مجلة الرسالة/العدد 960/4. على ضفاف القناة:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 960/4. على ضفاف القناة:

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 11 - 1951



وجوه كالحة

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

مساكين أبناء مدن القناة الثلاث - بور سعيد والإسماعيلية والسويس - وبخاصة أبناء مدينة الإسماعيلية. . التي كتب الله على أبنائها أن يتجرعوا الغصص أليمة حادة، ذلك لأنهم يرون دائما وجوه أعدائهم الألداء، هذه الوجوه الكاحلة، التي سئم كل مصري النظر إليها، وضقنا بها وبأبنائها ذرعا، وكدنا نيأس حكومة وشعبا من معرفة طريق الخلاص والقضاء على هؤلاء الاستعماريين (الكلاب) - كما يدعوهم آية الله كاشاني - وأدركنا إلى أي حد يجحد هؤلاء الغاصبون حقوقنا، ويعبثون بمصالحنا وآمالنا، ويسخرون بأمانينا الوطنية التي يجب أن نبذل في سبيل تحقيقها، والحصول عليها، كل مرتخص وغال، فأينما سرت في هذه المدينة البائسة لا تجد غير هؤلاء الإنجليز، يروحون ويجيئون في كل وقت من الأوقات ليلا ونهارا، يتسكعون هنا وهناك في برود وصفاقة، وكأنهم يسيرون في أوطانهم، ويجوبون رحابها آمنين مطمئنين، هادئين وادعين. كأنه ليس بيننا وبينهم عداء مستحكم الحلقات، ولا قضية مطروحة في المحافل الدولية إلى الآن؟ ولست أدري لماذا يأمن الإنجليز جانب المصريين إلى هذا الحد العجيب، فنراهم يعيشون في أحيائهم الإفرنجية بالمدينة، ويشاركون المصريين في الأحياء الوطنية، ويسيرون بين المصريين كأنهم من أبناء جلدتهم؟ فهل معنى ذلك أنهم يعتقدون أننا هازلون في مطالبنا، غير جادين في قضيتنا وجهادنا؟!

إن منظر الجندي الإنجليزي يسير في مدينة الإسماعيلية بالذات يؤلمني إلى حد كبير، كما يؤلم كل وطني غيور، لأنه يحمل معني التحدي الجارح لكرامة المصري، وشعوره وعزته، فهو يسير مترفعا متعاليا، في صلف وكبرياء، مقيتة لعينة، شأنه في ذلك شأن العملاق المتغطرس الذي ينظر في ازدراء وضيع إلى أقزام هزيلة الجسوم، جائعة البطون؛ عارية الأبدان، وهو لهذا لا يأبه بمن أمامه من المصريين، ولا يبالي بما يأتي من جرائم، ويقتل من أرواح، فقلما يخلو يوم من حوادث السيارات الإنجليزية التي تجوب المدينة على الدوام، وبلا انقطاع، والتي تقف أمام دور السينما والمحلات العامة وفي الحدائق، وتزدحم بها الشوارع في كل مكان، والتي يذهب ضحية إهمال سائقيها المخمورين كثير من المصريين الأبرياء. . وماذا يضيره ما دام يخرج دائما هو وأمثاله المجرمون بسلام، ولا تنال منهم سطوة القانون المصري شيئا، لأن الإنجليزي لا يزال في هذه البلاد عنوان السيادة الذي يخضع له الجميع. . وقاتل الله الإنجليز فإنهم لا يزالون يعيشون في أواخر القرن العشرين بعقلية القرون الوسطى، ولا يزالون يؤمنون إيمانا عميقا بسياسة الدس والتفرقة بين مختلف الطوائف وقادة الشعوب، وزعماء البلاد، ولا يكاد يستجيب لهم، ويحقق أمانيهم غير المصريين من الذين لا يعيشون لبلادهم، وإنما يعيشون لتحقيق أغراضهم، ومصالحهم الذاتية. . ولكن الإنجليز في هذه المرة لن يصلوا إلى ما يصبون إليه، وسيفوت عليهم الوعي الجديد للشعب المصري أغراضهم السافلة، ويحطم آمالهم الاستعمارية الوضيعة، ويكشف حيلهم الدنيئة، ويسجل عليهم الفشل الذريع، والحظ المنكود. .!!

أجل فالوعي القومي بين طبقات الشعب قد ارتفع مستواه، ونأمل أن يؤتي ثماره اليانعة في القريب العاجل إن شاء الله. وإنه لمن الظلم أن تظل هذه الجنود تتمتع بالأحياء الجميلة النظيفة في المدينة وتستنفد خير الأطعمة. وتستولي على جميع ما تصل إليه من طيبات الرزق، بينما يحرم من هذا كله أهل المدينة والقاطنون فيها، فتتلظى نفوسهم غيظا، وتتميز كمدا وحقدا على هؤلاء الدخلاء الذين ينتزعون خير أقوالهم، وأطيب أرزاقهم، وغزوهم في مساكنهم، حيث استأثر الإنجليز بأحياء خاصة، ثم طغي منذ شهور سيلهم الجارف، وتدفقوا في منطقة القناة زرافات زرافات، حتى ضاقت بهم مناطقهم العسكرية في منطقة القناة، كما ضاقت بهم مدينتهم الكبيرة الجميلة المنسقة، التي بنتها لهم القيادة العامة على أحداث طراز إنجليزي، حتى لتتشابه البيوت إلى حد كبير، والتي تقع في الجنوب الغربي من الإسماعيلية. . أجل ضاقت بهم هذه الأماكن كلها فنزحوا إلى الأحياء الوطنية، وزحفوا عليها زحف العقارب الشائلة، والوحوش الضارية، وسكنوا في عمائرها الجديدة النظيفة، كما نزح إلى هذه الأحياء كثير من الأجانب من اليونانيين والأرمن، وغبر هؤلاء بقصد الربح والكسب، تاركين مساكنهم في الحي الأجنبي للإنجليز نظير مبالغ كبيرة من المال، إما بصفة (خلو رجل) أو عن طريق الإيجار من الباطن، فيترك الواحد منهم مسكنه النظيف الذي يسكن فيه نظير إيجار شهري قديم لا يزيد عن خمسة جنيهات لشقة متوسطة، مكونة من ثلاث حجرات مثلا، بعد أن يؤجرها للجنود الإنجليز نظير ثلاثين جنيها على الأقل بواقع عشرة جنيهات للغرفة الواحدة، ويؤجر هو في الحي العربي شقة تماثلها بعشرة جنيهات. فيكون ربحه من هذا كله خمسة عشر جنيها، دون أن يبذل في ذلك أي جهد، أو سعي له قدم. .!!

على هذا المنوال تسير الحياة في الإسماعيلية فتنكمش على الدوام مساكن المصريين الوطنيين، وتنمو مساكن الإنجليز باستمرار، حتى في هذه الأيام التي ارتفعت فيها العاطفة الوطنية، والتي استعدت فيها النفوس للثورة القومية، والجهاد النبيل، والتي كاد يخمده زعمائها بتعلقهم بالوعود البريطانية الخلابة، فلا يزالون يثقون بهؤلاء الخونة الأنذال، وكأنهم لا يزالون يجربون مع طول التجارب المريرة السابقة. .!!

وليس من الغريب أن ترى أسرة إنجليزية صغيرة تعيش في دكان صغير ليس فيه مياه، ولم يعد ليكون مسكنا لشخص أو عدة أشخاص. . إي والله لقد رأيت هذا المنظر الغريب العجيب في حي جميل من أحياء الإسماعيلية. . وليس من الغريب كذلك أن ترى الأسر الكثيرة تسكن بيوتا من الطين لا تختلف في قليل أو كثير عن بقية بيوت الفلاحين المصريين التي حولها. . وليس بعجيب أن تمتلئ الفنادق الإفرنجية في المدينة كلها بعائلات الجنود الإنجليز، تعيش العائلة في حجرة صغيرة أعدت في الأصل ليكون بها شخص واحد أو شخصان، كما أن بعض الفنادق المصرية قد اكتظ بهذا النوع من الوجوه الكاحلة، حتى أن من العسير أن يجد المسافر مكانا في الفندق يبيت فيه ليلة أو بضع ليل. .!!

أجل ليس من الغريب أن ترى هذه المناظر. ولكن كلمة الحق التي يجب أن نسجلها في هذا المكان، هي أن النظافة تشيع في كل مكان يقطن فيه هؤلاء، كما يسوده النظام والهدوء، حتى في تلك الأماكن المتناثرة في أنحاء الأحياء الوطنية، بحيث يخيل إلى أن المصريين لو انتقلوا جميعا إلى الأحياء الأجنبية النظيفة، وانتقل الأجانب إلى الأحياء الوطنية القذرة، لعمت الفوضى بعد أيام في الأحياء الأولى، ولساد النظام والنظافة والهدوء والسكينة في الأحياء الأخرى.! ومهما يكن من شيء فإن كل إسماعيلي يشعر من أعماق نفسه بكراهية عجيبة لهؤلاء الغاصبين. ويرى فيهم العدو اللدود لبلاده، سواء في ذلك الذين يستفيدون من الإنجليز بالعمل في معسكراتهم، أو الذين يتعاملون معهم بغير ذلك من أنواع المعاملات. وهي كثيرة في الإسماعيلية، حيث يوردون لهم اللحوم والخضر والفاكهة والألبان وغير ذلك، ويبنون لهم المساكن ويشيدون العمائر الضخمة الكبيرة، التي تضارع في ضخامتها وعظمتها عمائر القاهرة. .

وإن الأمل لكبير في أن تسيطر الوطنية المصرية على هؤلاء الإسماعيليين الذين تربطهم بالإنجليز صلات المادة، وتتغلب عليهم روح التضحية الخالصة، فيلبي كل منهم نداء الواجب المقدس، ويفصم ما بينه وبين هؤلاء من عري وثيقة، وصلات قوية، مهما بلغت أرباحه المادية

ولكن المخلص تتغلب عليه ناحية التشاؤم حينما يتصل من قريب بهؤلاء الذين يتعاملون مع الإنجليز من غير أبناء الإسماعيلية الخلص، وأعني أولئك الذين نزحوا من الصعيد لا يملكون شيئا، فأصبحوا بعد أعوام قلائل أثرياء أغنياء، لا تعرف كيف وصل إليهم المال، وأي الطرق سلكوا حتى أصبحوا يشار إليهم بالبنان في كل مكان. . أعني بهم هؤلاء الذين تغص بهم العربات الخاصة (البولمان) في قطر السكة الحديدية، وتضيق الشوارع في مدينة الإسماعيلية بسياراتهم الفارهة التي لا تكاد تسمع لها صوتا حينما تسير. . هؤلاء الذين يرتدون في الغالب الجاباب البلدي المصنوع من الصوف الجميل، و (الطاقية) الوبر الناعمة، الغالية الثمن، عليها (شال) ناصع البياض، وتتكون منها عمامة لا أثر للذوق فيها، ولا تصيب للوقار منها. . ويلفت نظرك خواتم كبيرة ذهبية في أصابع اليدين، منها الكبير والصغير، والفصوص الحمر والزرق، وتعجب لما بين ذلك كله من تنافر، مع ارتفاع قيمتها، وغلو ثمنها، ولكنه المال المزيف الذي يتدفق على هؤلاء من خزائن الإنجليز فيملأ منهم الجيوب، ويخرب الضمائر، ويفرغ العقول.!

إن قطع علاقاتنا بالإنجليز يوم أن يتم إلغاء المعاهدة اختيار للبطولة الوطنية، وامتحان للقومية المصرية، ويوم ذاك تبارك مصر كل من يفهم كنه هذا القرار، ويدرك حقيقة ذاك الاتجاه، وينفض يده من ذلك الوباء الماحق، والشر المبير، ويحاول سحق هذه القوة الغاشمة، والقدرة الضائلة الطاغية، التي نمدها نحن بمقومات حياتها. . وتبارك هذا النوع من أبنائها، وتلعن كل من أعرض عن نداء الواجب. ولم يصخ لصوت الضمير، ونداء الوطنية العادل. .

وإن في إمكاننا وحدنا أن نقطع شرايين الإنجليز ونحبسهم في حيز ضيق لا يستطيعون منه فكاكا، ونكرههم على الفرار من وادي النيل كله، وذلك حين نقطع ما بيننا وبينهم من صلات وعلاقات، فلا نطعمهم ولا نسقيهم ولا نتعاون معهم ولا نسكنهم ولا نشتري بضائعهم، وننظر إليهم نظرة احتقار وازدراء، ونعامل من يتعاون معهم معاملة الخائن لوطنه، ونضيق عليهم الحصار حيث يثقفون.!

ولقد علمتنا الحوادث أن الإنجليز لا يجدي معهم الأخذ والرد، والجدل والنقاش، والمباحثات والمعاهدات، فذلك باب أتقنوه، وبرعوا في سياسة اللف والدوران، وسياسة كسب الوقت. . وإنما تغلبهم القوة القاهرة، ويخضعهم العزم الصارم، ويذلهم التصميم الحازم، ولقد عرفت إيران كيف تصفع الإنجليز صفعة هزت كيانها، وزلزلت بنيانها، وحطمت أعصابها، وأكرهتها على الخضوع لرغبات الإيرانيين الأبطال. . فمتى نفهم هذه الحقائق ونعلم أن تحقيق الأمل، ونيل الأماني، هو بالكفاح والنضال، وندرك أنه لا قيمة لما ينتهجه الزعماء الآن من أقوال مجلجلة، وتصريحات جريئة، وخطب طنانة، وهتافات مدوية، وتصفيق جاد. . فمتى أدركنا ذلك أمكننا أن نقضي على هؤلاء الغاصبين، وأن نتخلص من شرهم، وأن تختفي من منطقة القناة هذه الوجوه الكالحة، كما اختفت من قبل من القاهرة والإسكندرية

عبد الحفيظ أبو السعود