مجلة الرسالة/العدد 921/خليل شيبوب في ذمة الله!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 921/خليل شيبوب في ذمة الله!

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 02 - 1951



للأستاذ منصور جاب الله

في مطالع عام 1921 كان المغفور له أحمد شوقي بك في الإسكندرية يتردد على (بنك الأراضي) بغية شراء أرض زراعية؛ وإذ أدخلوه القاعة التي يجلس فيها (رئيس قلم العقود)، بصر به شاباً قسيماً وسيماً قد انهمك في تصحيح تجارب مطبعية، وذهل عن كل ما حوله، فسأله أمير الشعراء عما يفعل، فأجاب أنه يصحح (بروفات) ديوان شعره. ودهش شوقي بك وسأله:

- أأنت شاعر؟

- لست شاعراً ولكنني أنظم الشعر أحياناً!

- هل لي أن أتشرف باسمك؟

- اسمي خليل شيبوب

ـ ومن كتب مقدمة ديوانك؟

- كتبها خليل مطران

- وتعرف مطراناً؟

- نعم أعرفه ويزورني في منزلي بعض الأحيان.

بهذه المحاورة نشأت صداقة خليل شيبوب لأمير الشعراء، وعرض عليه شوقي بك أن يكتب له مقدمة لديوانه تضاف إلى مقدمة شاعر القطرين، وإذ ذاك استطار (الشيبوب) فرحاً وقبل العرض شاكراً، وإذ كان الكتاب قد ثم طبعه، فإن المقدمة ألصقت به إلصاقاً. ومما نذكره منها الساعة قوله:

شيبوب ديوانك باكورة ... وفجرك الأول نور السبيل

ويعني بالفجر الأول اسم الديوان، فكذلك رأى خليل أن يسمي ديوانه رمزاً إلى شبابه الأول وغضارة العمر. وليس في قصيدة شوقي هذه جيد يذكر اللهم إلا قوله في الشعر عامة:

ما فيه عصري ولا دارس ... الدهر عمر للقريض الأصيل

ومنذ بضعة أعوام أقام السوريون واللبانيون في الإسكندرية حفلاً لتكريم المغفور له خليل مطران بك كان خطيبه الأول خليل شيبوب، وإذ قارب الحفل نهايته وقف خليل مطران وبايع لخليل شيبوب بخلافة الشعر من بعده، واعتز شيبوب بهذه (البيعة) لأنه كان يجل (المطران) ويجعل من نفسه حوارياً من حواريه وغاب عن مطران أن الأدب لا يورث، وليس فيه خلف ولا سلف. والحق أن (الشيبوب) كان أشعر في بابه من مطران، وإنما سبقه المطران غلى الشهرة لأن الذين في أيديهم أمور النشر والإذاعة رأوا أن يجعلوا منه ثالثاً لشوقي وحافظ. ولسنا نحب أن نناقش حجية هذا الرأي فنحن بصدد الكلام في خليل شيبوب ومذهبه في الشعر والأدب جميعاً.

والحق أن شيبوباً كان يتمذهب بمذهب خليل مطران في الشعر الوصفي الرمزي، فهو شاعر وصاف، والشاعر الوصاف ينزع أكثر ما ينزع إلى الناحية المادية، بيد أن شعر شيبوب في هذا المنحى أقوى من شعر مطران، فيه قوة نفتقدها في قريض شاعر القطرين وعاطفة مشوبة قل أن نعثر عليها في قصائد الوصافين من الشعراء المحدثين. ثم إن شيبوباً هو الذي يقول:

ليس بجسمي قطرة من دم ... لم تختبر حباً ولا تعشق

على أن خليل لم يفرغ الشعر مرة واحدة وإنما جعله هواية له في أوقات الفراغ أو في بعضها على الأصح فهو قارئ من الطراز الأول. اشهد أني ما رأيته إلا وفي يده كتاب يطالعه، أو يريد أن يطالعه، وتلك هوايته المفضلة في تزجية الوقت الثقيل.

ولكن صديقنا خليل شيبوب يروي لنا أنه أسرف على نفسه في شبابه الأول أو في فجره الأول، غير أننا لم نلحظ هذا الإسراف في مظهره، فالشيب لم يسلك سبيله إلى مفرقة حتى بعد أن ذرف على الستين أو جاوزها، بل بقى شعره فاحم السواد، حتى كنا نحن أصدقائه الخلصاء نداعبه ونعابثه قائلين له إنه من (المنظرين) الذين لا يموتون حتى يوم القيامة!

وكان الأستاذ شيبوب سوري الأصل ولد في اللاذقية موطن أبي العلاء، ولكن هواه إنما كان مصروفاً إلى لبنان لا إلى سوريا، ديدنه في ذلك ديدن النصارى من أهل الشام.

ولعل أحداً ممن نعموا بعشرة خليل شيبوب لا يصبح أو يمسي إلا ذاكراً طيب خلاله وجميل شمائله وحلو دعاباته ومتارفه البهيجة، فقد اعتاد أن يدعو أصفياءه إلى سهرات رائقة ومآدب مونقة، يتبادلون فيها إلى جانب الطعام الشهي والشراب الروي مستعذب الأفاكيه ومستغرب النوادر، ويتطارحون أبرع ألوان القريض.

وفي غضون الحرب المنقضية ضاق (الخليل) ذرعاً بظلام الإسكندرية وغاراتها المتوالية، فغادرها إلى أطراف المدينة (وفي الأطراف تغشى منازل الكرماء) حيث أقام لنفسه مغنى في صحراء سيد البشر، وهنالك بين المهامة البيد والتنائف الفيح، كان ينعقد مجلس الشعر، أو مجلس البحر كما سماه فيما بعد، وتدور على الحاضرين كؤوس الطلا مترعة، ويتسارقون ألواناً من أدب شيبوب وكرم شيبوب.

وأذكر أني زرته مرة في مغناه هذا، فهتف بي: هلم بنا يا أخي نتحرر من قيود المدينة واصفاد المدنية، هيا بنا إلى البادية الشاسعة نعش على الفطرة كآدم الأول.

وانطلقنا معاً في هاتيك التلال الرملية، وجمعنا حطباً أضرمنا فيه النار، ثم صنعنا شراب الشاهي السائغ، وأنشأنا نتذوقه رشفة بعد رشفة كما يفعل الأعراب المحيطون بنا في ذياك المكان البعيد.

ولقد سمعنا قبل أيام أديباً كبيراً يقول: إن خليل شيبوب كان بقية (اليازجية) الذين ملئوا ربوع الشام فضلاً وأدباً وعلماً، أو أنه كان امتداداً لعهدهم وإن لم يكن من سلالتهم. ولقد نبالغ نحن فنقول إن الخليل كان آخر من يستحق لقب (أديب) من طائفة الذين هبطوا الإسكندرية واتخذوها مستقراً ومقاماً. فليس فيهم - مع الأسف - الآن كاتب بارز ولا شاعر مبين.

ولقد تحدثنا فيما أنف عن شعر خليل شيبوب في إيجاز شديد ولا بأس من أن نورد فيما يلي نماذج من شعره فهو يصبو إلى الإسكندرية ويرسل فيها هذا اللحن العذب:

هداك بصدري حادث وقديم ... وعهدك عهدي راحل ومقيم

وأنت كما شاء الجمال حبيبه ... وأم كما شاء الحنان رءوم

فلو نطقت فيك الحجارة حدثت ... عن المجد مرفوع اللواء عظيم

وله قصيدة عنوانها (صوت الرجاء) يقول فيها:

السقم يأكل من عزمي وجلدي ... والحب يأكل من روحي ومن كبدي

لذا فزعت إلى الكاسات اشربها ... صرفاً وتشرب من عقلي ومن رشدي

أشكو غلى الخمر همي وهي تسلبني ... عقلي مخافة أن أشكو إلى أحد

ومن قوله في مصر: هي مصر فاتنة العصور عجيبة ... تقدمت الدنيا الورى فتقدموا؟

خطت لأثينا وروما منهجاً ... مشتا عليه فكان فيه المغنم

ويبين نثره أكثر ما يبين في كتابه عن (الجبرتي) إذ توفر الخليل على دراسة العصر المملوكي وألم بكثير من دقائقه. وقال بعض المتأدبين إنه كان ناثراً أكثر منه شاعراً. والحق أنه كان مقلاً في شعره متأنقاً في نثره.

ولقد كان الأستاذ خليل شيبوب يحيي مستهل هذا العام في بيته بحفل بهيج كما اعتاد أن يفعل كل عام، ولكن المرض ضربه فجأة، وأصابته ذبحة صدرية حادة، ثم تحول المرض إلى شلل، ففقد المنطق، وساءت حالته، وتعلقنا نحن الخلصاء من أصدقائه ومر يديه بين اليأس والرجاء، حتى إذا غربت شمس يوم السبت الثالث من فبراير الحالي غربت معها شمسه وفاضت نفسه، ففاض بنا الجزع من اجل هذا الأديب الكبير الذي فقدناه وهيهات أن نجد له بديلاً.

عوض الله فيه دولة الأدب والشعر، فقد كان خليل شيبوب أمة من الشعر والأدب.

منصور جاب الله