مجلة الرسالة/العدد 961/أمريكا التي رأيت:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 961/أمريكا التي رأيت:

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 12 - 1951


في ميزان القيم الإنسانية

للأستاذ سيد قطب

- 3 -

الأمريكي بدائي في ذوقه الفني، سواء في ذلك تذوقه للفن، أو أعماله الفنية.

موسيقى (الجاز) هي موسيقاه المختارة. وهي تلك الموسيقى التي أبتدعها الزنوج لإرضاء ميولهم البدائية، ورغبتهم في الضجيج من ناحية، ولاستثارة النوازع الحيوية من ناحية أخرى. ولا تتم نشوة الأمريكي تمامها بموسيقى (الجاز) حتى يصاحبها غناء مثلها صارخ غليظ. وكلما علا ضجيج الآلات والأصوات، وطن في الآذان إلى درجة لا تطاق. . زاد هياج الجمهور، وعلت أصوات الاستحسان، وارتفعت الأكف بالتصفيق الحاد المتواصل، الذي يكاد يصم الآذان.

ولكن الجمهور الأمريكي مع هذا يقبل على الأوبرا، ويصغي إلى السيمفونيات، ويتزاحم على (البالية) ويشاهد الروايات التمثيلية (الكلاسيك) حتى لا تكاد تجد مقعداً خالياً، ويقع في بعض الأحيان ألا تجد مكاناً إذا أنت لم تحجز مقعدك قبلها بأيام، على غلاء الأسعار في هذه الحفلات.

ولقد خدعتني هذه الظاهرة في أول الأمر، بل لقد فرحت بها في داخل نفسي، فقد كنت دائم الشعور (باستخسار) هذا الشعب الذي يصنع المعجزات في عالم الصناعة والعلم والبحث، ألا يكون له رصيد من القيم الإنسانية الأخرى، وأنا شديد الإشفاق على الإنسانية أن تؤول قيادتها إلى هذا الشعب، وهو فقير من تلك القيم جميعا.

فرحت إذن حين شاهدت هذه الظاهرة، لأن الجمهور الذي يقبل على الفن الراقي غير ميئوس منه مهما تكن عيوبه، ومتى فتحت هذه النافذة في شعوره فالأمل كبير أن تطل منها أشعة أخرى كثيرة

وقد دفعني الاهتمام بهذه الظاهرة إلى أن أتقصى كل شيء عنها، في أوساط مختلفة، وفي مدن متعددة، ولكن تتبعي لسمات الوجوه، ومحادثاتي مع الكثيرين والكثيرات من رواد هذه الأماكن - من أعرف ومن لا أعرف قد كشفت لي - مع الأسف - عن أن الشقة ما تزال بعيدة بين روح هذا الفن الإنساني وروح الأمريكان. إن مشاعرهم عنها محجبة إلا في النادر، وإنهم إنما ينظرون إلى المسألة من زاوية اجتماعية بحتة. فالأمريكي المثقف لابد أن يكون شهد هذه الألوان وذهب إلى تلك الأماكن، حتى إذا دار الحديث عنها في مجتمع شارك في الحديث. فالعيب الأكبر في أمريكا ألا يشارك الإنسان في الحديث، وبخاصة بالنسبة إلى الفتيات، إذ المطلوب منهن أن يجدن دائما موضوعات جديدة إلى الموضوعات الأمريكية الخالدة وهى: مسابقات الكرة. وأسماء الأفلام. والممثلين والممثلات. وحوادث الطلاق والزواج. وماركات وأسعار السيارات.

وبهذه الروح ذاتها تفد الجموع على المتاحف الفنية، عابرة عبورا خاطفا بالقاعات وبالمعروضات، بطريقة لا تدل على تذوق أو ألفة لهذه الأعمال. كما يذهبون أفرادا وجماعات لمشاهدة مناظر الطبيعة خطفا، والمرور بأقصى سرعة السيارات بالأماكن والمناظر لجمع مادة للحديث، ولتلبية الميل الأمريكي الطبيعي إلى الجمع والإحصاء.

ولقد كنت أسمع في مبدأ وجودي بأمريكا أن أحدهم زار كذا وكذا من المدن والبلاد والمناظر والمشاهد، وقطع كذا ميلا في رحلاته السياحية، وهو يعرف كذا عددا من الأصدقاء، فأعجب بهذه المقدرة على صنع هذا كله، وأود لو أستطيع منه شيئا! ثم عرفت فيما بعد كيف تتم هذه المعجزات. . . يركب أحدهم سيارته وحده أو مع أسرته أو أصحابه في رحلة، فيعدو بها عدوا على آخر سرعتها، مخترقا بها المدن والمسافات، عابرا بالمناظر والمشاهد، وهو يقيد في مذكرته الأسماء والأميال. . ثم يعود فإذا هو شهد هذا كله وأصبح له الحق في الحديث عنه! أما الأصدقاء فيكفي أن يدعي إلى حفلات التعارف، وهناك يلتقي بالوجوه أول مرة، والقائم بالدعوة يعرفه بالحاضرين واحدا واحدا وواحدة وواحدة، وهو يستكتب من شاء منهم اسمه وعنوانه وكذلك هم يفعلون معه. وعلى الزمن تتضخم مذكرته بالأسماء والعنوانات. فإذا هو صاحب أكبر رقم من الأصدقاء والصديقات. وقد يفوز في مسابقة تقام لهذا الغرض. وما أكثر وما أغرب المسابقات هناك!

وهكذا يقاس علمك وثقافتك أحيانا بقدر ما قرأت وما شهدت وما سمعت. كما تحسب ثروتك المادية بعدد ومقدار ما تملك من مال وعقار سواء بسواء! وليست هذه عقلية الجماهير وحدها، ولكنها كثيرا ما تكون عقلية المفكرين والباحثين. فلقد خطر للمفكرين في أمريكا أنه لا يصح أن تكون دولتهم أغنى دول العالم، وشعبهم أكثر شعوب الأرض حضارة صناعية، وحضارة علمية، ثم لا يكون لهم من الثروة الفنية مثل ما لبعض الشعوب الفقيرة كالطليان والألمان.

ولديهم المال - والمال يصنع المعجزات - وإن هي إلا سنوات حتى كان لهم من متاحف الرسم والنحت أفخمها وأضخمها. وجمعت لها القطع الفنية من كل فج، وعمرت بالنادر والثمين من هذه القطع، التي لم يبخلوا على شرائها بالمال. وكلها قطع أجنبية إلا القليل؛ لأن القطع الأمريكية بدائية وساذجة إلى حد مضحك بجوار تلك الذخائر العالمية الرائعة.

وكذلك كان لهم من الفرق الموسيقية العازفة وفرق (الباليه) الراقصة، أكثرها مهارة وإتقانا، ومن مديري هذه الفرق أعظمهم عبقرية وإبداعا. . وكلهم من الأجانب إلا القليل.

ثم خرجت الإحصاءات الدقيقة تعلن عما تملك أمريكا من الثروات الفنية الضخمة، المشتراة بالمال، ولكن بقى أمر واحد بسيط: أن يكون للنفس الأمريكية نصيب في هذه الثروات؟ بل أن يكون لها مجرد التذوق الفني لهذا التراث الإنساني الثمين!

وخطر لي أن أمتحن هذه الأرقام في متاحف الفن، كما أمتحنها في دور الأوبرا وما إليها.

ذهبت للمرة العاشرة إلى متحف الفن في سان فرنسكو وجعلت مادة امتحاني إحدى قاعات الصور من الفن الفرنسي، ووزعت اهتمامي على ما فيها من الصور، ولكنني ركزته على صورة واحدة بارعة اسمها: (ثعلب في بيت دجاج) ولا تملك الألفاظ أن تنقل إلى القارئ روعة هذه الصورة العبقرية التي صور فيها الرسام جملة مشاعر عميقة مركبة في لوحة ليس فيها وجه إنسان يسهل على الرسام أن يصور هذه المشاعر فيه. . ثعلب في بيت الدجاج، والجو داكن خانق وقد هجم الثعلب أول ما هجم على دجاجة أم مفرخة، بدت مكروبة مجهدة، في مخالب الوحش المكشر؛ وقد فزع صغارها، وتناثر البيض الباقي تحتها؛ على حين تناثرت زميلاتها في فراغ اللوحة، ووقف الديك - رجل البيت - وقفة المغلوب على أمره، الحائر الذي لا يجد مخلصا لزوجه المكروبة وهو حاميها! أما الأخريات فواحدة جازعة مأخوذة، وأخرى قانطة مشمئزة أن يكون في الحياة كل هذه الشناعة، وثالثة حائرة متسائلة: كيف وقع هذا؟ والجو كله والألوان في اللوحة العبقرية تصور ما لا تدركه الألفاظ.

واسترحت إلى مقعد من المقاعد التي جهزت بها القاعات تجهيزا جميلا بديعا، ليستريح عليها الزائرون عند التعب من المشاهدة والطواف، ورحت أستعرض الملامح والسمات، وأنصت إلى الملاحظات والتعليقات.

وانقضت على في جلستي أربع ساعات كاملة، مربى في خلالها مائة وتسعة، فرادى وأزواجا وجماعات، معظمهم من الفتيات والفتيان الذين يتواعدون على قضاء بعض الوقت في حديقة المتحف، ثم في المتحف ذاته، لأنه ينبغي للفتاة الاجتماعية أن تشارك في الحديث، وأن تجد موضوعات للحديث.

كم من هؤلاء التسعة والمائة بدا عليه أن يحس شيئاً مما يرى؟ واحد فقط تلبث أمام الصورة المنتقاة نحو دقيقتين، وتلبث في القاعة كلها نحو خمس دقائق. . ثم طار.

وكررت التجربة في قاعات المتحف الأخرى، ثم كررته في متاحف أخرى في عدة مدن، ثم انتهيت إلى أن قلة نادرة من هذه الكثرة الكثيرة التي تتضمنها إحصاءات الزائرين تدرك شيئاً من هذه الثروة الفنية الهائلة، التي جمعها الدولار من كل بقاع الأرض، وبقي أن يخلق الحاسة الفنية، التي يبدو أنها لا تستجيب لسحر الدولار!

الفن الوحيد الذي يتقنه الأمريكان - وإن يكن سواهم لا يزال يفوقهم في الناحية الفنية فيه - هو فن السينما. وهذا طبيعي ومنطقي مع تلك الظاهرة التي ينفرد بها الأمريكي: ذروة الإتقان الصناعي، وبدائية الشعور الفني. وفي السينما تبدو هذه الظاهرة واضحة إلى حد كبير.

لا يرتفع الفن السينمائي بطبيعته إلى آفاق الفنون العليا: الموسيقى والرسم والنحت والشعر، ولا إلى فن المسرح كذلك، وإن كانت إمكانيات الصناعة الفنية وإمكانيات الإخراج في السينما أوسع بكثير. وأقصى ما يصل إليه فن الإخراج في السينما من إبداع. هو أقصى ما يبلغه فن التصوير الشمسي. ثم تظل المسافة بينه وبين المسرح مثلاً، كالمسافة بين التصوير الفوتوغرافي والتصوير بالريشة. هذا تتجلى فيه عبقرية الشعور، وذلك تتجلى فيه مهارة الصناعة.

والسينما فن الجماهير الشعبي، فهو فن المهارة والإتقان والتجسيم والتقريب، وهو بطبيعة اعتماده على المهارة أكثر من اعتماده على الروح الفنية. . يمكن أن تبدع فيه العبقرية الأمريكية. . ومع هذا فما يزال الفلم الإنجليزي والفرنسي والروسي والإيطالي أرقى من الفلم الأمريكي، وإن كان أقل صناعة ومهارة.

والكثرة الغالبة من الأفلام الأمريكية تتجلى فيها بدائية الموضوع، وبدائية الانفعالات، وهي في الغالب أفلام الجريمة البوليسية، وأفلام رعاة البقر. أما الأفلام العالية البارعة من أمثال: (ذهب مع الريح) و (مرتفعات وذرنج) و (ترتيل برنادوت) وما إليها فهي قليلة بالقياس إلى النتاج الأمريكي. وما يرد من الفيلم الأمريكي إلى مصر أو البلاد العربية لا يمثل هذه النسبة، لأن الكثير منه من أرقى الأفلام الأمريكية النادرة. والذين يزورون دور العرض في أمريكا هم الذين يدركون تلك النسبة الضئيلة من الأفلام القيمة.

هنالك فن آخر برع فيه الأمريكان، لأن ما فيه من المهارة في الصناعة والإنتاج، أكثر مما فيه من الفن العالي الأصيل. . ذلك هو فن تمثيل المناظر الطبيعية بالألوان، كأنها فوتوغرافية صادقة دقيقة. ويبدو هذا في متاحف الأحياء المائية والبرية، إذ تعرض هذه الأحياء أو أجسادها المحنطة في مثل مواطنها الطبيعية كأنها حقيقية، وتبرع ريشة الرسام، في تصوير هذه المواطن، مشتركة مع التصميم الفني للمنظر، وتبلغ حد الإبداع

ثم ندع تلك الآفاق العليا في الفن والشعور، لنهبط إلى ألوان الملابس وإلى مذاق الأطعمة.

إن بدائية الذوق لا تتجلى في شيء كما تتجلى في تلك الألوان الصارخة الزاهية، وفي تلك التقاسيم المبرقشة الكبيرة وبخاصة ملابس الرجال. . . ذلك السبع أو النمر الواثب على صدر الصدرية. . وذلك الفيل أو الثور الوحشي الجاثم على ظهورها. تلك الفتاة العارية الممددة على رباط العنق من أعلى إلى أسفل، أو تلك النخلة الصاعدة فيه من أسفل إلى أعلى. . .

لطالما تحدث المتحدثون عندنا عن (فستان العيد) في الريف، أو عن ثوب العروس في القرية، بألوان الزاعقة البدائية، التي لا تربط بينها رابطة، إلا أنها كلها فاقعة الألوان. . ليت هؤلاء يرون معي أقمصة الشبان في أمريكا لا ملابس الفتيات!

ولطالما تحدث المتحدثون عن (الوشم) عند الغجر، أو في أواسط أفريقية، ليتهم يرون الشبان الأمريكان وصدورهم وظهورهم، موشمة بالوشم الأخضر: ثعابين وحيات، وفتيات عاريات، وأشجار وغابات! في أمريكا المتحضرة. في الدنيا الجديدة. في العالم العجيب!

أما الطعوم فشأنها هو الآخر عجيب.

إنك تلفت النظر، وتثير الدهشة، حين تطلب قطعة أخرى من السكر لكوب الشاي أو القهوة تشربه في أمريكا. ذلك أن السكر محتفظ به للمخلل (والسلاطة)! كما أن الملح يا سيدي محتفظ به للتفاح والبطيخ!

وفي صفحة طعامك تجتمع قطعة اللحم المملحة، إلى كمية من الذرة المسلوقة، وكمية من البازلاء المسكرة وبعض المربى الحلوة. . وفوق ذلك كله المؤلف أحيانا من السمن والخل والدقيق ومرقة العجل والتفاح، والملح والفلفل والسكر. . والماء!

كنا على المائدة في مطعم ملحق بالجامعة حينما رأيت بعض الأمريكان يضعون الملح على البطيخ، وكنت قد اعتدت رؤية هذه (التقاليع) واعتدت كذلك أن أتفكه عليهم في بعض الأحيان. وقلت متجاهلا: أراكم ترشون الملح على البطيخ؟ قال أحدهم: أجل! ألا تصنعون ذلك في مصر؟ قلت: كلا! إنما نحن نرش الفلفل! قالت واحدة في دهشة واستفسار: أو يكون مستساغا؟ قلت: يمكنك أن تجربي! وجربت، وذاقت. وقالت في استحسان: كم هو لذيذ! وكذلك فعل الآخرون.

وفي يوم آخر جاء فيه البطيخ، ومعظم من يأكلون على المائدة هم، قلت: وبعضنا في مصر يستخدم السكر أحيانا لا الفلفل. وبدا أحدهم ففعل وقال: كم هو لذيذ! وكذلك الآخرون!

وباختصار فكل ما يحتاج إلى قسط من الذوق فالأمريكاني ليس فيه حتى الحلاقة! وما من مرة حلقت شعري هناك إلا وعدت إلى البيت لأسوى بيدي ما شعث الحلاق، وأصلح ما أفسده بذوقه الغليظ!

إن لأمريكا دورها الرئيسي في هذا العالم، في مجال العلم التطبيقي، وفي مجال البحوث العلمية، وفي مجال التنظيم والتحسين، والإنتاج والإدارة. . كل ما يحتاج إلى روح وشعور فهنا تبدو البدائية الساذجة.

وإن البشرية لتملك أن تنتفع بالعبقرية الأمريكية في مجالها فتضيف قوة ضخمة إلى قواها. ولكن هذه البشرية تخطئ أشنع الخطأ، وتعرض رصيدها من القيم الإنسانية للضياع، إذا هي جعلت المثل الأمريكية مثلها في الشعور والسلوك. .

إن ذلك لا يعني أن الأمريكان شعب بلا فضائل، وإلا لما أمكنه أن يعيش، ولكنه يعني أن فضائله هي فضائل الإنتاج والنظام، لا فضائل القيادة الإنسانية والاجتماعية؛ فضائل الذهن واليد، لا فضائل الذوق والشعور.

سيد قطب