مجلة الرسالة/العدد 921/من رجال الفكر في تركيا:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 921/من رجال الفكر في تركيا:

مجلة الرسالة - العدد 921
من رجال الفكر في تركيا:
ملاحظات: بتاريخ: 26 - 02 - 1951



فؤاد كوبريلي

للأستاذ عطا الله طرزي باشي

تحدثت إلى القراء في عدد مضى من الرسالة عن المفكر التركي الكبير ضياء كوك آلب وعن أثره العظيم في تنشئة جيل يفهم للقومية معنى صالحاً، ويقيم للإنسانية وزناً عادلاً.

وأعود إليهم اليوم لأحدثهم عن أحد تلامذته المعروفين في الأوساط العلمية العالية، وأعني به العلامة فؤاد كوبريلي الذي سطع نجمه في تلك الأوساط بما أسداه من خدمات جليلة في رفع شأن الأدب الشرقي؛ وإلباسه تاريخ التصوف ثوباً قشيباً من نسج الحقيقة؛ فنال بذلك استحسان الأندية الثقافية وكوفئ بشهاداتها العالية وأوسمتها البهية الغالية التي لم يفز بها أحد من علماء الترك قبله، فاستحق من جانب الحكومة التركية كل إعجاب وتقدير، حتى ضمته الأمة إلى صدرها فكان كوبريلي من بين الثلاثة الذين أسسوا الحزب الديمقراطي في تركيا وذلك سنة 1946. فهو اليوم بلا شك قطب من أقطاب السياسة الذين يديرون دفة الحكم في تركيا.

ولنضرب في هذه العاجلة صفحاً من حياته السياسية القصيرة التي لا تتجاوز العشر سنوات الأخيرة من عمره، ونجعل موضوع بحثنا يدور حول ترجمة مختصرة لحياته، ودراسة مجملة لآثاره، وأخيراً ذكر أقوال الكبار من المستشرقين والعلماء فيه.

ولد كوبريلي في سنة 1890م بمدينة الآستانة من عائلة (كوبريلي) المشهورة في التاريخ العثماني برجالاتها البارزين في السياسة والتنظيم، والمعروفين بنشر الثقافة والتعليم.

وكان هو خلال دراسته الثانوية والجامعية (حيث درس في كلية الحقوق) مثالاً للجد والنشاط فتميز بين أقرانه بذكائه الوقاد وامتاز عليهم بما كان ينشره بين حين وآخر من البحوث القيمة والمواضيع الشيقة في الأدب والتاريخ مما لفت غليه الأنظار فاهتمت به الحكومة إذ رأت أن الحاجة إليه عاجلة فعينته مدرساً في كلية دار القانون قبل أن ينال شهادة الحقوق ودون أن يتجاوز سن الثالثة والعشرين.

وقد درس كوبريلي التاريخ السياسي في المدرسة الملكية (كلية السياسة) وتاريخ المدنية في معهد الفنون الجميلة في حين أنه كان أستاذاً محاضراً في كلية الشريعة.

وفي سنة 1924عين عميداً لكلية الفنون كما عين في نفس السنة مستشاراً في وزارة المعارف.

وفي سنة 1925 اختارته أكاديميا العلوم الروسية عضواً مراسلاً لها.

وفي سنة 1927 أصبح رئيساً لجمعية التاريخ التركي وانتخب عضواً فخرياً في الجمعية العلمية المجرية وفي نفس السنة أيضاً منحته جامعة (هايد لبرغ) شهادة دكتوراة فخرية في الفلسفة. وانتخب في سنة 1929 عضواً في جمعية الشرق التشيكوسلوفاكية وعضواً في معهد (الاركيولوجي) الألماني.

وفي سنة 1937 نال شهادة دكتوراة فخرية من جامعة أثينا كما نال في سنة 1939 شهادة دكتوراة من جامعة (السوربون) الفرنسية.

وقد جمع محاضراته التي ألقاها في هذه الجامعة الأخيرة في كتاب '

ومؤلفات هذا المفكر كثيرة جداً أغلبها في اللغة والتاريخ والاجتماع والأدب. وقد أسس في تركيا مجلات علمية وأدبية مختلفة كما ساهم في تحرير عدد غير قليل من المجلات التركية والأجنبية، وكتب في أصل دائرة المعارف الإسلامية بعض مواد هامة كانت موضع إعجاب العلماء والمفكرين. فنشرت تلك الأبحاث عند صدور تلك الانسيكلوبيديا.

ومن آثاره كتاب كتبه باللغة الفرنسية، ومنها كتاب (دراسات في التاريخ الديني في الأناضول) كتبه باللغة الألمانية ونشره في سنة 1922.

وألف بالاشتراك مع الأستاذ برتولد كتاب تاريخ التمدن الإسلامي إذ كتب القسم الأول من الكتاب الأستاذ (بارثولد) فأكمله الأستاذ كوبريلي. وكتابه.

(تاريخ الأدب التركي) الصادر في سنة 1926 يعد مفخرة من مفاخر التأليف التركي، إذ هو المصدر الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في استنباط الحقائق الأدبية فهو يتميز عن سواه بغزارة المادة ورقة الأسلوب وصحة البحث والوضع المحكم، حتى قال عنه البروفيسور. أحد أعضاء أكاديمية العلوم في (فيانه): (إن الأثر الخالد يعد تاريخاً لآداب الأقوام التركية الساكنة في المناطق الممتدة بين ساحل الإدرياتيك وحدود الصين.

وإنه لا يقتصر نفعه على العلماء المشتغلين في هذا الحقل؛ بل هو دليل لكل من يروم الاطلاع على ثقافة تلك الشعوب الآسيوية عن كثب. .).

وكتابه (المتصوفون الأوائل) أحدث حين صدوره دوياً هائلاً في الأوساط العلمية وتردد صداه في كافة أنحاء العالم. فقد نشر البروفيسور هيار عضو المعهد الفرنسي بمناسبة صدور هذا الكتاب مقالاً جاء فيه: (إن هذا الثر العظيم لم يوضع ليعطي لنا معلومات جديدة صافية، وإنما هو أثر خالد يرشدنا إلى أساليب تطبيقية مبتكرة في أصول النقد الأدبي والتاريخي. . وإذا وجد من يدرسونه بإتقان - وسيكون الباحثون عنه كثيراً - لرأوه فاتحة دور عظيم. .).

وتحدث عن الكتاب نفسه الأستاذ بجامعة بودابست بقوله (حقا أن الجهود التي يبذلها الأستاذ فؤاد كوبريلي - ومن معه من تلاميذه - ستكسب تاريخ الأدب في تركيا لوناً يجعله في موضع لائق بين تواريخ الأدب للأمم الأخرى. .) وهكذا نرى أن إعجاب العلماء والمفكرين بالأستاذ كوبريلي يزداد يوم بعد يوم. وكلما أهدى إلى المكتبة الشرقية أثر ثمين وجدناه في كل مرة يسجل انتصارا باهرا في تاريخ الأدب التركي؛ فقد جعله حافلاً بصفات بارزة ممتازة، وأعطاه مزاياه البديعة التي كانت كامنة بين طيات الكتب المختفية في جوانح المكتبات.

وله أبحاث جد قيمة في تاريخ التصوف الإسلامي. وهي دراسات عميقة للطوائف والنحل والشيع الإسلامية في مختلف العصور، تبحث في آداب هذه الأقوام وتاريخها ومعتقداتها وشعارها. . .

وفي هذا يقول المؤرخ العراقي المعروف الأستاذ عباس العزاوي، وقد زار كوبريلي في سنة 1937 في استنبول: (إنه يعد من اشهر المدققين في الآداب والنحل، له تتبعات في نواح علمية لها مكانتها من الثقافة التركية. . . ولا يركن في بحوثه كلها إلا إلى نصوص تاريخية، فهو من الموفقين في ذلك، ومقالاته في دائرة المعارف الإسلامية مهمة جداً.)

وقد قضى الأستاذ كوبريلي غالب أوقاته بين الكتب، فهو مغرم بها، ولا يهوى في الحياة غير البحث والتنقيب. وتعتبر خزانة كتبه في استنبول من أعظم الخزانات في الشرق بما تصمه من أنفس الكتب المخطوطة والمطبوعة. يفتحها للزائرين. ولا يبخل بعلمه على من هو في حاجة إليه. فقد قال عنه (إن دارة الشبيهة بالبرج المطلة على بحر مرمرة تحوي كنزاً من الجواهر الفكرية. . ولم يوجد من دخل فيها وتركها دون أن يحمل بين ضلوعه مودة وحبوراً، ويأخذ من بحر أفكاره بهجة وسروراً. . فيزود الزائر هناك من العلم والأدب ما يغنيه في مطلبه ويزجي له مقصده. . .)

ولقد أصاب بحق البروفيسور الروسي الكبير في مقال نشره عن الأستاذ فؤاد كوبريلي عندما قال: (إنه تمثال مجسم للثقافات الشرقية والغربية)

كركوك (العراق)

عطا الله ترزي باشي