مجلة الرسالة/العدد 912/تعقيبات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 912/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 12 - 1950



للأستاذ أنور المعداوي

بعض الظواهر في حياتنا الأدبية:

(بين جمهرة القراء في اللغة العربية طائفة لا ترضى عن شيء، ولا تكف عن اقتراح! ولا تزال تحسب أنها تفرض الواجبات على الكتاب والمؤلفين، وليس عليها واجب تفرضه على نفسها. . إن كتبت في السياسة قالوا: ولم لا تكتب في الأدب؟ وإن كتبت في الأدب قالوا: ولم لا تكتب في القصة؟ وإن كتبت في القصة قالوا: ولم لا تكتب للمسرح أو للصور المتحركة؟ وإذا كتبت للمسرح والصور المتحركة قالوا: ولم لا تحي لنا تاريخنا القديم، ونحن في حاجة إلى إحياء ذلك التراث؟

وإذا أحييت ذلك التراث قالوا: دعنا بالله من هذا وانظر إلى تاريخنا الحديث فنحن أحق الناس بالكتابة فيه. . وإن جمعت بين هذه الأغراض كلها قالوا لك: والقطن؟ وشؤون القرض الجديد؟ ومسائل العمال! ورؤوس الأموال؟ وكل شيء إلا الذي تكتب لهم فيه!

وقد شبهت هذه الطائفة مرة بالطفل المدلل الممعود: يطلب كل طعام إلا الذي على المائدة، فهو وحده الطعام المرفوض. . إن قدمت له اللحم طلب السمك، وإن قدمت له الفاكهة طلب الحلوى، وإن قدمت له صنفاً من الحلوى، رفضه وطلب الصنف الآخر، وإن جمعت له بين هذه الأصناف تركها جميعاً وتشوق إلى العدس والفول، وكل مأكول غير الحاضر المبذول!

سر هذا الاشتهاء السقيم في هذه الطائفة معروف. سره أن الجمهور في بلادنا العربية لم (يتشكل) بعد على النحو الذي تشكلت به الجماهير القارئة في البلاد الأوربية. وإنما نعد الجمهور القارئ متشكلاً إذا وجدت فيه طائفة مستقلة لكل نوع من أنواع القراءة، وإن ندر ولم يتجاوز المشغولون به المئات. . وسنسمع المقترحات التي لا نهاية لها، ولا نزال نسمعها كثيراً حتى يتم لنا (التشكيل) المنشود وهو غير بعيد!

إننا لا نعتقد أن هنالك واجباً مفروضاً على الكاتب غير الإجادة في موضوعه الذي يتناوله كائناً ما كان. . وليس هناك موضوع يكتب كتابة حسنة ثم لا يستحق أن يقرأ ولا يفيد إذا قرء قراءة حسنة: فالبطل القديم الذي يدرس على الوجه الصحيح هو موضوع جديد في كل عصر من العصور. والبطل الحديث الذي يساء درسه خسارة على القارئ والكاتب والبطل المكتوب عنه؛ لأن العبرة بتناول الموضوع لا الموضوع، والعبرة بأسلوب العصر الذي نتوخاه وليست بالسنة التي يدور عليها الكلام. . فالكتابة عن سنة 1937 بأسلوب عتيق هي موضوع عتيق. والكتابة عن آدم وحواء بأحدث الأساليب العلمية أو النقدية هي موضوع الساعة الذي لا يبلى. وأولى من الاقتراح على الكتاب أن نقترح على القراء أن يقرءوا كل ما ينفعهم كيفما أختلف موضوعاته، لا أن نشجع (الولد المدلل الممعود) على رفض كل ما على المائدة وطلب كل ما عداه)!

هذه الكلمات ليست لي، ولكنها للأستاذ العقاد يوم أن كان يكتب للرسالة. . لقد ابتلي العقاد يومئذ بهذه الطائفة من المقترحين فكتب هذه الكلمات القيمة؛ وابتليت أنا بها في هذه الأيام فلم أجد في الرد عليها خيراً من هذا الذي كتبه العقاد!

ما أكثر المقترحين حقاً وما أكثر المعترضين. . قارئ يقول لي، في لهجة لا تخلوا من السخط والاحتجاج: لقد حدثتنا عن سار تر، وحدثتنا عن دستوفسكي، وحدثتنا عن شو، وحدثتنا عن بلزاك، وحدثتنا عمن ندري ولا ندري. . صدقني لقد شبعنا حديثاً عن الأدب والأدباء، وبقي أن تتجه بقلمك إلى تلك الجوانب الأخرى التي يضطرب فيها الأحياء من حولك؛ تلك الجوانب التي تصور واقع المجتمع الذي نعيش فيه. . يا أخي عندنا فقر ومرض وجهل، وعندنا من أخطار هذه الأمراض الاجتماعية ما هو كفيل بتحريك المشاعر وإثارة الأقلام، فإلى متى ستظل مشغولاً بغير وطنك، ومحلقاً في غير أفقك، وغافلاً أو متغافلاً عن هذه الصيحات (القومية) التي تنطلق من هذه البقعة من بقاع الشرق، لتفتح منافذ الفكر والشعور لتلك الصيحات (الفنية) التي تأتيك من بقاع الغرب؟! إن كلمة عن الفقير الذي يبحث عن لقمة العيش، أو الجاهل الذي يفتش عن أضواء العلم، أو عن المريض الذي يلتمس ثمن الدواء، لأجدى ألف مرة من فصل يكتب عن سار تر أو يكتب عن دستوفسكي أو يكتب عن برناردشو وبلزاك!

وقارئ آخر يقول لي، في لهجة لا تخلو هي أيضا من العجب والإنكار: يخيل إلينا أنك تحترم الأدب الغربي أكثر مما تحترم الأدب العربي، وتفضل ثقافة الأباعد على ثقافة الأقارب، وتقدر أولئك حيث لا يظفر منك هؤلاء بمثل هذا التقدير. . أو تعتقد أن في أدب الغرب ناقداً مثل عبد القاهر، أو كاتباً مثل الجاحظ، أو شاعراً مثل المتنبي، أو باحثاً مثل ابن خلدون، أو حكيماً مثل أبي العلاء؟ يا أخي عندنا في مجال الأدب والفكر أقطاب وأعلام، فلماذا لا تخصهم بمثل ما خصصت به الآخرين من البحث والدراسة، ومن النقد والمراجعة، ومن العرض الأمين الذي يبرز قيم المواهب والملكات؟ إن في التراث العربي كنوزاً تزخر بكل ما هو ثمين ونفيس، فلماذا لا تسمح لقلمك بأن يعرج على تلك الكنوز النادرة ليرفع عنها الغطاء؟!

وقارئ ثالث يقول لي، في لهجة تفيض بالأسف وتعج بالإشفاق: لماذا أهملت نقد الكتب كل هذا الإهمال؟ صحيح أن أكثر كتاباتك في النقد، ولكننا نريد نقد الكتب بالذات. . ترى هل أمسكت قلمك عن الكتابة لأن الإنتاج الأدبي في مصر لا يرضيك؟ وإذا كان ذلك كذلك، فهل من الأمانة العلمية أن تسكت عن العيوب لأنها عيوب، وتنصرف عن المآخذ لأنها مآخذ، وتشغل عن رسالة النقد مع أن أساسها الأول هو توجيه الخطى وتحديد الهدف وتمهيد الطريق؟ ألا تشعر أنك تتخلى عن ميدان نرى نحن القراء ما يكتنفه من أزمة في كتابه، وتجوس بقلمك خلال ميادين أخرى لا تشك أنت أنها تشكو التخمة التي تعقب الشبع والامتلاء؟!

وقارئ رابع يقول لي، في لهجة باطنها التذكير وظاهرها التأثير: لقد طرقت أبواب القصة في يوم من الأيام، وأثبت أن ملكتك القاصة لا تقل نضجاً وأصالة عن ملكتك الناقدة، فلماذا لا تترك النقد إلى القصة بعد أن عالجت كل فن من فنونه ونفذت إلى كل زاوية من زواياه؟ صدقني يا أستاذ أن القصة هي أكثر ألوان الأدب رواجاً وأحفلها بإقبال القراء، ومن الخير لقلمك أن يقبل على هذا الإنتاج الذي يتلاءم وشتى الميول وترضى عنه كافة الأذواق!

وقارئ خامس يقول لي، في لهجة يتوثب فيها الخيال وتنزي العاطفة: لست أدري لم تؤثر في هذه الأيام أن تخاطب العقول دون القلوب؟ أين (قصة الدموع التي شابت)، وأين (موكب الحرمان)، وأين تلك النفحات الوجدانية التي كنت تطالعنا بها من حين إلى حين؟ إن ومضات الفكر بما فيها من جفاف لتحوج أرض النفوس إلى قطرات من المطر، هذه القطرات المنعشة من أدب الشعور والوجدان!

وقارئ سادس وسابع وثامن، ورغبات متنافرة وأخرى متناقضة، وسبحان من يرضي جميع العباد. وأقف أنا حائراً بين أنصار الأدب وبين أنصار القصة، وبين أشياع الفن للفن، وبين أشياع الفن للمجتمع، وبين أصحاب الفكر وبين أصحاب العاطفة؛ ومصدر الحيرة أنني كتبت للجميع فلم أستطع أن أرضي الجميع، لأن كل فريق يريدني على أن أكتب وفق هواه!

لقد كتبت عن الفقر، وكتبت عن الجهل، وكتبت عن المرض، وكتبت عن هموم الشباب وحيرة الشباب، وكتبت عن القصة وفي القصة، وكتبت عن النقد وفي النقد، وكتبت عن أدباء الشرق وأدباء الغرب، وكتبت في مختلف الشؤون وفي أكثر الموضوعات: منها ما يتصل بالفن، ومنها ما يتصل بالفلسفة، ومنها ما يتصل بالتاريخ، ومنها ما يتصل بالسياسة، ومنها ما يتصل بالمجتمع. . ولكن المشكلة كما يتصورها الأستاذ العقاد فيبدع في التصوير، هي أن هذه الطائفة من المقترحين أشبه بالطفل المدلل الممعود: (يطلب كل طعام إلا الذي على المائدة، فهو وحده الطعام المرفوض. . إن قدمت له اللحم طلب السمك، وإن قدمت له الفاكهة طلب الحلوى، وإن قدمت له صنفاً من الحلوى رفضه وطلب الصنف الآخر، وإن جمعت له بين هذه الأصناف تركها جميعاً وتشوق إلى العدس والفول، وكل مأكول غير الحاضر المبذول)!.

إن ردي على هؤلاء المقترحين والمعترضين هو أن أقول لهم اليوم كما قال العقاد لأمثالهم بالأمس: إننا في الواقع لا نعتقد أن هناك واجباً مفروضاً على الكاتب غير الإجادة في موضوعه الذي يتناوله كائناً ما كان. وأولى من الاقتراح على الكاتب أن نقترح على القراء أن يقرءوا كل ما ينفعهم كيفما اختلفت موضوعاته، لا أن نشجع (الولد المدلل الممعود) على رفض كل ما على المائدة وطلب كل ما عداه!

في محيط الشعر والشعراء

قرأت في العدد الأخير من مجلة الرسالة الغراء ضمن تعقيباتك القيمة، كلمة الأستاذ محمد المهدي مجذوب، وهي الكلمة التي كتبها عن تلك المباراة الشعرية التي جعلتها بذوقك الرفيع مباراة نقدية. . لقد رأى الأستاذ - حسب ذوقه الخاص - أن الشوام أشعر من المصريين، فكان ردك على هذه الكلمة هو أنك قلت له: (وتبقى بعد هذا كله إشارة الأستاذ الفاضل إلى شعرائنا وشعراء الشام. . أتريد مقارنة؟ أرجو أن تنظر في شعر علي محمود طه، وأن تعيد النظر فيما كتبته عنه من فصول، ثم قارن أنت. . قارن بينه وبين شعر أبي ماضي، أو بينه وبين شعر أبي شبكة، أو بينه وبين شعر أبي ريشة)!

إن القارئ يفهم من هذه العبارة أنك تفضل علي محمود طه على غيره ممن ذكرت، ومع إعجابي بالشاعر الخالد وبخاصة بعد أن قرأت لك تلك الفصول القيمة التي كتبتها عن فنه وعطرت بها صفحات الرسالة؛ مع هذا فقد تذكرت أنك وضعت أبا ماضي في مكان عال من شعراء (الأدب النفسي)، حيث قلت في العدد (847) من الرسالة وكنت تقارن بين الشعر القديم والحديث: (وإذا قلنا الشعر العربي الحديث فإنما نعني ذلك الشعر الذي بدأت مرحلته الأولى بتلك المدرسة من بعض الشعراء الشيوخ وعلى رأسهم (شوقي) وبدأت مرحلته الثانية بتلك المدرسة الأخرى من بعض شعراء الشباب وعلى رأسهم (إيليا أبو ماضي)!

إنني يا سيدي الأستاذ أقارن بين ما كتبته اليوم وبين ما كتبته بالأمس، فأجد فارقاً كبيراً بين الكلمتين. فبالأمس كنت تضع أبا ماضي على رأس شعر الشباب ومنهم علي محمود طه، واليوم تقول إن علي محمود طه أشعر من هؤلاء ومنهم أبو ماضي، فهل غيرت رأيك في شعر الشاعرين فأنصفت اليوم علي طه كما أنصفت شوقي من قبل؟ ذلك ما أرجو معرفته. والسلام عليك ممن ينتظر كتبك الثلاثة وما يليها.

(محلة المرحوم)

السيد حنفي الشريف

أما أنني غيرت رأيي في شعر الشاعرين فأود أن أقول للأديب الفاضل إن شيئاً من هذا لم يحدث. . وأما أنني قد كتبت عن أبي ماضي بالأمس واضعاً إياه على رأس شعراء الشباب فأود أن أقول للأديب الفاضل مرة أخرى إن هذا قد حدث، وأزيد عليه أنني كنت أتوقع أن يذكرني قارئ فطن بهذا الذي كتبت، بعد أن رددت على الأستاذ مجذوب بما قد يوهم الكثيرين بأنه مناقض لما سبق أن قلت. . لقد كنت أتوقع من فطنة القراء مثل هذا التذكير لأروي هذه القصة، إنصافاً للحقيقة وإنصافاً للتأريخ: كان شاعرنا الخالد علي محمود طه يوم أن كتبت تلك الكلمة مقارناً بين الشعر القديم والشعر الحديث، كان رحمه الله صديقاً لي وكان على قيد الحياة. . وأمسكت بالتليفون لأتحدث إليه وهو وكيل لدار الكتب المصرية، لأتحدث عن موضوع تلك الكلمة ولأقول له: لقد كان يجب أن أضع اسمك بدلا عن اسم أبي ماضي على رأس شعراء الشباب، ولكن (صداقتي) لك قد ضغطت على قلمي حتى أرغمته على ألا يذكرك مع شديد إعجابه بك وعميق تقديره لك، ذلك لأن الناس قد دأبوا على اتهام الصداقة في مواقف النقد البريء والأحكام العادلة. . ومع ذلك فأعتقد أنني قد اخترت اسماً آخر لا يجادلني في اختياره إلا كل بعيد عن تذوق الشعر وكل منكر لمكانة الشعراء! وأجاب الشاعر الخالد رحمه الله في صوت مخلص ونبرات صادقة: إنني أقدر أبا ماضي وأقدر شعره، ولا أستطيع أبداً أن أعترض عليك حين تضعه في مكانه ثم لا تنس أن اختيارك لي كان كفيلاً بأن يعرضك لنوع آخر من الاتهام أعرف أنك تحاربه وتضيق به، وهو العصبية الإقليمية وذلك حين تضع على رأس شعراء الشيوخ والشباب شاعرين مصريين!!

من هذه القصة يتبين للأديب صاحب الرسالة أن رأيي في شعر الشاعرين لم يتغير بين الأمس واليوم، فهما عندي من طبقة واحدة هي الطبقة الأولى بين الشعراء، ويأتي من بعدهما إلياس أبو شبكة وعمر أبو ريشة. . وعلى هذا الأساس يمكن أن يرجع مرة أخرى إلى ردي على الأستاذ مجذوب ليخرج من ذلك الرد مقترناً بهذا التوضيح، بأن شعراء الشام لا يفضلون شعراء مصر حين يكون هناك مجال للمقارنة والتفضيل!

عاصفة على نقد:

في الأسبوع الماضي وعلى صفحات الرسالة، هبت على الناقد المسرحي الأستاذ أنور فتح الله عاصفة هوجاء. . ولست أريد بهذه الكلمة أن أدافع عن نقد الأستاذ فتح الله لأنه من أصحاب الأقلام القادرة على الدفاع، ولكن الذي أريد أن أقوله هو أنني كنت أوثر للناقدين الفاضلين اللذين تعرضا له أن يبتعدا عن مواطن الاتهام، اتهام القراء لهما بأن حماسهما في نفي المآخذ الفنية عن مسرحية الأستاذ تيمور، قد زادت كثيراً عن الحد المألوف!

لقد كان يجدر بكل منهما أن يسمو بقلمه فوق مستوى الاتهام الموجه إليه، بدلا من توجيه مثل هذا الاتهام إلى الأستاذ فتح الله وهو الرجل الذي لا تربطه بالأستاذ تيمور علاقة من العلاقات. . لقد حاول الأستاذ الفاضل أن يكتب نقداً نزيهاً لا أثر فيه للمصانعة، فكان جزاؤه أن رمي بالتحامل، لأنه لا يجامل! لفتة أخيرة أود أن أختم بها هذه الكلمة، وهي أنني أقدر فن الأستاذ تيمور. . وأحترم نقد الأستاذ فتح الله!!

أنور المعداوي