مجلة الرسالة/العدد 936/صديق رجيم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 936/صديق رجيم

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 06 - 1951



مهداه إلى صاحب العزة الزيات بك

للأستاذ حبيب الزحلاوي

ما أكثر ما نخدع أنفسنا بأصدقائنا لسلامة في طويتنا، أو غفلة عن النظر إليهم بغير عين الصديق.

كثيراً ما سمعت الأستاذ العقاد يقسم الصداقة إلى أنواع، ويصنف الأصدقاء أصنافاً، هذا نصف صديق من نوع كذا، وذاك ربع أو ثمن صديق من صنف كيت، وكانت لائحة الأصدقاء عنده أشبه ما تكون بورقة ذات خطوط وتعاريج في الطول والعرض يثبتها الطبيب فوق سرير المحموم تسجل المواسية فيها درجات الحرارة وتقلباتها. وما كان يضير أستاذي العقاد أن يسقط صديقاً من صفوف الأنصاف إلى الأثمان أو يرفع آخر إلى أعلى درجة، ولا يؤاخذهم على بادرة أو هنة أو هفوة إلا بالحساب القياسي لمنزلتهم من الصداقة.

كنت أستغرب تلك التقسيمات ولا ترتاح نفسي إليها، لأني تدربت منذ الصغر على أن مكان الصداقة هو الذروة إن تزحزحت عنها هبطت إلى الحضيض، وأن الوسط بين الذروة والحضيض هو النفاق، وكنت إن منحت صداقتي لإنسان فإني أمنحه إياها بسخاء كامل، وإن ظننت بها، فإني أظن ظن الشحيح المتأبي، وكنت أعتمد في الحالتين على الحدس والجاذبية.

لقد قطعت أشواطاً من حياتي، فما أكثر من خاصمت خلالها من أصدقائي، وما أقل، بل ما أندر من عاديت منهم لاعتقاد مني بأن الخصومة من شيم الأصدقاء العقلاء. أما العداوة فهو من أوصال الجهلاء والأغبياء، وإني أنزه أصدقائي عن الغباء والجهل لأنهم كلهم بين أديب ومن خيار المثقفين.

لقد أدهشتني يا صديقي، يوم عاتبتني بشدة، وعهدي بك الدمث السلس، وما عاهدت بك الفجاجة والتوعر قط، لقد أذهلتني ساعة سألتني عن ذلك الإنسان الذي جالسنا فترة بل هنيهة وانصرف. لقد أذهلتني وقد كانت نبرة الكلمة تنطلق من بين شفتيك كالسهم، تسألني بشدة وصرامة أنى وكيف عرفت ذلك الوجه الكالح المكفهر، والقدم الفظ السمج الغليظ، لقد حيرتني وأنت تنقض كالصاعقة تنزل البلاء بصديقي الذي لم تره إلا في تلك الجلسة العابرة. ولم تسمع سوى نتف من حديثه الخاطف، لقد تحيرت لا لأنك استثقلت روح صديقي ومججت كثافة ظله، بل لأن حكمك الجائر ينصب على ذوقي، وعلى معرفتي وتقديري فيمن أختار من الأصدقاء.

لم أحاول إقناعك بأنك جائر في حكمك على صديقي المسكين لأني كنت في تلك الساعة مشغول الذهن بك وقد جاش صدرك بالغيظ مني، لقد توهمت أنك تنتزع مني كل الصفات والمزايا التي أحببتني من أجلها، توهمت ذلك، بل دهمني التوهم فجأة، أنا الذي طالما اتفقت معك في الذوق والتقدير، والاختيار والإعجاب، ولم نتخلف في حكم واحد على أمر واحد إلا فيما قل أو ندر. وقد كنا في هذا الاختلاف النادر نلجأ إلى المنطق، والذوق والقواعد المقررة والمتعارفة، لنصل إلى الحق والخير فنقف بجانبهما.

لقد انطويت على نفسي أستعرض ملامح وجه ذلك الصديق المسكين، أستذكر حكاياته وتصرفاته، أردد أفكاره وأحكامه، استجلي ماضيه وحاضره، وأستشف غرائزه وملكاته، من جود وبخل، وكرم ولؤم، وأنفة واستكانة، وكبر وتواضع، وشجاعة وجبن، إلى آما هنالك من ملكات تحتم الصداقة معرفتها لتقر الصديق بنفس يقظة، وعين لماحة، وذهن يعي ويحصي ويسجل.

فعلت ذلك لا لأجنس خلائق صديقي، بل لأقارن بين حدتك، وبين جاذبية جذبتني إليه ودفعنك عنه، وبين إئتناسي به ونفورك منه، ولمعرفة الأسباب التي جعلتك ترضى عن أكثر أصحابي، على قلتهم، وتغضب على هذا الفرد الوحيد الذي لم أر فيه وأسمع منه ما يبعدني عنه كما نفرت أنت منه وأنكرته. لم تعد المسألة وقفاً على صديقي ذاك، بل تحولت فصارت مسألتي أنا ومسألتك أنت، وهل هذا الاختلاف الطارئ بيننا سيكون مقدمة لاختلافات تليه، وتباين في الآفة الروحية والانجذاب إلى الأشخاص والأشياء؟

من صعاب الأمور تكليف النفس الخروج على سجيتها، ومن أشقها عليها تحميلها صعاباً تثقل على الولاء بين الأصدقاء، ولكن للظن والقطانة حق علينا، بل لنا عليهما حق اللجوء إليهما في كل ما تدعو الحصافة إليه، وقد أظهرا لي في ذلك الصديق أموراً يحسن السكوت عن أكثرها لبعدها عن الغاية التي كانت موضوعاً لكتابة هذه الرسالة.

أية فائدة لغير الباحث المحلل في معرفة ما إذا كان صديقي ذاك شجاعاً أو جباناً، متديناً أو غير متدين، مؤمناً أو ملحداً، متعصباً أو متسامحاً، كريماً أو لئيماً، ولكني أقول في مجال العابر بعض ما استنتجت من خلائقه دون البعض الآخر: إنه مخلوق يجمع بين الأضداد التي ذكرتها كلها جميعا مضبوطاً على القد المضبوط، يتقلب في أمواجها المتدافعة والرهو، وسبب ذلك على ما يبدو لي، المرض والثقافة، فهو مريض حقاً، ومثقف متبحر متمكن، وأنت تعلم يا صديقي أن لا محيد للمثقف الحصيف عن تغليب سلطان العقل على الإيمان، كما لا مهرب للمريض من اللجوء إلى المجهول والاستغاثة به، وعلى هذا القياس أقول إنه يجمع بين الشيء وضده في زمن واحد، ولمحة واحدة.

قد تسألني عن كنه هذه الصداقة وارتباطي بها ردحاً من الزمن فأجيب: الكمال نسبي. والإنسان الذي تتوفر فيه أكثر صفات الكمال المثالي نادر، والشذوذ عنصر أصيل في طبيعة الأديب والعالم، وإن رضي الإنسان عن ناحية من الصداقة، لا يعني الرضوان المطلق عن بقية النواحي، والانجذاب إلى الصوب الداني من النفس هو الأساس الذي يشاد عليه بناء الصداقة، ومن هنا نجد أن قاعدة الأستاذ العقاد في تقسيم الصداقة إلى أنصاف وأرباع وأثمان إنما هي قاعد صحيحة.

وصديقي ذاك قوال مدره، ذرب اللسان، حاضر البديهة، واضح البيان (يأخذ من كل جانب من جوانب الأدب والعلم بطرف) فياض في الأحاديث يستقيها من مصادرها، ولست أدري كيف يتوصل إلى تلك المصادر، وإذا ما بدت لك أطراف من الإفك في رواياته فإنه من الصعب أن تتبين غير ملامح الجد في وجهه وتصلب قسماته. وهو كأكثر الناس في المغالاة والمبالغة وتزوق الكلام، مزاح ضحاك، شديد اللدد، يتقلب في لحظة واحد من حالة اللؤم وبوادرها مثلاً إلى حالة طفلة ساذجة. وهو بحكم العلة المرضية التي تنخب كبده (يدعي قول ما كان يود أن يقوله لمجادليه ما قاله لهم حين الجدل، وهو لهزاله وضعفه تصلف ويتكبر تكبر الأقوياء. فأنت ترى أن لا غيوم في أفق هذا الصديق، ولا مذاهبه مستعجمة، ولا مسالكه شائكة، ولا ثرثرته رخيصة، وأن من السهل الهين الأخذ منه ما يعرف والظن عليه بما نعرف، وهو على كل حال طرفة بالقياس لمن نعرف من الناس، ونمرة ظريفة من نوع من الأنواع.

وحدث مرة أن سألني ذلك الصديق سؤالاً لا يمت إلى حياتنا الأدبية بصلة، ولا يدنو إلى ما ألفنا من أحاديث الأدب والاجتماع. سألني أي أنواع المغامرة أحب إلي؟ قلت: أحبها إلى نفسي هو الجهاد في كسب الرزق. قال: لم أرم في سؤالك إلى طرق الكسب بل قل لي، ألا تميل إلى انتزاع فتاة من عشقها يستتران في الظلام؟ قلت ما قيمة حيازة فتاة دون امتلاك قلبها؟ قال مالنا وللفلسفة؟ ونظر إلي وحدق وقال: نحن الآن عند حافة صحراء (ألماظة) وأنت ترى على مقربة منا سيارة يملكها أحد الأثرياء من داخلها سيدة يغازلها ذلك الثري، ألا يخطر ببالك أن نتضافر فننقض على الرجل ننتزع حافظة نقوده وعلى المرأة تنتزع حليها؟ قلت أعوذ بالله مما تقول، هل أنت مجنون؟!!

انقضى وقت طويل على هذا الاستجواب العجيب الذي اختتمه بضحكة عريضة، ولم أعره اهتماماً لأني ما حدت في مغامراتي كلها عن جادة العمل للمجتمع، ولأن أعمالي الخاصة التي فزت بنصيب منها كانت قرينة الجرأة حليفة الإقدام والمثابرة وحدث مرة ثانية أني كنت وذلك الصديق بعينه مع رفيقين آخرين - سأحدثك عنهما فيما بعد - في مشرب عند صحراء (ألماظة) وأن القدر الذي احتسيناه من الشراب كان كافياً لأن يجعلنا نتحلل من قيود العقل، وأن ينفلت منا زمام التقدير، وأن نستهين بكل مسؤولية.

قال صديقي مخاطباً رفيقنا: ألم تكن هناك على بعد كيلومترين من هنا؟ ومد ذراعه يشير إلى قلب الصحراء من جهة الشرق ضحك الرفاق الثلاثة ضحكة غريبة الجلجلة وقال أحدهم (ملعون أبوها).

قلت: من هي تلك التي استنزلتم اللعنة على أبيها؟

فتاة اشتهيناها، إن رأيتها أنت كنت أشد شهوة منا إليها.

قلت ما حكايتها؟

أسرع كل من الرفاق الثلاثة إلى قص القصة، وأخذوا يتدافعون في حكايتها تدافعاً، هذا يمهد ويقدم، وذاك يشرع في السرد، والآخر يصحح الوقائع ويعيدها إلى أصولها، وها أنا ذا يا صديقي ألخص الواقعة وأجملها بكلمات، كلمات معدودات وددت لو اختزلتها حرصاً على الكرامة الإنسانية، واستحياء من نفسي.

رضيت فتاة من سبط لاوى أن تبيح عرضها لهؤلاء الشباب المثقفين المهذبين لقاء أجر اتفقوا عليه وأبت المبيحة إلا أن تقبض الأجر مقدماً، ولما تم الإثم قبض أحدهم على ذراع المرأة وانتزع الثاني حقيبتها من يدها انتزاعاً، وأسرع الثالث إلى السيارة يهيئها للهرب، وقد اندفعت السيارة بأقوى سرعتها تحمل الأبطال الثلاثة وبقيت المسكينة في الصحراء تعوي كالذئبة ولا من مجيب!

أتدري يا صديقي كم حوت حقيبة العاهرة وماذا كان فيها؟

كان فيها منديل، وقرش صاغاً واحد، ومفتاح غرفتها، والأجر الزهيد الذي قبضته ثمناً لعرضها.

أي صديقي، لقد كان كشف لدني فتحه الله على بصيرتك. يوم رأيت ذلك المخلوق التعس فنفرت منه واستثقلت روحه وكثافة ظله، أما أنا فقد كنت أعشى العين والبصيرة. أنظر إلى ذلك الصديق من خلف غشاء قدسي نسجته بيدي إجلالاً للصداقة.

لست بأول إنسان خدع نفسه بمثل هذا الصديق، إن القط الأليف هو من فصيلة النمر المتوحش، كذلك الإنسان المهذب من فصيلة الشرير الأثيم، ولكن متى بدرت بادرة الغرائز الكامنة عاد كل إلى أصله

حبيب الزحلاوي