مجلة الرسالة/العدد 909/الغباء الاجتماعي. . .
مجلة الرسالة/العدد 909/الغباء الاجتماعي. . .
للأستاذ محمد عثمان محمد
في ركن هادئ بأحد المقاهي العامة، جلس اثنان يتجاذبان الحديث، أحدهما محامٍ له ماضيه وشهرته، والثاني طبيب مشهور يعمل كبير لجراحي إحدى المؤسسات. .
وتشاء الصدفة البحتة أن يمر بها أثناء جلوسهما صديق قديم للمحامي، ليست له معرفة بالطبيب. .
وبالرغم من أن هذا الصديق مثقف ثقافة عالية، وحائز على أرقى الدرجات العلمية، إلا أنه لم يراع الكياسة الواجبة، واللباقة الأدبية في مقام التحية والترحيب. .
فهو مثلاً، لم يعط الفرصة لصديقه الحامي حتى يقدمه إلى صديقه الطبيب، بل رفع الكلفة من تلقاء نفسه وأسرع بمد يده إلى الطبيب الجراح مسلماً هازاً يده في حرارة وحماس شديد، كأن له به سابق معرفة، أو كأنه صديق قديم لم يره من زمن بعيد
وبمجرد جلوسه أخذ يسترسل في الحديث، منتقداً الطب والأطباء قائلاً أنهم فئة جشعة تجردت من الرحمة قلوبها، فئة أعمتها الأنانية الخبيثة، وبهرتها المادة الزائفة ببريقها الأخاذ، فسرعان ما طمست ضمائرها، ففقدت إنسانيتها التي كانت فيما مضي تعتز بها أيما اعتزاز. . . تصوروا أن بعضهم يأبى فحص المريض قبل المساومة. . . إلى آخر ما في جعبته من مثل هذا اللغو المسترسل حتى احمر وجه صديقه المحامي خجلاً. .
أمثال هذا الصديق، كثيرون في المجتمعات المختلفة، والأوساط المتباينة في الشرق وفي الغرب. تجدهم بين الطبقات الغنية الأرستقراطية، وبين الطبقات المتوسطة الديمقراطية، وبين الطبقات الفقيرة العمالية. تجدهم بين المتعلمين المثقفين، وبين أنصاف المتعلمين، وبين الأميين على السواء. .
وهؤلاء، من أمثال هذا الصديق، يمكن اعتبارهم مرضى، مصابون بما يسميه النفسانيون (الغباء الاجتماعي).
وهم لا يعنون بهذا الغباء ضعف الذاكرة، أو فقدان الذكاء العقلي، أو انطفاء الشعلة الذهبية المتقدة. كلا، فقد يكون الرجل ألمعياً، وعالماً عبقرياً، وحائزاً أرقى الدرجات الجامعية، ومع ذلك قد يكون مصابا بهذا (الغباء الاجتماعي). . وقد يكون الرجل أمياً، لا يعرف القراءة والكتابة، ولكنه مع ذلك قد يكون حاد الذكاء، حاضر البديهية، متحدثاً لبقاً، يعرف كيف يترك أثراً طيباً في نفس سامعه أو محدثه أو جليسه. . ولكنهم يعنون (بالغباء الاجتماعي) إنعدام الميزة أو الصفة التي تجعل صاحبها محبوباً في المجتمع أو في البيئة التي يعيش فيها. .
فصاحبنا مثلا الذي لم يراع الذوق والكياسة وأدب المقابلة، وأخذ يجرح شعور جليسه الطبيب الكبير - دون معرفته طبعاً - بكلمات أحر من الجمر ووقف صديقه المحامي موقف الحرج بدون مبرر، لا يمكن أن يكسب يوماً أصدقاء، ولا يمكن أن يكون محبوباً في مجتمع من المجتمعات. . . وبالتالي لا يمكن أن ينجح النجاح العلمي المنشود في الحياة، ولا سيما إذا كان ممن يعملون في المحيط التجاري. . . ذلك لإصابته (بالغباء الاجتماعي)، ولانعدام تلك الهبة الإلهية التي تجعل صاحبها أهلاً بالترحيب والحفاوة به في المجتمعات والحفلات.
ويمكنك، على ذلك، أن تقول مؤكداً إن نجاح الفرد في الحياة يتوقف إلى حد كبير على هذه الهبة الربانية، أو هذه الصفة التي تجعل منه رجلاً محبوباً في البيئات والأواسط التي يختلط بها.
ٍوقد عزا بعض العلماء نجاح أكثر كبار رجال الأعمال والاقتصاد في العالم إلى هذه الموهبة العويدة. وإلى هذه الصفة التي تجعل الفرد غير مكروه من الأفراد والجماعات، وتجعل له القدرة الفائقة على اجتذاب القلوب.
بور سعيد
محمد عثمان محمد