مجلة الرسالة/العدد 912/الأدب والفن في أسبوع
مجلة الرسالة/العدد 912/الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
افتتاح مؤتمر المجمع اللغوي:
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الاثنين الماضي بافتتاح مؤتمره السنوي الذي يجمع كل أعضائه من شرقيين ومستشرقين. وقد افتتح الحفلة معالي الدكتور طه حسين بك وزير المعارف بكلمة موجزة قال فيها إنه - باعتباره وزير المعارف سيعين على أن تنفذ أعمال المجمع وتتم مشروعاته، وأن هذا هو ما يود أن يقوله الآن متوخياً الإيجاز، أما الحديث عن اللغة العربية وسلامتها ونمائها وما إلى ذلك مما يتعلق بأغراض المجمع فهو حديث معاد أربأ بكم عن سماعه وأربأ بنفسي عن تكراره، ثم حيا معاليه حضرت الأعضاء وأعرب عن رجائه أن تكون هذه الدورة خصبة كالدورات الماضية.
ثم ألقى الأستاذ محمد شوقي أمين كلمة الدكتور منصور فهمي باشا كاتب سر المجمع، وقد تحدث فيها عن المحاضرات التي ألقاها الأعضاء في المؤتمر الماضي حديثاً مجملاً، وأشار إلى الصعاب التي يلاقيها المجمع للنهوض بأعبائه، والناشئة من ضيق ميزانيته، ثم قال: على أنه مهما يكن من صعاب تحد من نشاط المجمع فإن آثاره الحميدة تجد سبيلها موصولة ممهدة في محيط التعليم وفي البيئات الثقافية في مصر وغيرها من بلاد العروبة، ثم تحدث عن نشاط المجمعيين واتجاهاتهم، وقال: إن المجمعيين يتلاقون عند عاطفة كريمة تملك عليهم مشاعرهم وهي الاعتزاز بهذه اللغة وشمولها بكثير من التقديس والإجلال، وذلك نتيجة لتأثير وراثي عريق أنحدر عن الأسلاف، تضاف إليه عوامل اليقضة والتوثب إلى الحياة ومجاراة التطور. إلى أن قال: وإن هذه اللغة بخصائصها الجوهرية وأصولها الموحدة، لتمتد في الماضي وتشيع في الحاضر وترنو إلى المستقبل على صور يتقارب بعضها من بعض وينزع بعضها إلى بعض، وتلك ميزة للغة العرب لا نعرفها لغيرها من اللغات، وهي في ذلك أشبه بشجرة قوية مباركة حية تتشابه أصولها وفروعها وغصونها، وإن لغة هذا شأنها وتلك حالها خليقة بالتمجيد والتقدير.
وألقى بعد ذلك الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي بحثاً للدكتور أحمد أمين بك في (أخذ اللغة من القبائل) وصل فيه من تعدد لغات قبائل العرب إلى الحديث المستفيض عن الترادف، ذاهباً إلى أن هذا الترادف لا فائدة له إلا في التزام القافية بالشعر، ورأى أن هذا الالتزام لم يعد ضرورياً إزاء المصطلحات الجديدة التي يجب أن تحل في اللغة محل المترادفات الكثيرة. وأرجو أن أتوسع في تلخيص هذا البحث القيم في فرصة مقبلة.
وأعقب ذلك الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي، فألقى كلمة طريفة ظريفة، جعل موضوعها (تنازع اللغات في طائفة من الكلمات) وقد أستطرق إلى هذا الموضوع من حديث عن جماعة من المصريين الوطنيين لجئوا إلى (الكلية الصلاحية) بالقدس، حيث كان الأستاذ مع الشيخ عبد العزيز جاويش في إدارة تلك الكلية، وذلك أنهم تناولوا في بعض أحاديثهم السياسية (قنال السويس) فقال بعضهم عن كلمة (قنال) فرنسية ولفظ (الترعة) العربي أفضل منه وأكرم عند الله. . فرأى الأستاذ المغربي أن (القنال) عربي أصله قنا البحر أو قنا الماء، وقنا جمع قناة بمعنى مجرى الماء، فنحتوا من قنا الماء (قنال). وأتى بعد ذلك بكلمات أخرى تتنازع عليها اللغات، وقال: فلنرجئ الكلام عليها وتحرير النزاع فيها إلى إحدى جلسات المجمع العادية على أننا مهما تسامحنا في عروبة تلك الكلمات لا يحسن أن نتسامح في عروبة (القنال) لظهور أدلتنا على عروبته، فلنتمسك بحقنا فيه مهما كلف الأمر.
وكانت كلمة الختام للمستشرق الألماني (ليتمان) وموضوعها (الأدب الشعبي) قال فيها إن الأدب الشعبي المصوغ باللغة العامية لم يكن عند علماء أوربا موضع عناية واحترام، حتى جاء العالم الألماني (هردر) في القرن الثامن عشر، فاهتم به لأنه يدل على باطن الإنسانية، واتصل منذ ذلك الحين الاهتمام بالآداب الشعبية وصار لها موضع في مقارنة الآداب. وقال الأستاذ ليتمان - إنه خلال زياراته لمصر - جمع كثيراً من نصوص الأدب الشعبي، كالقصص المتداولة بين العامة، والأزجال، ونداءات الباعة والمسحرين، ونواح الأمهات على أبنائهن. . الخ وأنه جمع كل ذلك وكتبه بالحروف اللاتينية، وترجم كثيراً منه إلى اللغة الألمانية.
أغنية (غفاة البشر):
قالوا ستغني أم كلثوم أغنية جديدة مختارة من شعر عمر الخيام. قلت: لماذا تجشم نفسها مشقة الإغماض عمن حولها وما حولها، والبحث في لفائف الزمن عن شعر الخيام؟ أهي مغرمة بالراحلين من ذوي الأسماء الكبيرة، وقد يقع اختيارها بعد ذلك على طاغور مثلاً، ومن يدري فقد تعرج على شكسبير: أم قد تصوفت وأخذتها الجلالة من هذا العالم الذي تضطرب فيه؟
وسمعت الغنية، وهي ثلاثون بيتاً ملفقة - على الطريقة التي تتبعها في ديوان شوقي - من رباعيات الخيام، أولها:
سمعت صوتاً هاتفاً في السحر ... نادى من المغيب غفاة البشر
والحق أنني أشفقت عليها، فقد تبين لي أنها تورطت في هذا الاختيار، فلم تجد للأغنية جواً تندمج فيه وتنقل السامع إليه، كما كانت مثلاً في أغنية (سهران لوحدي) التي كان غناؤها فيها كائناً حياً له روح. أما (غفاة البشر) فلم يطب لهم في السحر غي رنين الحنجرة الفضية الذي يطرب الأذن أو (يشنفها) ولا ينفذ إلى القلب، ولعل عدم الانسجام مع الأغنية جعلها تغفل عن ضبط كلمة (اليوم) في البيت الآتي:
غذ يظهر الغيب واليوم لي ... وكم خيب الظن في المقبل
فقد نطقتها منصوبة وهي مبتدأ، وسيتكرر الخطأ مع إذاعة الفلم المسجل، فيا له من خطأ أبلق، لأنه من أم كلثوم: وكذلك التلحين، لم يندمج في جو الأغنية، ولم ينسجم مع معنى لها بل كان أيضاً نغمات مختلفة تصل إلى الأذن ولا تعبر عن شيء ولا أرى قصور الغناء والتلحين عن غاية التعبير راجعاً إلى أم كلثوم والسنباطي، فهما هما؛ ولكن الرحلة كانت شاقة، ولم تعوض غايتها مشقتها، فليس هناك إلا (مسحراتي) يوقظ الناس في السحر ليملئوا الكأس وينهبوا اللذات. . وحتى هذه الصورة - إن كان لابد من مثلها - ليست من الواقع الحاضر، فأهل الكأس والهوى يسهرون الآن من أول الليل علناً ولا يحتاجون إلى التخفي والتداري بالسحر.
إن أم كلثوم هي كوكب الشرق. . ومن حق الشرق على كوكبه أن ينير له، ليرى على صفحته الدرية صور حياته وخلجات نفسه، فهل من ذلك أن نصحو في السحر ونسكر ثم نتوسل وننام. .؟ ألا تذكر أم كلثوم صدى صيحتها في هذا البيت:
وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
بيت واحد جاء على الجرح، فانبعث الحماس ودوى التصفيق حتى كاد يوقظ الغفاة حقاً. . فما بالها تغفل عن مثل ذلك؟ ألم تجد في مصر شعراء يقولون ما يعجب؟ إني أعلم أن بعض الشعراء الجيدين قدموا إليها شعراً حياً لو غنته لوجد فيه الناس ما يصبون إليه في هذه الآونة ولكنها تريد الخيام بعد شوقي، ولست أدري من بعده
لقد أعجب الإنجليز وغيرهم بشعر الخيام وأمثاله في وقت فرغوا فيه من الضرورات، وتطلعوا إلى الاستطراف بصور من الشرق مغرقة في الخيال، على أن هذه الرباعيات مترجمة عن الإنجليزية، لا كما قال المذيع إن رامي ترجمها عن الفارسية! - ففيها كثير من الإضافة والتحوير وليست كلها خيامية.
أما نحن الآن فما أغنانا عن ذلك (الأفيون) وما أحوجنا إلى كلام آخر، يقال أو يغنى فيوقظ الغفاة، لا ليسكروا ويناموا وإنما ليجدوا ويعملوا.
مسرحية (قلوب الأمهات):
قدمت الفرقة المصرية هذه المسرحية في الأسبوع الماضي بمسرح حديقة الأزبكية، وهي من تأليف الكاتبة الفرنسية (كلود سو كوري) وقد ترجمها الأستاذ فتح الله، وأخرجها الأستاذ أحمد علام وهي من المسرحيات الحديثة التي تعرض الحياة على المسرح هادئة بعيدة عن الافتعال والمؤثرات الصارخة.
وعنوان المسرحية في الفرنسية (فابين) وهو اسم الفتاة التي تدور حولها، بنت حزينة كاسفة البال، تبدو هادئة مستسلمة لما تأخذها بها جدتها (ماريا) المتدينة من الشدة والصرامة، لتعودها السلوك الحسن وتجنبها ما انزلقت إليه أمها (فرانسواز) التي تركتها صغيرة، فارة من زوجها الذي تزوجته على كره، مع عشيق رحلت معه إلى الأرجنتين. ولكن لا تلبث (فابين) أن تتكشف عن فتاة ثائرة النفس، عندما تعلم أن أمها ستعود إلى المنزل، فتعبر عن بغضها لأمها التي أهملتها مستجيبة لنزواتها وشهواتها وتقول فابين إنها لا تريد رؤية أمها ولا تستطيع أن تبقى في المنزل إذا أتت إليه، وعند ما ترى أنها قادمة لا محالة تسارع إلى الموافقة على الزواج من رجل دميم الخلقة شائه النفس لا لشيء إلا لتبتعد عن المنزل الذي ستنزل به أمها. .
وتدور عجلة الزمن، فإذا الفتاة الحاقدة على أمها تقع في نفس الظروف التي كانت فيها أمها، فقد أحبت وشعرت بأن لا سعادة لها إلا بجانب حبيبها (ريمون) الضابط بالجيش والذي تقرر نقله إلى مراكش. . وهناك ابنتها الصغيرة (كوليت) التي أتت بها من الزوج البغيض. . ماذا تصنع وقد وقعت في صراع شعوري عنيف بين دافع الهوى وقلب الأم.
قررت الرحيل مع ريمون. . ولكن كوليت. آه. . تذكرت أن أمها فرانسواز كانت تبعث إليها ضارعة أن ترسل إليها الصغيرة كوليت لبضعة أيام، فتأبى ثائرة على صديقتها (أليس) التي كانت تخاطبها في ذلك. لماذا لا ترسلها الآن. .؟ لا لبضعة أيام ولكن إلى ما شاء الله. وهذه الأم (فرانسواز) المسكينة! لقد كانت إذن على حق فيما فعلته. . وهي إذن جديرة بالرحمة والغفران! ولكن فرانسواز - عندما تجيء ملبية دعوة فابين - تصحح للفتاة موقفها وتبين حقيقة شعورها، قائلة لها: إنك تبرئين عملك يا فابين. . أنت تغفرين لنفسك لا لي، فابين! لا ترحلي، فقد تعذبت وندمت، لا أحب لك ما قاسيت: وتتبين فابين هول ما هي مقدمة عليه، وتتذكر ما عانته من حرمان الحنان، وأنها توشك أن تضع ابنتها في مثل ما كانت فيه، وهي عالمة به. . فتنفجر في قلبها الأمومة لتقضي على أمل العاشق المنتظر. .
وهكذا نرى المسرحية تعرض تلك المشكلة، وتكشف عن جذورها التي تتمثل في الزواج الذي لا ينبني على أساس من الألفة والمودة، وتعالج إعراضها علاجاً طبيعياً يرد كل شيء إلى أصله، وتعطي الدوافع الإنسانية حقها كاملاً، فالحب ليس شيء يهمل ولكن هناك معارضاً أقوى منه، وهو الأمومة التي تتغلب لا لإملاء قواعد أخلاقية غير مقتنع بها، وإنما لأنها دافع إنساني لا يقهر، وبذلك تجيء القيمة الخلقية طبيعية فتثبت، لا كالتي تجيء بالوعظ فتتبخر بعد تمصص الشفاه. .
والقضية قضية أنثوية، ولذلك أحسنت المؤلفة معالجتها، ولم تنس في خلال الحوار أن تبث خواطر المرأة كأن تقول في الحوار إن المرأة ترتطم بقوانين المجتمع الظالمة التي يضعها الرجل.
ولا شك أن نقل جو المسرحية ودقائقها يرجع الفضل فيه إلى المترجم والمخرج، وأجمل ملاحظاتي فيما يلي:
ظهر (ريمون) في حياة (فابين) قبل زواجها، وعرفت أنه يحبها ويعتزم خطبتها، ولم يطرأ ما يغير هذا العزم إلا ما قيل لها من أنه اختلف مع أهله ويعتزم الرحيل إلى مراكش، وليس ذلك مانعاً قاطعاً للأمل في خطبتها، ولكنها مع ذلك سارعت إلى زواج الرجل الذي تبغضه ولم يكن ثمة ما يدعوا إلى هذه السرعة فلا يزال باقياً على عودة أمها ثلاثة أشهر.
قال العم (فيلكس) لفابين ما معناه: لماذا لا تكونين سعيدة وأنت في سن العشرين، فأجابته: إن هذه السن تبدو مطلباً جميلاً عندما نجاوزها، أما ونحن نبلغها فإننا نحتاج معها إلى شيء آخر فكيف تشعر بذلك الشعور وهي لم تجاوز تلك السن؟
كانت المناظر غير موافقة، بل كان بعضها مزرياً. ففي المنظر الأول حديقة منزل أو المفروض أنها كذلك. . ولكن المتأمل في الستارة التي رسم عليها المنظر يرى في آخر الحديقة مباني بعيدة غير المنزل الذي يفترض أن الحديقة حديقته. والمنزل نفسه ليس إلا حجرة صغيرة كالتي تعد في جانب وحدها للاستقبال في معزل عن الجدار والمناظر المزرية تتمثل في الستائر القذرة المزيتة. . التي أقيمت جدراناً ل (صالونات باريس) الفخمة الأنيقة.
ويبدو جهد المخرج الذي يستحق الثناء في حركات الممثلين وتنسيق المواقف. وقد أجادت زوزو حمدي الحكيم في دور (فابين) (وكان تمثيلها عاملاً مهماً، بل أكبر عامل في أداء الأغراض المقصودة من المسرحية. وكان منسي فهمي (العم فيلكس) موفقاً في تمثيل الرجل العجوز المتسامح الذي عرك الحياة وصقلته التجارب، وقد أمعن في (الطبيعية) إلى حد أنه نسي الجمهور فكان أحياناً يلقى كأن لا أحد يسمعه، أما كان يمكن أن يجمع بين الأمرين: الفناء في الدور والشعور بالجمهور كما فعلت رفيعة الشال في دور الجدة العجوز؟ ولم يكن كل من كمال حسين (ريمون) وروحية خالد (إليس) مالئاً دوره. أما زينب صدقي فيخيل إلي أنها كانت تمثل من غير مزاج. . فهي تؤدي الواجب والسلام. .
عباس خضر