مجلة الرسالة/العدد 935/الثنائية والألسنية السامية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 935/الثنائية والألسنية السامية

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 06 - 1951



للأستاذ الأب مرمرجي الدومينيكي

نص البحث القيم الذي ألقاه الأب الفاضل في الجلسة الأخيرة

لمجمع فؤاد الأول بدعوة منه

من المتجلي للعيان ولا يختلف فيه اثنان هو أن مصر المحروسة متبوئة عرش الزعامة والتقدم بين سائر البلاد العربية، ولا سيما في ميدان النهضة الثقافية والعلمية واللغوية. ومن ظواهر ذلك الجامعات المتعددة ودور العلوم ودور الكتب الكثيرة، ولجان التأليف والترجمة والنشر. ومن ذلك خاصة خدمة اللغة العربية والسعي في إنعاشها لتصبح آلة مرنة فتجارى الحضارة والمعارف العصرية. ومن تلك الوسائل الفعلة هو مجمعكم الموقر المحلى باسم مؤسسه؛ ذلك العاهل الأعظم حامي العلم واللغة ملك مصر (فؤاد الأول) وتحت ظل ورعاية نجله وخلفه الملك المعظم فاروق الأول المالك سعيدا. ولذا اشعر بغبطة وحبور لوجودي بينكم، انتم عليه أرباب العلم والأدب والحكمة، وسدنة حرم هذه اللغة العربية الكريمة، سيدة جميع لغات بني سام. وقد لبيت بكل افتخار دعوتكم اللطيفة لأبسط لكم كيفية محاولتي المؤازرة في خدمة المعجمية العربية على ضوء الثنائية والألسنة السامية، وهي وسيلة قد بذلت الجهد في تأليفي قصد تبيان فؤادها الجمة، وان ظهرت في أول وهلة غير مألوفة، فأقول:

من العلوم العصرية التي نشأت على يد أرباب البحث في البلاد الغربية (علم المقارنة) الذي طبقوا أصوله على مختلف الفروع العلمية، فنجم عن ذلك حقائق ثمينة ومفيدة، كانت بقيت مجهولة لولاه وضمن دائرة اللغات توالدت موازنة الصوتيات والصرفيات والنحويات والمعجميات ومن ذلك كله المقارنة الألسنية السامية.

ومعلوم أن الساميات الأمهات تنقسم إلى طوائف، منها الطائفة الشرقية وهي اللغة الكدية الداخل فيها الآشورية والبابلية، والطائفة الغربية الشمالية الشاملة الكنعانية والآرامية والعمورية. الكنعانية فرعان: هما الفينيقية والعبرية. والآرامية فرعان أيضاً: هما الآرامية الغربية، والآرامية الشرقية. ولهجتها الفصحى هي السريانية. ثم هناك الطائفة الغرب الجنوبية الشاملة اللغات العربية واللغات الحبشية. العربية تتشعب إلى فرعين: العربية الجنوبية، وفيها السبئبية والحميرية، والعربية الشمالية، ولهجتها الفصحى هي العربية القرآنية. اللغات الحبشية ثلاثة فروع: الجعزية، وهي الفصحى القديمة، ويليها الأمحرية والنكرية.

هذا ولم يعد يكفي للتقصي عن أصول الألفاظ العربية أو السريانية أو العبرية أن يكون الباحث متضلعاً من واحد أو اثنين من هذه الألسن، بل لابد أن يكون واقفاً على قواعد وخواص معجميات كل هذه الساميات الأمهات؛ وما يرجع إلى كل واحدة منها من اللهجات، فضلاً عن معرفة بعض الألسنة غير السامية التي لها علاقة بالعربية أو بغيرها من الأخوات الساميات.

ثم أن علم التأصيل في المعجمية غير متوقف على الإشارة إلى كلمة من الكلمات مستعملة أو واردة في اللغة الفلانية، بل الارتقاء إلى اللغة الأم الصادرة عنها اللفظة المذكورة. وغير كاف الوقوف عند اللسان القناة المارة فيه تلك المفردة، فإن ادعى أحد الباحثين أن هذا الحرف سرياني دخيل في العربية، وظهر بالتقصي انه ليس بسرياني بل مسرين ودخيل من اليونانية أو الفارسية أو ألا كدية أو العبرية، فلا يجوز إذ ذك القول بسريانيته، وهو غير سرياني، إذ قد يكون دخيلاً في كلتا اللغتين من لسان ثالث، مثال ذلك الألفاظ التالية الواردة في العربية والسريانية معاً: فردوس. . بستان. . ببغا. . . . . باغ. . بإذنجان. أبنوس أسفين كعبة، كعبنا، بدوي، بدوايا.

فهل من المعقول الذهاب إلى إن كل هذه الكلمات سريانية دخيلة في العربية، في حين أن التقصي يثبت أن الست الأول منها فارسية، وان أبنوس وأسفين من اليونانية، وان كعبة وبدوي من العربية ذاتها؟

ثم أن المقارنة الألسنية السامية غير متوقفة على البحث في لغة واحدة من الساميات، بل جميعها. ثم يتحتم اعتبار هذا المجموع كلغة واحدة قد تفرقت خوصها وأسرارها في مختلف اللغات الأخوات، مما يقتضي معه الاستعانة تارة بمميزات الواحدة لفائدة الأخرى، وطورا السعي في إثارة الغامض في هذه بما هو واضح وصريح في تلك، فلا يكفي والحالة هذه وضع أصول الساميات الأخر بازاء المادة العربية؛ لان مثل هذا العمل لا يلقى على المواد المبحوثة إلا نورا ضئيلا، ولا يأتي إلا بفائدة جزئية، لعجزه عن إيضاح التناسق المعنوي، وإزالة التضارب والتنافر، ليس بين المفاهيم العربية وحسب، بل بين مدا ليلها ومدا ليل أخواتها السامية البواقي.

ثم لتأصيل الألفاظ عن طريق الاشتقاق، وهناك قاعدة لازمة الاتباع، وهي الانتقال من الفحاوي المادية المحسوسة إلى المداولات المجردة والمجازية، ومن حياة البداوة إلى حياة الحضارة، ومن مزاولة الرعاية والزراعة إلى معالجة الصناعات والفنون والعلوم. ومن هذا القبيل نجد العربية آلة من أنفع الآلات تبز سائر أخواتها السامية، إن لم تقل اللغات البشرية.

إن العائشين اليوم في عصر التمدن والرقي على اختلاف ضروبه، ليكرهون البادية ماقتين حياتها البدائية، وهذا معقول، لان الرقي غير متوقف على الرجوع إلى الوراء، ولا على النزول إلى اسفل، بل على التقدم دائماً لبلوغ الكمال قدر المستطاع. ويود بعض معاصرينا إجلاء معاجمنا من كل الكلم التي يشتم منها رائحة لا حياة البدوية، حتى لا يبقى فيها سوى الألفاظ والتعابير الحضرية، لا بل العصرية الحديثة وما يلزم أن نستحدثه منها اندفاعاً مع تيار التقدم المتواصل.

هذا من حيث الروح والذوق العصري، أما نحن، معشر المتخصصين للمعجمية، وما تشمله من اشتقاق وتأصيل وثنائية وألسنية، فلا تمالك من الإشادة بفضل أولئك اللغويين القدماء الذين قاموا بالرحلات العلمية، قاضين السنين الطويلة بين ظهراني أهل الوبر، فجمعوا لنا كل تلك المفردات البدوية الخالية منها الألسن السامية الأخر التي لم تجمع ولم تدون مفرداتها إلا ألبان بلوغ أربابها طور الحضارة. ففقد منها اغلب الأصول والرساس الأولية بمعانيها المادية المحسوسة. وفي هذا يظهر الفضل العميم، فضل اللغة العربية على شقيقاتها، والدليل الساطع على قدم ألفاظها، مع إنها دونت بالكتابة آخر جمعها. مما تتحقق معه هذه الحقيقة الحليلة، وهي إن العربية هي المفتاح النفيس لفك مغاليق كثير من الغاز المعجمية السامية، وذلك بالرجوع إلى الرس الثنائي الصائن عادة اقدم المدلولات؛ أي الفحاوي البدائية الفطرية المحسوسة الملموسة.

فلنر ما هي هذه الثنائية: أن طريقة الاشتقاق والتوسع في الساميات قائمة على الارتقاء من الأقل والأنقص، إلىالأكثر والأكمل، أي حب السنة الطبيعية، سنة الرقي، وليس بالعكس ألا من باب الاختزال وهو نادر، ولا يحدث في طور التكون والنشوء، بل في عصر الكهولة والهرم. وأنا من القائلين بأن الاشتقاق في العربية يتم بزيادة حروف، لا بطريقة النحت أو التركيب. لأن اللغات السامية عموما، والعربية خصوصاً، ليست بنحتية، والعلاقة الأساسية الثابت وجودها في الغالب بين المشتق والمشتق منه هي اللحمة أو الصلة المعنوية، مع توسع الدلالة وتطورها بالانتقال من حيز المعاني المادية الحسية إلى حيز المداليل المجردة والمجازية، ثم المقلية الروحية.

وفي طور التكون اللغوي تبدأ الزيادة بالحروف عن طريق السماع دون القياس، فتنشأ بضرب الفوضى، ثم تسير رويداً رويداً في سبيل التكامل والاستقرار. فمنها ما يبلغ درجة القاعدة والقياس المطلق أو النسبي؛ ومنها ما يتخلف فيبقى دون نظام ومما يساعد على استمرار هذه الحالة هو مفاجأة اللغة المتكلم بها بتدوينها بالكتابة، وإنزالها منزلة اللغة الفصحى المتصفة بالميل إلى المحافظة على الحالة الراهنة قدر مستطاعها لمقاومة التطور الملازم طبيعة كل الأشياء

هذا وأنا من الذاهبين إلى عدم وجود علاقة طبيعية ضرورية بين الصوت أو الحرف أو الكلمة وبين المعنى المتعلق بها. لأن الأصوات مجردة، وليس في طبيعتها ما يجعلها دالة حتماً على الشيء الفلاني أو الفحوى الفلاني، إنما تنشأ الصلة بين الصوت والمعنى اتفاقاً، أو بإدارة المتكلمين عن طريق السماع أو الاستعمال

أنا غير جاحد إن لبعض الكائنات الطبيعية دويا، وللحيوانات أصواتا. بيد أن الناس لا يقتبسون القدرة على التصويت أو التكلم بالتعلم من الطبيعة أو الحيوان. لان ذلك من خاصية أعضاء النطق فيهم، وبفضل هذه الخاصية يتمكنون من محاكاة دوي الطبيعة وأصوات الحيوانات، لكن بطريقة متباينة، إذ أن كل فريق أو قبيلة أو شعب يتوهم فيها سماع نوع من الدوي والصوت؛ فيحاكيها طبقاً لهذا الوهم.

وبعض الأحيان تجري هذه الزيادة بالحروف لمقاصد تلوح منضادة، دونكم أحرف المعارضة فأنها تستخدم لأداء دور واحد خاص بكل منها، بل للقيام بأدوار عدة متمايزة، فالياء تستعمل للغائب والمثنى وللجمع المذكر والمؤنث والنون للمتكلمين. لكنها تأتى أيضا في السريانية للغائب المفرد والجمع وفي بعض الأحيان اللهجات العربية للمتكلم. الهمزة تكون للمتكلم بيد أنها ترد للغائب في طائفة من اللهجات المسفورة: التاء تدل على المخاطب المذكر والمؤنث وعلى المثنى والجمع المذكر والمؤنث. وكذا القول في الميم المتوجه بعض الصيغ فأنها تدخل على اسم الفاعل واسم المفعول والمصدر الميمي واسم المكان والزمان واسم الآلة وفي كل هذه المباني تختلف المداليل والحرف واحد.

زد على ذلك إن الحروف عرضة للإبدال في العربية كما في أخواتها السامية فإن الثناء العربية تبدل تاء في الأرمنية وشينا في العبرية واللأكدية والحبشية والذال العربية تبدل زايا في العبرية والاكدية والحبشية ودالا في الأرمنية. ثم أننا نجد في العربية العين والغين والحاء والخاء، وفي اللغات الباقية لا يوجد سوى حرف واحد يقابل الاثنين العربيين، وفي الاكدية لم يبق إلا الخاء، فضلا عن هذا هناك التغير الطارئ على بعض الحروف بفعل التفخيم، فإن التاء تفخم فتضحي دالا، ثم طاء، ثم ظاء، والسين تفخم فتصبح صادا، والضاد العربية تمسى صادا في العبرية، لا بل عينا في السريانية، وهلم جرا.

كل هذا دليل على ما أبديناه من إن الحروف مجردة من ذات طبعها إنما يخصص لها معان وأدوار بالسماع والاستعمال. ومن باب الإطلاق يمكن القول بأن كل الحروف - ماعدا المتنافرة غير القابلة التجاوز تركيبا ولفظا - تصلح لان تكون حرفا للتوسع، ولا سيما في طور التكون، أي طور الرساس الأولية الثنائية الذي يعقبه طور الثلاثية بزيادة حرف ثالث على الحرفين الرسبين. أما تداول هذه الحروف فمتباين، إذ منها ما يستخدم اكثر، ومنها ما يبقى نادر الورود.

ولنا مثال في العربية على بقاء حالة الفوضى وعدم الخضوع لقياس في المصادر الثلاثية المجردة، وجموع التكسير وحركة عين الماضي والمضارع من المجرد الثالث وعدم ورود كل المزايدات لكل واحد من المجردات. فأنها كلها لا ضابط لها فتستند على السماع وتعرف من المعاجم وكذا القول في الحروف التي تزاد على الرساس والأصول فإن بعضها يستمر دون قيد ولا رابط على الحالة البدائية ولا اعتماد في شأنها ألا على الصلة المعنوية بين المزيد والمزيد فيه، قدر ما يتوصل إلى تحقيقها بعد التطورات والتقلبات الكثيرة التي طرأت على اللغة بمرور الأحقاب إلى أن بلغت طورها الحالي.

اجل في المزايدات الثلاثية والرباعية تجري الزيادة غالبا بحروف معينة للدلالة على معان خاصة كما هو مفروض في طور التصرف إلا أن هذا بذاته لا يتم باطراد مطلق إذ لا يخلوا من اثر الفوضى القديمة لان كثيرا من هذه المزايدات المعدودة قياسية تعود إلى الدلالة على المجرد عينه زد على ما ذكر أن هذه المزايدات يراد بها مفاهيم مختلفة ومبتعدة أحيانا غاية الابتعاد عن المعنى المقصود من زيادة الحرف المعين لهذه الغاية أعنى انه لا يزال فيها شيء من الفوضى أو عدم الاستقرار الخاص بالطور القديم.

دونكم مثلا وزن (افعل) المزيد فيه همزة، حسب قول الصرفيين للدلالة على التعدية نحو أجلسته، أكرمته، أبعدته. فأنه خلافا للقصد المتوخى من زيادة الهمزة، يراد به فحوى الدخول في الشيء. نحو اصبح: دخل في الصباح، والمبالغة نحو أشغلته: بالغت في شغله. والصيرورة، نحو أقفرت الأرض: أضحت قفرا. والسلب، نحو أشفى المريض: ذهب شفاؤه وأخيراً يأتي بمعنى المجرد ذاته، مما ينافى المراد من الزيادة نحو أفلت البيع، بمعنى قلته أي فسخته. كذا وزن (فعل) المضاعف، أي المكرر العين للتعدية فانه يطلق، فضلا عن هذه الدلالة الخاصة، على التكسير، نحو قطعت الحبل: جعلته قطعا. وعلى السلب، نحو قشرت العود: نزعت قشرة، وعلى اتخاذ الفعل من الاسم بنحو خيم القوم: ضربوا خيامهم، كذلك وزن (استفعل) الدالة فيه الزيادة على الطلب، فإنه يستعمل أيضا لوجدان الفعل. نحو استعظم الأمر: وجده عظيما. وللتحول، نحو إستحجر، وللتكلف، نحو استجرأ. وللمطاوعة، نحو أراحه فاستراح، وأخيرا يرجع إلى فحوى المجرد عينه كأنه لم تكن زيادة، نحو استقر بمعنى قر، وقس على ذلك بقية المزيدات، تلك التي تدعى قياسية بتخصيص دور الحرف المضاف إليها

البقية في العدد القادم

الأب مرمرجي الدومينيكي