مجلة الرسالة/العدد 924/الدين والسلوك الإنساني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 924/الدين والسلوك الإنساني

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 03 - 1951


6 - الدين والسلوك الإنساني

للأستاذ عمر حليق

الطقوس الدينية

اقتدى كاتب هذه السطور في هذا الجزء من دراسته بالبروفسور واخ وتصنيفه الاختبار الديني في ثلاثة هي العقائد والطقوس الدينية والنتائج الاجتماعية لكل منهما.

ولقد عالجنا فيما سبق علاقة الاختبار الديني بالعقيدة فلنحاول أن نتعرف الآن مكانة الطقوس والعبادات الدينية في هذا الاختبار.

ولنا أن نبدأ فنسجل أن هناك تواكلا وتكاليف بين العقيدة والطقوس المعبرة عنها. فالعقيدة والإيمان الصادق بها يوحي بها إلى الفرد والجماعة ألواناً من التعبير هي ما اصطلح الناس على تسميتها بالطقوس والعبادة، فالأولى يمكن أن تحسب (ولو على سبيل الدلالة) في عداد النظريات والنشاط الفكري والروحي، والثانية تعد من قبيل النشاط العملي (الجسماني).

ففي رأي البروفسور (واليس) أن الطقوس الدينية والعبادات ليست مجرد تقليد جاء بطريق الصدفة، وإنما هو تعبير أصيل للعقيدة الدينية التي تتوخى أن تنفذ إلى كل ما في الكيان الانساني؛ فلا تقتصر على الاتصال والتأثير بالمشاعر الروحية الحاسة وإنما تتعمد الوصول إلى الناحية المادية (الفيزيولوجية) في ذلك الكيان.

وقد اصطلح علماء الانتروبولوجيا على تصنيف العبادات الدينية أربعة أصناف هي: -

(1) الحفلات والطقوس الدينية

(2) الرموز

(3) المقدسات (الملموسة والمحسوسة)

(4) الضحايا (بمعناها الديني)

وللطقوس الدينية مكانة أصيلة في السلوك الديني. ولعل الخطأ الجوهري في حملة الطبيعيين والماديين على الدين مرجعه خلطهم الناحية المنطقية (النشاط الفكري) في الدين بالنشاط العملي (الجسماني) الذي يعبر عنها كالصلاة وضحايا الأعياد والحفلات الدينية وما إلى ذلك من ألوان ذلك النشاط.

ومما لا ريب فيه أن الطقوس الدينية على غرابة بعض ألوانها وشذوذه هي جزء جوهر من الحياة الدينية ومتممة للناحية المنطقية والفكرية في السلوك الديني.

وقد حلل روبرت سميث هذه الصلة بين الطقوس والعقيدة الدينية تحليلا في كتابه الشهير عن ديانات الساميين وسنده في ذلك بعض المحدثين من علماء الانثروبولجيا منهم (لووي) و (مانيلوفسكي).

فقد وجد روبرت سميت أن في اليهودية والكاثوليكية والأرثوذكسية الشرقية (الكنيسة البزنطية) ثروة من الطقوس والرمزيات، بينما خلت الديانة الإسلامية منها. اللهم إلا في ضحايا عيد الأضحى وبعض ما دخل على الإسلام من طقوس كتلك التي يمارسها في بعض المواسم الخاصة أتباع الطرق الصوفية. ومما لا ريب فيه أن هذه الطقوس لم تكن في صلب الإسلام وإنما وجدت سبيلها إلى بعض أتباعه عن طريق الديانات الآرية (الفارسية) والهندية. والطقوس في الديانات الآرية كالبوذية والبرهمانية والزرادشتية تؤلف عنصرا رئيسيا بارزاً في الحياة الدينية للجماعات التي تدين بها.

وخلاصة القول في تمازج العقيدة الدينية بالطقوس المعبرة عنها وتكافلها تضامنها في توجيه السلوك الديني - خلاصة القول أن الطقوس تختلف باختلاف العقيدة والمكان والزمان. وقد تكون هذه الطقوس في حياة جماعة الناس منسقة لها طابع تقليدي خاص يعبر عن روح الجماعة. وقد تكون فردية يصوغها المؤمن في قالب شخصي فتكون معبرة عن انفعالاته الخاصة.

وفي تاريخ الديانات صراع مزمن مستمر بين الطقوس التقليدية التي تعبر تعبيراً جماعيا (نسبة إلى الجماعة) وتلك التي لها طابع فردي ومن هذا الصراع نشأ الإلحاد والمدارس المتطاحنة التي عالجت مسألة الدين عقيدة وسلوكا. وهذا الصراع كان على نوعين:

إلحادي ينفر من الدين وينفر الناس منه. ونوع آخر إصلاحي أهدافه الخروج على التقاليد والسعي لصياغتها في قوالب تختلف باختلاف اجتهاد المصلحين في تفهم وظيفة الدين.

ومهما يكن من الأمر في هذا الصراع، فالذي يعنينا منه في هذه المرحلة من بحثنا هذا هو أن نقرر ما سبق أن قرره (ديركهايم) الذي لم يكن همه أن يتعرف على طبيعة هذه الطقوس الدينية بقدر ما كان يرجوه من إدراك لفحوى القيم الروحية والمعاني والمثل الأخلاقية التي تمثلها وترمز إليها وتعبر عنها.

وعلى ضوء علم النفس الاجتماعي فإن للطقوس الدينية كذلك ناحية إيجابية أخرى. فقد كتب أحد فلاسفة الكنيسة الكاثوليكية في معرض دفاعه عن التقاليد التي احتفظت بها الكنيسة الكاثوليكية منذ نشوئها وانتقاد البروتستانتية الحديثة لهذه التقاليد فقال:

(إن المسيحي بمفرده ليس مسيحيا فقط، وهو يعني بذلك أن اقتصار الاختبار الديني على الفرد دون الجماعة لا يفي بالنتائج الاجتماعية التي ينطوي عليها الاختبار الديني والتي هي من الوظائف الأساسية للدين).

فصلاة الجماعة فضلا عن وظيفتها الاجتماعية من حيث أنها تجمع المؤمنين على الفضيلة في صعيد واحد فإن لها وظيفة نفسانية (سيكولوجية) كبيرة النفع.

فإن التعبير المشترك بين الجماعة عن المشاعر الروحية إثبات لحقيقة هذا الشعور. فالمرء إذا خلا لنفسه يحاسبها ويستعرض أمامها مشاكله الروحية والاجتماعية فقد يميل إلى القنوط ويبالغ في عجزه أو مقدرته على مواجهة هذه المشاكل. والمرء مهما ارتقت مداركه واحساساته واطلاعه على نواحي الخير والشر في السلوك الإنساني عاجز عن التعرف على حقيقة مكانه في الكون؛ فمشاكل الكون النفسانية والمادية والاجتماعية معقدة وعرة المسالك. فإذا تسنى للمرء أن يندمج في جماعة من الناس تشعر بما يشعر وتبحث عما يبحث من الطمأنينة والرضى فهو لا شك مرتاح ومستكين. والحياة اليومية أقسى من أن توفر للفرد جوا يستطيع أن يخلد فيه إلى الطمأنينة والرضى. والمساجد وبيوت الله والهدوء والسكينة التي تحيط بها توفر له ولإخوانه المؤمنين ذلك الجو المنشود يستوحي القدرة منه على التأمل ويستمد الشجاعة الأدبية ويحاسب نفسه على الصالح والطالح. فصوت الله جل جلاله يستدعي الخشوع والانطلاق من قيود النفس والمادة.

فإذا استطاع المريض أن يتلمس في خجل واستحياء نوعا من الطمأنينة في عيادة الطبيب النفساني يستلهمه علاج النفس من آلامها فإن بيوت الله أرحب صدرا وأكثر مهابة. ففي كل فقرة من آيات الذكر عظة وفي كل آية حكمة وبلاغة يتراجع أمامها خجلا واستحياء علم الطبيب النفساني. وبعد فإن علم النفس لا يعالج إلا النفس القلقة المضطربة التي تعتقد أن العقيدة الراسخة فيها أصبحت فريدة العقد النفسانية والأزمات الروحية.

والمرء حين يجد في بيوت الله من يشاركه هذا الالتماس ويرجو مثل الطمأنينة التي يرجوها يزداد ثقة وينطلق في محاسبة النفس والتماس العلاج.

والبروتستانتية المعاصرة مثلا تفخر بأنها تجاري التطور في الحرية الفردية، وأن هذه الحرية يجب أن تشمل الدين كما شملت السياسة والاقتصاد ولذلك أطلقت العنان للمؤمنين فانتهجت كل جماعة وسيلة جديدة من وسائل الاختبار الديني.

وإذا جاز للمطلعين على حاضر البروتستانتية أن يكبروا مساهمتها في إطلاق قيود الفكر المسيحي من جمود القرون الوسطى فإن لنا أن نسجل هنا أن هذه المساهمة قد أولت في كثر من الحالات قلقاً فكريا وروحا عاطفيا انتهج في الآونة الأخيرة نهجين: - نهجا وجد في القانون المدني وآدابه ومثله العليا استعاضة عن الدين فلم يشف غليله، وإنما أشكل عليه الأمر كما تشهد بذلك المشاكل النفسانية العميقة التي تعيش في الشعوب البروتستانتية. والنهج الثاني عكوف عن هذا الانطلاق المتطرف وتحديده بقيود أسسها إحياء الاختبار الديني على أساس السلوك الجماعي لا الفردي.

فالكنائس البروتستانتية في أمريكا وبريطانيا - وقد تأثرت بالحرية الفردية إلى أقصى حد - أخذت في الآونة الأخيرة تعلن عن بضاعتها في شتى أنواع الإغراء. فهي تنظم الحفلات الاجتماعية في المواسم الدينية وأيام الآحاد وتستهوي الناس للمشاركة فيها بتنويع البضاعة. وهي بضاعة في جوهرها روحية فاضلة ولكنها مشوبة ببعض ما يتنافى ومهابة الدين.

ولقد فطن الإنسان لهذه الناحية النفسانية في صلاة الجماعة، ومع أنه أبقى على الحرية الفردية في العبادات إبقاء شاملا إلا انه شرع صلاة الجمعة والأعياد وصاغها في قالب بسيط خلا من المؤثرات وأبقى على المهابة والجلال التي تليق بالدين ومعاقله؛ وما ذلك إلا لأن الإسلام - وهو عقيدة إلهية راسخة - يعتمد على الإقناع أكثر من اعتماده على الترغيب والاستمالة. والمرء إذا اقتنع كبرت لديه الغاية وهانت الوسيلة.

ومهما يكن من الأمر فإن العبادات (كما قال ماكموري) ليست مجرد وسيلة من وسائل الاختبار الديني فحسب بل هي فوق ذلك دافع من أهم الدوافع لاستمراره. فهي إذن بالرغم من تحامل بعض الدنيويين على غرابة طقوسها جزء جوهري من وظيفة الدين.

وعالج السيد محمد رشيد رضا في كتابه (الوحي المحمدي) عبادة الفرد والجماعة في فصل من ذلك الكتاب تحت عنوان (التقوى الخاصة والعامة) وعاقبتهما فقال: - (أن النور في العلم الذي لا يصل إليه طالب إلا بالتقوى هو الحكمة. فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم (65 بـ 2 ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب. ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا. ومن يتق الله يكفر عنه سيآته ويعظم له أجرا)

ومعنى التقوى العام عند السيد رضا هو (اتقاء كل ما يضر الإنسان وفي نفسه وفي جنسه الإنساني القريب والبعيد وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والغايات الحسنة والكمال الممكن) ولذلك قال العلماء إنها عبارة عن ترك جميع الذنوب والمعاصي وفعل ما يستطاع من الطاعات. وزدنا على ذلك اتقاء الأسباب الدنيوية المانعة من الكمال وسعادة الدارين بحسب سنن الله تعالى في الكون. . . ومن ثم كانت ثمرة التقوى العامة الكاملة هنا حصول ملكة الفرقان التي يفرق صاحبها بنوره بين الأشياء التي تعرض له من علم وحكم وعمل، فيفصل فيها بين ما يجب قوله وما يجب رفضه وبين ما ينبغي فعله وما يجب تركه).

أما سنة القرآن في الإرشاد إلى العبادات فهي عند السيد رشيد

رضا (بيان أصولها ومجامعها وتكرار التذكير بها بالإجمال.

وأكثر ما يحث عليه من العبادات الصلاة التي هي العبادة

الروحية العليا والاجتماعية المثلى. فقد كرر القرآن الأمر بها

في آيات كثيرة (29 بـ 45) اتل ما أوحي إليك من الكتاب

وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر

الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون). وقوله (70، 19 إن الإنسان

خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا،

إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين في

أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم.) (صفحة 165167 من

كتاب الوحي المحمدي) وسواء أقام المنكرون للدين أو المصلحون له يجادلونه في نواحيه الفكرية الرمزية أو في نواحيه العملية من طقوس وعبادات وما إليها، فإن الحقيقة التي لا تقبل الجدل أن للدين وظيفة أساسية في السلوك الإنساني (فرديا كان أم جماعيا) لم يبطلها تطور الفكر والاكتشافات العلمية قديمها وحديثها. وكل ما فعله هذا التطور أن أفسد على الدين بعض وظائفه دون أن يستطيع بناء ما هدم.

فإذا كان للدين - إذن - هذه الوظيفة الاجتماعية الهامة فلنحاول فيما بعد أن نتعرف جوهر النتائج الاجتماعية للاختبار الديني.

نيويورك

للبحث صلة

عمر حليق