انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 925/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 925/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 03 - 1951



شاعر العقيدة

تأليف الأستاذ محمد تقي الحكيم

للأستاذ إبراهيم الوائلي

لعل مدينة النجف الصغيرة هي ثالثة المدن العراقية التي احتضنت تراث العرب المسلمين بعد بغداد والحلة، وقد كانت مثابة لطلاب العلم ومجالا فسيحا للغة العربية وآدابها في أواخر العصر العثماني، وكان تميزها بكثرة النوابغ من الشعراء_عدا العلماء والمؤلفين_ظاهرة يعترف بها التاريخ في أوسع مصادره الحديثة، وكادت تفقد مركزها الأدبي في السنوات الأخيرة لو لم يتح لها جيل جديد ينشط للبحث والتطلع ويسير في الموكب الصاعد، فكانت (جمعية الرابطة الأدبية) ذات طابع شعري معروف، وإلى جانبها جمعية (منتدى النشر) وقد أسست لتجمع بين القديم والحديث. والتف حول مناهجها ودروسها طائفة غير قليلة من شباب النجف والمدن الأخرى، وهي تعمل في شكل فصول وامتحانات كما يفعل الأزهر في مصر، ولم نكتف بالدرس العلمي والبحث اللغوي بل دفعت هؤلاء الشباب إلى مجال الأدب الواسع يقرؤون ويهضمون ثم يكتبون وينشرون، ومجلة (البذرة) هي منبرهم الذي يتبارون عليه، وكانوا يتيحون لنا_هم وأساتذتهم_أن نستشف خلال تلك المسارب الضيقة ومضات تبشر بوجود قوة الاستمرار لتلك الشعلة التي طالما توجهت على ربوة النجف الخضراء في قرون كثيرة، وبالرغم من أن العناصر الرجعية من (الرسميين) وغيرهم لا يريدون لهذه الجمعية أن تسعى في طريقها الإصلاحي فإنها بقيت تصارع وتعمل بصمت وهدوء في سبيل رسالتها العلمية والأدبية.

وقد استثمرت هذه الجمعية جهادها في التأليف والكتابة فكان إنتاجها ضخما في الكم والكيف بالرغم من أن عمرها لا يتجاوز خمسة عشر عاما. ومن ثمرات هذا الجهاد كتابان تفضل بهما على مؤلفاهما الكريمان وآنا في مصر، وأول الكتابين (السقيفة) لفضيلة الأستاذ محمد رضا المظفر معتمد الجمعية، وثانيهما (شاعر العقيدة) للأستاذ محمد تقي الحكيم سكرتير الجمعية، أما الأول فليس من السهل أن أتحدث عنه دون أن أتوفر على دراسة التأريخ الذي تكونت منه فصول الكتاب، وكنت أود أن يكون غيري هو الذي يكتب عنه، لذلك سأتناول الكتاب الثاني بشيء من العرض والتعريف وتسجيل بعض الملاحظات بقدر ما تسمح به صفحات الرسالة.

(شاعر العقيدة) _كما أراد أن يسميه الكاتب_هو السيد إسماعيل بن محمد الحميري وقد أدرك أواخر العصر الأموي وعاش بقية حياته في ظلال العصر العباسي حيث تتصارع الأفكار السياسية والعقائد الدينية وتتشعب الدروب بسالكيها شعبا متعددة، فهناك بقايا الخوارج الذائبين، وشيعة تجمعهم هذه الكلمة في معناها المادي وتفترق بهم مناحي التشيع في مسالك شتى. وهناك طائفة السنة التي كانت تسيطر على السياسة والحكم، وفي هذا المظطرب الواسع كان السيد الحميري بصطرع مع السياسة والعقائد حتى استقر به المطاف على مذهب التشيع السائد الآن في العراق. وكان تأثير السياسة والعقائد واضحا في شعره وبخاصة الظاهرة الأساسية من ظواهر التشيع وهي (الإمانة) فقد كان بلح بشعره على حديث البيعة وقصة (غديرخم) التي كانت بعد حجة الوداع كم ترويها الكتب التي أوصلها المؤلف إلى ثلثمائة، ومعظمها_كما يقرر_مروى عن طريق السنة.

وقد أراد المؤلف الفاضل أن يلم بدراسة هذا الشاعر ويستخرج من المصادر المتفرقة صورة تطمئن إليها النفس عن نسبه وحياته العقلية والمادية والأدبية والدينية، وقسم الكاتب إلى قسمين: أولها: في نشأة الذي بصور هذه العقيدة، وثانيها: دراسة هذا الشعر على ضوء النقد والتحليل، وقد وفق الكاتب في القسم الأول حين عرض لنشأة الشاعر في البصرة وتطوره من خارجي_ورث ذلك عن أبويه_إلى شيعي كيساني فجعفري. وصراعه مع أبويه اللذين ينكر عليهما بغضهما الإمام عليا وينكران عليه تشيعه، كما أن وصف البصرة وما فيها من حلقات علمية ودينية واختلاف السيد الحميري إلى هذه الحلقات التي انتهى منها بالتشيع، وتحدث عن صلته ببقايا الأمويين ثم العباسيين. وقد كان في كل ذلك يقارن ويوازن ويدرس الروايات المتناثرة ثم ينتهي منها إلى رأي أو حكم لا يخلوان من أصالة في معظم الأحيان. ولكن الذي يؤاخذ عليه الكاتب الفاضل أنه وزع البحث توزيعا يكاد يضطرب على القارئ فهو لم يعقد فصلا خاصا عن اثر العقيدة في الشعر الحميري بل نثر هذه الظاهرة البارزة في أماكن مختلفة لو أنيح لها أن تلتقي في مكان واحد لكانت فصلا قيما. ولعل هذا العنوان الذي اختاره الكاتب يكاد يتضاءل عند التطبيق على فصول الكتاب. فقد كان الأجدر به أن يعقد فصلا خاصا بالبيئة العصرية في مختلف نواحيها، وفصلا عن نشأة الشاعر والنقلات المذهبية التي رافقت حياته، ثم فضلا عن أثر هذه العقائد في شعره إلى جانب الأثر القبلي، وأن يكون البحث في صلة برجال الحكم والسياسة مستقلا ألا بمقدار ما يتصل بالعقيدة. على أنني لا أنكر_كما قلت_أن الكاتب قد تعرض لذلك بإسهاب ولكن منهج البحث قد أضطرب عليه. أو أنه أختار لنفسه منهجا أدى به إلى هذا التقسيم المشوش. وإذا كان الكاتب قد استعان_كما يقول_بعلم الاجتماع وعلم النفس وغيرهما فإن استعانته تكاد تتضاءل في المواطن المهمة ومنها تصوير المجتمع تصويرا واضحا ليصل منه إلى دراسة الشاعر دراسة واضحة، ثم دراسة العقيدة الدينية من حيث هي بوصفها ظاهرة اجتماعية وبوصفها عاملا قويا في تكوين حياة المرء وسلوكه الخارجي وما ينتجه هذا السلوك من صور أدبية، ثم تطبيق هذا الإنتاج على مظاهر تلك العقيدة، لا شك أن اضطراب المنهج أضاع على الكاتب أن يجعل من تلك الدراسة المتينة فصولا يستقل أحدهما من الآخر ليصح معها التدرج المنهجي، وهذا الاضطراب هو الذي أوقع الكاتب في زاوية ضيقة المنافذ حين تحدث عن صلة الشاعر بالعصر الأموي المحتضر وموقفه من ذلك العصر فقد قال:

(. . وقد كان لها_أى الدولة الأموية_من سياستها (المكيافيلية) الوصولية التي تبرز في سبيل السلوك إلى غايتها أية وسيلة دنيئة ما يحسس الرأى العام ويحفزه إلى نقد أعمالها والنقمة عليها. . . وهذا ما يعلل كثرة الناهضين عليهم من القادة والعاملين على تقليص نفوذهم. على أن كثيرا من الناس_ومنهم صاحبنا_كانوا لا يقرون لها خلافة ولا يرونهم أهلالها مع وجود أربابها الشرعيين من أهل البيت.)

ألست هذه العبارة مضطربة لا تلتقي عند النقطة التي يجب أن تلتقي عندها في حياة الشاعر وعقيدته، فلو أن الكاتب الفاضل أشار إلى العقيدة الإسلامية من حيث هي وتعرض للنص الصريح في الصفات التي يجب أن تتوفر في الخليفة واعتقاد الشاعر هذا النص لانتهى إلى تحديد الثورة عند الشاعر واكتفى بالفقرة الأخيرة ولم يتعرض إلى سياسة الأمويين (الميكيافيلية) فالثورة هنا هي ثورة عقيدة دينية هاشمية علوية لا ثورة على السياسة (الميكيافيلية) لأن العباسيين لم يكونوا بأقل (ميكيافيلية) من الأمويين؛ ومع ذلك فإن الشاعر وقف يمدحهم ويؤيدهم. وقد أشار الكاتب الفاضل إلى هذه النقطة الأخيرة متفقا مع الدكتور طه حسين في حديث الأربعاء في مدح السيد الحميري للعباسيين وأنه لم يكن عن تقية: (لأنهم من بني هاشم وبنو هاشم بالنسبة إليه على حد سواء).

أما دراسة هذا الشعر من حيث قيمته الفنية ومقدار استجابته للصدق في التعبير والشعور فقد كان الكاتب موفقا إلى حد كبير فيها، وقد تعرض لمقدار الثروة الشعرية التي خلفها، واضطراب الرواة في تقدير هذه الثروة، وأشار إلى آراء النقاد الأقدمين في قيمة هذا الشعر، وأضاف إليها شيئا من آراء المحدثين_وقد أعجبتني من الكاتب لفتته البارعة إلى شعر الحميري بقوله:

(فبعضه يرتفع بصاحبه إلى القمة وبعضه الأخر يهبط به إلى الحضيض، ووسط بين هذا وذاك.) كما أنه أشار إلى أن بعض هذا الشعر يكاد يدس على الشاعر وينسب إليه نسبة لا تليق بذلك العصر. هذه لفتة بارعة_كما قلت_وقد عرض عليها بعض القصائد المدسوسة، أو التي أنحط بها الشاعر، ولكنه نسى أن يعرض عليها قصيدته المشهورة التي شغلت شيئا من جهد الكاتب في معرض الحديث وهي:

لأم عمرو باللوى مربع ... طامسة أعلامها بلقع

أني أشك في كثير من أبيات هذه القصيدة لا لفكرتها وموضوعها ولكن لموسيقاها اللفظية وانسجامها مع ذلك العصر الذي اشتهر بجودة الاختيار وحسن الإيقاع، فقوله:

فعنها قام النبي الذي ... كان بما يؤمر به يصدع

يخطب مأمورا وفي كفه ... كف على ظاهرا تلمع

رافعها، أكرم بكف الذي ... يرفع والكف (الذي) يرفع

إنها فكرة السيد الحميري التي يرددها في معظم قصائده ولكنها ليست موسيقاه ولا ألفاظه بغض النظر عما في بعض أبياتها من اضطراب في النحو واللغة.

وقد كنت أود ألا يقتحم الكاتب باب الغزل والنسيب وما يتصل بالمرأة في هذا الكتاب لأن العنوان لا يتحمل أن يندرج فيه ما ليس منه.

أما أسلوب الكتاب فيبدو قصصيا في بعض الصفحات وبخاصة في حديثه عن نشأة الشاعر الأولى، وخطابيا في بعضها الآخر، وهو في الأول متأثر بأسلوب الدكتور طه حسين.

ومهما يكن من شيء فإن في الكتاب ذخيرة من بحث وإطلاع لا يتوفران إلا للقليل من الشباب الباحثين، ولعله من خير ما كتب عن السيد الحميري في الأيام الخيرة. وإذا كانت هناك ملاحظات أخرى فهي ملاحظات شكلية تتعلق بطبع الكتاب فقد كنت أود أن يطبع طبعا معتنى به، ولقد نسيت أن أقول أنه الحلقة الحادية عشر من سلسلة (حديث الشهر) التي يصدرها في بغداد السيد عبد الأمير السبيتي وهذا جهد يشكر عليه.

القاهرة

إبراهيم الوائلي