مجلة الرسالة/العدد 921/المكتبة العربية في عصر الحروب الصليببية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 921/المكتبة العربية في عصر الحروب الصليببية

مجلة الرسالة - العدد 921
المكتبة العربية في عصر الحروب الصليببية
ملاحظات: بتاريخ: 26 - 02 - 1951



للأستاذ أحمد أحمد بدوي

- 1 -

إن الدارس للحركة العقلية بمصر والشام في عصر الحروب الصليبية، يبهرة كثرة الإنتاج في فروع الثقافة المختلفة، ويرى أن البلاد لم تعش على ما وفد إليها من كتب ألفت في غير أرضها، بل ساهمت مساهمة كبيرة في النشاط العلمي والأدبي، ولا نزال إلى اليوم نعيش على بعض آثار ذلك العصر، ونعتز بما له من ثمار.

وقد تنوع الإنتاج يومئذ تنوعاً يدل على حركة علمية ناشطة، وحمل لواء هذه الحركة أعلام نابغون؛ فمن فقهاء على المذاهب الأربعة إلى نحاة، ولغويين، وعروضيين، ومحدثين، ومفسرين، ومقرئين، ومتكلمين، ورجال أدب، وبلاغة، ومؤرخين وجغرافيين، وعلماء بعلوم الأوائل من منطق وفلسفة وسياسة، وعلوم رياضية، ولم يخل العصر من فلكيين ومنجمين.

وساعد على ازدهار حركة الإنتاج ما كان يستطيع أن يصل إليه العلماء في الدولة من أسمى المناصب، ومالهم عند الشعوب من إجلال وتقدير، وما يظفرون به عند الخلفاء والسلاطين من تشجيع وتقريب.

وكان أحكام ذلك العصر مثقفين ثقافة ممتازة، ويحيطون أنفسهم بطبقة مصطفاة من المثقفين، ويغدقون عليهم، وللفاطميين من ذلك نصيب كبير: يروي أن المهذب بن النقاش لما وصل إلى الشام من بغداد، وكان فاضلاً في صناعة الطب، وأقام بدمشق مدة، ولم يحصل له ما يقوم بكفايته، وسمع بالديار المصرية، وأنعام الخلفاء فيها وكرمهم وإحسانهم إلى من يقصدهم، ولا سيما أرباب العلم والفضل، فتاقت نفسه إلى السفر، وتوجهت أمانيه إلى مصر، فوجد فيها ما كان يرجوه، وشهر من وزرائهم بحب العلم وتقريب العلماء وتشجيعهم الوزير الأفضل ابن بدر الجمالي.

أما نور الدين محمود فقد كان يجلب العلماء ويحتفي بكبارهم ويسكنهم الشام، ويبني لهم المدارس، ويغدق عليهم المرتبات، ويكاتبهم بخط يده. وافتدى به صلاح الدين في تشجيع العلماء وتقريبهم، حتى أن عبد اللطيف البغدادي عندما دخل دمشق وجد فيها من أعيان بغداد والبلاد ممن جمعهم الإحسان الصلاحي جمعاً كبيراً، وكان مجلس صلاح الدين حافلاً بأهل العلم، يتذاكرون في صنوف العلوم، وهو يحسن السماع والمشاركة حتى صار لكثرة مخالطته العلماء وأخذه عنهم كأنه من كبار الفقهاء يضرب في كل علم من علوم الدين بالسهم الصائب مع امتيازه في معرفة التاريخ، وولى بعده العرش في مصر ابنه العزيز عثمان، وهو مثقف، سمع الحديث بالإسكندرية من الحافظ السلفي، والفقيه أبي الطاهر بن عوف الزهري. وسمع بمصر من العلامة ابن بري النحوي اللغوي، وهو الذي رحب بمقدم عبد اللطيف البغدادي إلى مصر، وأجرى عليه من بيت المال ما يزيد على كفايته واستقدم الحسن بن الخطير من القدس، وأغدق عليه حتى أغناه.

فلما جاء العادل ساهم وإن كانت مساهمة قليلة في النهضة الفكرية، فأنشأ بمصر مدرسة للمالكية، وذلك لانصرافه إلى الحياة السياسية، وتثبيت دعائم العرش له ولبنيه، ولكن أبناءه كانوا أكرم الأبناء: نهوضاً بالعلم، وأخذ منه بأوفى نصيب، وتشجيعاً على الاغتراف من مناهله، ورفعاً لقواعد معاهده، فكان الكامل يحب أهل العلم ويؤثر مجالسهم، وبشغف بسماع الحديث النبوي وقد بنى له دار الحديث الكاملية بالقاهرة، وكان يناظر العلماء، وعنده مسائل غريبة من فقه ونحو، يمتحن بها، فمن أجاب عنها قدمه وحظى عنده، ويبيت عنده بالقلعة جماعة من أهل العلم بجانب سريره ليسامروه، فنفقت العلوم والآداب عنده وقصده أرباب الفضائل، فكان يطلق لمن يأتيه منهم الأرزاق الوافرة الدارة، ويجلس كل ليلة جمعة مجلساً لأهل العلم، ويشترك في المناقشات التي تجري فيه.

أما المعظم عيسى بالشام فكان مأمون بني أيوب، شجع العلماء وأكرم وفادتهم، وشاركهم في التأليف، وكذلك كان ابنه الناصر داود.

واقتدى المماليك بأساتذتهم الأيوبيين، وكانوا هم يزودون بالثقافات التي تؤلههم للوصول إلى مناصبهم، وشهر من بينهم في ذلك العصر الظاهر بيبرس فقد أخذ يقرب النابغين في كل علم وفن، وكان يميل إلى التاريخ وأهله ميلاً شديداً ويقول: سماع التاريخ أعظم من التجارب.

أما خليل بن قلاوون فكان مثقفاً ثقافة أدبية ممتازة استطاع أن ينقد ما يعرض عليه من المراسيم وأن يصلحها، ويطارح الأدباء بذهن رائق وذكاء مفرط.

- 2 -

وانتشرت دور العلم في ذلك العصر: فكان الجامع الأزهر أيام الفاطميين موطن دراسة الفقه الشيعي والمذهب الإسماعيلي، ونهضت دار الحكمة بالعلوم الفلسفية وربما كانت هذه العلوم تدرس بالأزهر كذلك؛ فقد كان الدعاة وهم أساتذة دار الحكمة يجلسون للتدريس في الجامع الأزهر أحيانا كثيرة؛ ولعل مذهب أهل السنة قد وجد سبيله إلى الأزهر في الأوقات التي ضعفت فيها حده الدعوة الإسماعيلي كما في عهد الأفضل والعادل بن السلار.

وإذا كان صلاح الدين قد ابطل الخطبة في الجامع الأزهر، وقضى على تدريس المذهب الشيعي فيه، فأن التدريس لم ينقطع منه، وها هوذا عبد اللطيف البغدادي يأتي أليه في العصر العادل، ويتردد عليه عشر سنين مستمعا إلى الأساتذة والمحاضرين حيناً، وقائماً بتدريس الطب والفلسفة والمنطق طرفي النهار حيناً آخر. وعاد الأزهر إلى نشاطه في عهد جيرس ومن جاء بعده.

وإلى جانب الأزهر كان جامع عمرو ينهض بعبئه في نشر الثقافة وإذاعتها، فتعددت به حلقات العلم في مختلف فروع الثقافة، وكان له الأثر فيها أكبر مما للأزهر، لأن أحدا ًلم يحاربه؛ كما قامت بعض المساجد في أرجاء البلاد بنصيبها من النهضة الثقافية.

وفي الشام كان الجامع الأموي بدمشق يؤدي الرسالة التي يقوم بها جامع عمرو في القاهرة، وكانت دمشق أبعد من أن تنالها آمال الصليبيين، فظلت الحركة العلمية بجامعيها العتيد، ونهض جامع حلب بنصيب في نشر الثقافة أيضاً.

وشاهد ذلك العصر بناء المدارس وانتشارها في مصر والشام، فأنشئت بالإسكندرية في عصر الفاطميين مدرستان في عهد الحافظ واحدة، وفي عهد الظافر للسلفي أخرى. وفي الشام أخذ نور الدين ينشئ المدارس ويستدعي نوابغ العلماء من الأقطار يبني لهم المدارس في أرجاء إمارته، حتى إذا جاء صلاح الدين تأثر خطا سلفه، فأنشأ كثيراً من المدارس في أرجاء إمبراطوريته بمصر والشام؛ فمن ذلك الصلاحية بالقاهرة للشافعية ولعلها كانت أكبر مدرسة في عصرها، والقمحية للمالكية، والسيوفية للحنفية، والصلاحية بالقدس، وقد أحصى فقهاء مدارس دمشق في عهده، فكانوا ستمائة فقيه.

واقتدى بصلاح الدين خلفاؤه من الأيوبيين، ومن جاء بعدهم من سلاطين المماليك، وساهم أمراء الأسرة المالكة وأميراتها وأمراء الدولة في إنشاء المدارس بمصر والشام كتقي الدين عمر الذي اشترى منازل العز أحد قصور الفاطميين بالقاهرة ووقفه مدرسة كما بنى بالفيوم مدرستين عندما كانت الفيوم إقطاعاً له، وبنى في الشام التقوية بدمشق، والمظفرية بحماة.

وأخذ بعض الوزراء بنصيبهم في إشادة دور العلم كما أسس القاضي الفاضل مدرسته الفاضلية وكانت من أعظم مدارس مصر وبنى المثرون من المعلمين وغيرهم مدارس وقفوا عليها أملاكاً تكفي للإنفاق عليها.

وهكذا حفل هذا العصر بإنشاء المدارس في أرجاء البلاد، فإنه لم يقف إنشاؤها عند العواصم فحسب، بل تعدتها إلى غيرها، فرأيناها تقام بالقاهرة والإسكندرية وقوص وإسنا وأسوان والفيوم؛ وفي دمشق وحلب والقدس وحمص وبعلبك، ولكن أكثر المدارس يومئذ كان بالقاهرة ودمشق، وقد بقى من أسماء المدارس التي عرفتها القاهرة يومئذ أكثر من اربعين مدرسة، ومما عرفته دمشق زهاء تسعين.

وقد تنوعت المدارس في هذا العصر، فكان منها معاهد لتدريس الحديث خاصة، وأخرى لتدريس الفقه، وبعضها للنحو، وأنشئت في القاهرة ودمشق وحلب مدارس خاصة بالطب، كما كان يدرس منهج الطب إلى جانب المواد الأخرى في بعض المدارس، وكان معنى التخصص أن المادة الأساسية فيها هي الفقه مثلاً، أما المواد الأخرى فكانت تدرس إلى جانب هذه المادة الأساسية.

(للكلام صلة)

أحمد بدوي