مجلة الرسالة/العدد 956/أصحاب المعالي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 956/أصحاب المعالي

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 10 - 1951


6 - أصحاب المعالي

(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفافها)

(حديث شريف)

للأستاذ محمد محمود زيتون

وتنطبق بوضوح نظرية التدرج من الماديات إلى المعنويات - فيما يتعلق بالمعالي - على يد الإسلام الحنيف، فقد نطق القرآن الكريم بآيات الله البينات عن الجبال الرواسي والأوتاد (وجعلنا فيها رواسي أن تميد بكم) (والجبال أوتادا) (والتين والزيتون وطور سينين) وكلها جبال معروفة و (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) ومع ذكر السماء وما فيها من شمس وقمر ونجوم وكواكب (والنجم إذا هوى) والتذكير بأن الحياة حياتان: دنيا وأخرى. ولابد أن تكون هذه الدنيا مغايرة لتلك الأخرى، فلا بد أن تكون الحياة الأخرى هي العليا (وللآخرة خير لك من الأولى) (والآخرة لهي الحيوان) (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا).

فلنتأمل هذه الآيات الكريمة لنرى كيف تصدق نظرية المعالي هنا:

(سبح اسم ربك الأعلى) (يخافون ربهم من فوقهم) (إن الله كان علياً كبيرا) (هو العلي العظيم) (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) (ولتعلن علوا كبيرا) (وقد أفلح اليوم من استعلى) (ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات) (وفي السماء رزقكم وما توعدون) (بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى) (والسماء والطارق، وما أدراك ما الطارق، النجم الثاقب) (ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) (وأنتم الأعلون) (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا) (وتعالى الله عما يقولون علواً كبيرا) (وإن فرعون علا في الأرض) (وإن فرعون لعالٍ في الأرض) (أأمنتم من في السماء) (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) (الرحمن على العرش استوى) (في جنة عالية) (والسماوات العلا) و (كلا إن كتاب الأبرار لفي علين) أي في أعلى الأمكنة وهو في السماء السابعة إليه يصعد بأرواح المؤمنين، وفي الحديث (إن أهل الجنة ليتراءون أه علين كما تراءون الكوكب الدري في أفق السماء) (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين) (شهاباً رصدا) و (ذو مرة فاستوى) والعرش هو أعلى المخلوقات) (عند سدرا المنتهى) والإسراء بالنبي والمعراج به من الأرض إلى السماء والرسالات كانت تهبط بالوحي من السماء على ألسنة الأنبياء والمرسلين، وآمنت بهم شعوب وقبائل وكفرت مدائن (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها).

قال عباس بن مرداس:

فمن مبلغ عن النبي محمداً ... وكل امرئ يجري بما قد تكلما

تعالى علوا فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما

وقال أيضاً:

رأيتك يا خير البرية كلها ... توسطت في القربى من المجد مالكا

سبقتهمو بالمجد والجود والعلا ... وبالغاية القصوى تفوت السنابكا

فأنت المصفى من قريش إذا سمت ... غلاصمها تبقى القروم الفواركا

وقال العباس في مدح النبي:

حتى سما بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النطق

ويقول شوقي في نهج البردة:

حتى بلغت سماء لا يطار ... لها على جناح ولا يسعى على قدم

وكانت المرأة تأتي رسول الله فيسألها: أين ربك؟ فتقول:

في السماء. فيقول: دعوها فإنها مؤمنة.

ولقد نشأ الأستاذ الأكبر لأصحاب المعالي في صحراء جرداء فصفت نفسه من شوائب المادة وخلصت إلى أسمى المعاني، وجال فكره بين الجبال والوهاد والشعاب والتلاع، والربى والقاع، وتطلع بنظره إلى السماء يتأمل ما فيها، وفي ذات يوم شرف بسمعه على حفل سامر بمكة، فإذا به ينام، ولا يسمع شيئا. لأن الله تعالى عصمه من الدنيا ورفعه إلى المعالي، من حيث أراد الإشراف من أعلى الجبل على زامر الحي، وطالما كان لجبل أحد مكان في دعوة الإسلام، لهذا أحبه النبي القائل (أحد جبل يحبنا ونحبه) وهذه عاطفة إنسانية تتجه نحو مادة ترابية، وما كان ذلك ليكون من حيث هو جبل من تراب ولكن لامتزاج هذا التراب بالدماء الغوالي التي سكبت عليه في سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا.

وأريد محمد يوماً أن يكف عن هذا الدين الذي جاء به، فقال لسفير القوم عمه أبي طالب (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر أو أهلك دونه ما تركته)، وفي هذا الجواب مزاج من العزة والطموح، إذ أن النبي إنما بهذا الدرس العالي على الأجيال المتعالية في سلم الترقي، وبين عينيه الشمس والقمر، وهما ما هما علواً وارتفاعاً ومع هذا يمتلئ قلب محمد بالعزة التي تكاد تفتت الشمس والقمر وتنزلهما من أعلى مكان ليكونا بين يديه.

ومن هذا الباب رؤيا يوسف عليه السلام (قال يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) والأحلام - في نظر السيكولوجيين - هي تنفيس عن رغبات مكبوتة، وهكذا يجتمع أنبياء الله في قمة المعالي، بما ملأ قلوبهم من الإيمان، فتهون حيلها ما في الأكوان من كواكب وجبال. وكثيراً ما يرى الطامحون في منامهم أنهم يطيرون، وأقرب تفسير لذلك أنهم من أصحاب المعالي.

وليس بمنكر أن يكون محمد زعيم أصحاب المعالي فهو القائل (علو الهمة من الإيمان) والقائل أيضاً (إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها) وجاء في الأثر (لا تصغرون هممكم).

ولقد كان أهل المدينة من الجهات العالية بها يسمون في العرب باسم (أهل العوالي) وقد جاء (عجوة العالية شفاء) (لا ينبغي لهم أن يعلونا) وفي ذلك اليوم غلب على وهم أبي سفيان أن أبطال المسلمين قد قتلوا، لهذا قال: (أنعمت فعال) أي فدعني، وقال أبو طالب:

- في نزوة حمقاء -: لا تعلوني! شيء

ويقال إن أرواح الأنبياء في الملأ الأعلى، كما أن النبي الكريم كان يقول وهو يقاسي سكرة الموت: بل الرفيق الأعلى، فتقول عائشة: إذن والله لا تختارنا.

وقف أبو سفيان يوم أحد مفاخراً برأس الأصنام (هبل) فيخاطبه: اعل هبل. وما يكون لصنم أو لعابد صنم أن يعلو أو يسود، لهذا أمر النبي أحد الصحابة ليجيب فقال: الله أعلى وأجل. وماذا يقول المنطق السليم في هذا الجواب السليم الصاعد بالتمجيد إلى الله الذي لا أكبر منه ولا أعلى، وهو سبحانه وتعالى يعلو ولا يعلى عليه.

وكان مما قاله معبد الخزاعي عندما التقى النبي بحمراء الأسد بعد غزاة أحد (. . . ولوددنا أن الله تعالى أعلى كعبك)

من أوضح الأدلة على الشعور بالدون عند أهل الدون قول رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول عندما قال:

متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل ... تذل ويعلوك الذي لا تصارع

وهل ينهض البازي بغير جناحه ... وإن قص يوماً ريشه فهو واقع

وذلك من غير شك تعبير عن هذا النقصان الناجم عن الحقد والضغن في نفس هذا المنافق الغليظ الذي لا يعلو، وما يكون له ولا لمثله ولا لأمثال أمثالهما أن يعلو. وخير منه في هذه الخصومة الوليد بن المغيرة في وصفه كتاب الله (وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق.)

ولما سئل نبي الله عن أي أنواع الجهاد في سبيل الله قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). وهو عليه السلام الدافع إلى علو النفس وإباء الضيم وارتفاع الكرامة إذ يقول (اليد العليا خير من اليد السفلى).

ومن مظاهر التشريف والتكريم أن ينزل الضيف في أعلى مكان بالبيت، لهذا عندما وصل النبي - لدى هجرته المباركة - إلى قباء نزل في علو المدينة بحي عمرو بن عوف، وفي بيت أبي أيوب الأنصاري، نزل النبي بالسفل وما كان أبو أيوب ليرضى أن يكون هو بالعلو والنبي بالسفل، ولكن تواضع نبي الإسلام أبى عليه أن يعلو مادياً، فارتفع روحاً ومعنى، وهو الذي سأل ربه: اللهم الرفيق الأعلى، اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى، أسأل الله الرفيق الأعلى.

وقبلا نادي نوفل بن خويلد يوم بدر فقال: يا معشر قريش: اليوم يوم الرفعة والعلي، فقال النبي: اللهم اكفني نوفل بن خويلد، فقام إليه علي فقتله، ومعنى ذلك أن صاحب المعالي علياً ابن أبي طالب كرم الله وجهه قتل نوفل بن خويلد الذي يدعي الرفعة والعلى، وهما منه براء، وهو منهما على غير شيء في كثير أو قليل. لهذا كثر ما كان المسلمون يعلون الكفار بالسيوف فتطيح رءوسهم إلى أسفل سافلين.

ولما دنا فراق النبي عليه السلام دنيا الناس جمع أصحاب المعالي الصحابة في بيت عائشة وقال لهم فيما قال (أوصيكم بتقوى الله، وأستخلفه عليكم وأحذركم الله، إني لكم نذير مبين ألا تعلوا على الله في بلاده وعباده، فإنه قال لي ولكم: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين).

وجاء فتى إلى رسول الله فقال: يا نبي الله إن لنا منك نظرة في الدنيا ويوم القيامة لا نراك، فإنك في الجنة في الدرجات العلا، فنزلت: (ومن يطع الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) وقال النبي: أنت معي في الجنة.

وقد رأينا كيف أنشد النابغة أبو ليلى عبد الله بن قيس أمام النبي بيته العالي:

علونا السماء عفة وتكرما ... وأنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

فغضب النبي فقال: إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقال: إلى الجنة يا رسول الله فقال النبي: أجل إن شاء الله. وهذا يذكرنا بقول النبي لأم حارثة بن سراقة (وحارثة في الفردوس الأعلى فرجعت وهي تضحك وتقول وهي تضحك: بخ بخ لك يا حارثة.

والحق دائماً ينتسب إلى العلا بينما الباطل ينتمي إلى الدون، وهذا مصداق قول رسول الله لسعد بن معاذ إذ أصدر حكمه - بأمر النبي - في يهود بني قريظة (لقد حكمت فيهم بحكم الله - من فوق سبع سموات - وشأن هذا الحكم العلو والرفعة - قد طرقني بذلك الملك سحراً) فهذا الحكم العالي الذي تتضائل دونه أحكام الاستئناف العالي.

وقد تغلغلت روح المعالي في نفوس الصفوة المختارة من فلاسفة الإسلام وخلفائهم المثقفين، فهذا ابن سينا يقول في مطلع قصيدته في النفس:

هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تدلل وترفع

وهذا المأمون يقول لرجل استأذن في تقبيل يده (إن قبلة اليد من المسلم ذله ومن الذمي خديعة، ولا حاجة بك أن تذل ولا بنا أن نخدع).

والجهاد في الإسلام رفعة النفس بينما النكوص على الأعقاب والقعود عن الجهاد هو الإخلاد إلى الأرض، والرضى بالدنيا، وشأن الكريم أن ينشد الحياة العالية، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل). والنبي يقول (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد). والسماء إشارة إلى السمو والرفعة لهذا يقول النبي (ألا تؤمنوني وأنا أمين في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء) وإليها تصعد دعوة المظلوم ففي الحديث (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة) والملائكة تتحدث في عنان السماء. وما أجمل الخلق النبوي حين يقول محمد (لا تفضلوني على يونس بن متي). ذلك أن النظرة القاصرة تفرق بين إسراء محمد إلى سدرا المنتهى وهبوط الحوت بيونس إلى قعر البحار في أسفل الأرض، ولكن محمداً لا يرتضي هذه التفرقة لأنهما كان في القرب من الله سواء.

وجاء في الخبر (أربعة أملاك اجتمعوا في الهواء، أحدهم هبط من العلو، والآخر ارتفع من السفل، والآخر من المشرق، والآخر من المغرب، واحد منهم يقول:

(أقبلت من عند ربي، فسبحان الموجود في الكل مكانه، مشيئته ووجوده قدرته، والعرش والثرى وما بينهما هو حد الخلق الأسفل والأعلى بمنزلة خردلة في قبضته هو أعلى من ذلك بما لا يدركه العقل ولا يكيفه الوهم. ولا نهاية لعلوه ولا فوق لسموه ولا بعد في دنوه ولا حس في وجوده ولا مس في شهوده ولا إدراك لحضوره، ولا حيطة لحيطته).

محمد محمود زيتون