو.
وقبل الثورة الفرنسية بأعوام وقعت حرب استقلال أمريكا، وباستقلالها توطد الحكم الديمقراطي فيها.
وأنفسح المجال أمام الشعوب بعد ذلك لأن يتخذوا الديمقراطية عقيدة، وأن يتخذوها أسلوب حكم. وتعددت الأساليب إلى يومنا هذا، والغاية واحدة.
والفكر العربي يقف من الديمقراطية، من حكم الشعب بالشعب، موقف المناصر الشديد المناصرة. وهو يشتد في مناصرته لها بمقدار ما أعوزه منها وهو يناصرها ويعلم أنها لم تبلغ الغاية مما آمل الناس منها، ولكنه يناصر لأنها إلى اليوم خير ما ابتدع الإنسان من أسلوب. والفكر العربي يناصرها وهو يعلم أن حكم الشعب يقابله حكم الشعب بالشعب وهو جاهل، وخيم العواقب؛ ولكنه يناصر لأن حكم الطغاة، وهو أوخم عاقبة، وهو أعون على دوام الجهل ودوام العجز، ودوام الفقر ودوام الذل والمسكنة، وكثيرا ما يسول لي الشيطان أن أرى أن الطغاة يأتي منا وإلينا؛ أرحم منه الطغيان الذي يأتي من الأعاجم، لأنه مع طغيان الأعجمي في هذا العصر الذي قد يأتي العلم، وقد تأتي الحضارة، وقد تأتي نسائم للحرية لا تهب والأبواب مغلقة: والأجنبي الطاغية قد يكون أسهل إقالة، وأنت أجدر معه، إن قلت لهم، أن تستجيب لك القلوب، أو تستجيب الحناجر، وإن كنت حسن الظن فقد تستجيب السواعد.
العلم والديمقراطية:
فهذا هو العلم وهذه هي الديمقراطية، أظهر صفات هذه المدنية الحاضرة، وأضخم صفاتها. وقد جاءا الإنسانية معا. متواقتين كأنما كانا على ميعاد.
وإلى جانب هاتين الصفتين صفات أخرى، اتصفت بها المدنية الغربية، بعضها تقدم العلم في الزمن، وتقدم الديمقراطية، فكان من خوالقها. وبعضها تأخر في الزمن عن العلم وعن الديمقراطية، فكان من مخلوقاتها. وبعضها امتزج بها فلا تدري أهو خالق أم مخلوق وسأصيب من ذلك طرفا.
المدنية وحرية الفكر:
وأول هذه حرية الفكر، وهي صفة من صفات المدنية الحاضرة أصيلة. بدونها لا يكون علم ممكنا، وبدونها لا يكون حكم الشعب بالشعب ممكنا، وعلى بداهة هذا فقد ضاق بالحرية صدر الزمان. والعرب يستطيعون أن يفخروا بأنه جاءت عليهم حقبة من الدهر كانوا فيها من أكثر أهل الأرض رحابة صدر.
لقد كان من أسبق صنوف الحجر على حرية الرأي في الذي نعرف من التاريخ، الجحر على الرأي الديني المخالف أن يشيع. والعرب اختلف في أحكام دينها الغالب، وجعلته مذاهب استقرت على أربعة، يستحكم بينها الخلاف أحيانا إلى حد التناقض، ومع هذا تجمع بين أهل هذه المذاهب الصلاة وتجمعهم سائر الشعائر، ولا يخطر على بال أحد أنه ومن على يساره أو على يمينه مختلفان. واتسعت صدور الشرق لمثل هذا القرون التي ضاقت فيها صدور الغرب، فكان الاضطهاد من أجل الرأي في الدين، وكان الطرد من الكنيسة، وكانت محاكم التفتيش، وذلك في دين عيسى الذي إن أخذ عليه شيء في هذا الصدد فهو الزيادة في الرحابة، ومقابلة العداوة بالصداقة، والكراهية بالحب، والإساءة الزائدة بالإحسان الزائد.
ومع هذا فقد أساء العرب إلى حرية الفكر إساءة لا تغتفر أبدا، ذلك أنهم أغلقوا باب الاجتهاد في الدين، ليفرضوا رأى قرن على سائر القرون. فحجروا بذلك على العقول، وحجروا عليها لما كسبت على الزمان الرجحان، واتسع أفقها بالعلم، واجتمع عندها الكثير من الخبرة ومحاصيل الأجيال.
على أن الحرية الدينية أصبحت في أغلب أمم الأرض اليوم عادة تكاد أن تكون شائعة. وما كان ذلك عن رحابة، ولكن عن قلة خطر الأديان عند من بيدهم سلطان الحظر والإباحة. وقام مقام الحجر على الحرية الدينية الحجر على الحرية السياسية. وأخيرا جاء الحجر على الحرية الاقتصادية، فهي اليوم أشد أنواع الحريات كراهة إلى ذوى الحكومة والسلطان. ولقد تميز العصر الحديث بقيام دكتاتوريات من صنوف وأنواع، كان أول شيء خشيته فأهدرته، حرية الرأى، يجهر بها الفرد أو تجهر بها الصحافة، وهي اللسان الذي إذا استمعت له ألوف الألوف من الآذان.
والرأي العربي يقف من حرية الرأي موقف المظلوم الذي كلما قيل له الخير في السكوت. ومن أمم العرب اليوم، أمم لا يستطيع بها الرجل المواطن أن يقول إلا همسا. ومنها أمم أكثر مجالا في القول، ولكن بها السياسة احرص ما يكونون على حرية القول وهم في معارضة، فإذا ولوا الحكم فتلوا الحبل الذي يلتف على أعناقهم عندما يعودون فيعارضون.
إن حرية الرأي والجهر به، كسائر الحريات، لابد لها من تحديد وتنظيم، وإلا كان منها الجور من الفرد على الفرد. ولكن الجهر بالرأي فيما يمس حقوق الناس حق من حقوق الشعب لا مماراة فيه ولا مهادنة. وبهذا يأخذ الفكر العربي، فيعطى أكبر مجال، ولا يقف بها إلا حيث يختل الأمن وتهدر الأرواح.
المدنية والمساواة.
إن المعاني الإنسانية، مثل الناس، بينها أواصر وأرحام، والمعاني التي تتصل بالتحرير يولد بعضها بعضا، ويأخذ بعضها عند الذكر برقاب بعض. وكذلك المعاني التي تتصل بتقييد الحرية ونفي الإرادات الإنسانية، يولد بعضها بعضا، ويأخذ بعضها برقاب بعض.
والمساواة معنى نشأ مع الزمرة الصالحة من المعاني. فنشأ مع الديمقراطية، ونشأ مع الحرية الفكرية، إذا ما كان يعقل أن يكون حكم الشعب بالشعب ممكنا إلا أن تكون مساواة في الحقوق السياسية. وما كانت حرية الفكر ممكنة إلا أن تكون مساواة في الحرية الفكرية، ومن هذين هدفت فكرة المساواة بين الناس إلى كل شيء من شؤون الحياة.
وإذا نحن نظرنا إلى الوراء البعيد والوراء القريب، وجدنا أمما قام مجتمعها على الطبقات، أعاليها الأشراف، وأسا فلها الأنجاس أو أشباه الأنجاس، وأمما أخرى كانت المساواة فيها مساواة عند الله لا عند الناس، وأمما أخرى كانت المساواة فيها أملا تحقق أقله وأهدر أكثره، ثم ذهبت الأيام بالبقية الباقية منه. والمدنية الحاضرة لها معان في المساواة جميلة؛ إلا أنها لا تزيد جمالا على معاني القدماء، ولا عن معاني جليلة جاءت بها الأديان. ولكن الفرق واسع بين المعنى الجميل يسكن صدرك، والمعنى الجميل تجعل منه أسلوبا قائما من أساليب العيش.
وفضل المدنية الحاضرة على أكثر المدنيات الغابرة أنها فصلت ما كان قد أجمل، وأنها خلقت وابتكرت لتنفيذ معنى المساواة أساليب. وسأفصل بإيجاز هذا. ولكن لا ضرر من أن أسبق فأقول، إن المدنية الحاضرة لم تبلغ في المساواة بين الناس الغاية، ولا اقتربت منها، ولكن خطت إليها الكثير الواسع من الخطوات ,
المساواة أمام القانون.
وأول المساواة المساواة أمام القانون. وهي لا يمكن أن تكون في أمة والحكم فيها مطلق. ذلك أن الحكم المطلق يقوم به رجل له بطانة تسنده. والبطانة لها ثمن، والسند له ثمن. وهي بطانة وهو سند أكثر ما يكون للشيطان، فهو أفدح ثمنا. والقانون الذي يثغر مرة بثغر مرارا، ثم يكون كالثوب الذي تهلهل حتى ما تنفع فيه الرقع. والشعوب عانت في دفاعها عن القانون من نفوذ ذوي الإمرة وذوي المال عناءً كبيراً. وقد قضت المدنية، حيث توجد مزدهرة، على نفوذ ذوي الإمرة يقف رجل البوليس السيارة في الطريق وقد اندفعت بما لا يريد لها القانون من سرعة فيقضي، بغرامة صاحبها. فيحتج هذا بمكانة له أو جاه، فيبستم البوليس الصغير الفقير، وترتفع الغرامة ضعفاً أو أضعافاً. ولم يستطيع القانون بعد أن يقضي على نفوذ المال. ومن بعض أسباب ذلك إن استصراخ القانون نفسه يحتاج إلى المال.
والمساواة في العدالة تحتاج مع القانون إلى رجال ينفذونه وينقذونه. وهؤلاء أعز مطلباً. من أجل هذا كان الدفاع عن استقلال القضاة بضروب الحمايات، وكان الحق في رد القاضي إذا اتصلت به ريبة، وكان نظام المحلين زعما بأن الكثرة أعسر أن يتطرق إليها الفساد.
وما أحوج أمم الشرق إلى بعض ما وصلت إليه أمم الغرب من مساواة أمام القانون!
البقية في العدد القادم
أحمد زكي