مجلة الرسالة/العدد 897/الدفاع عن الثقافة العربية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 897/الدفاع عن الثقافة العربية

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 09 - 1950


للأستاذ عمر حليق

- 1 -

ليست الثقافة العربية وحدها مهددة (بأدب اللذة) و (أدب المجون) الذي أصبح يؤلف الجزء الأكبر من الثقافة الأمريكية المعاصرة وبفرض ديكتاتورية على الثقافات الأخرى في مواصلات فكرية سريعة أسبابها مثقفة وأساليبها على غاية من الدهاء الحذق لأنها مستمدة من أحدث ما أنتجه علم النفس وعلم النفس الاجتماعي من دراسات نظرية وتطبيقية.

فلئن دوت في العالم العربي الآن صرخات لمقاومة هذا التحدي الثقافي الذي أعرب عن خطورته على الأخلاق والفضيلة لجماعة كبار العلماء وعن إفساد للذوق والإنتاج الأدبي كتاب لهم في حاضر الأدب العربي مكانة ونفوذ كالأستاذ الزيات - لئن دوت في العالم العربي هذه الصرخات فما ذلك إلا لأن ذيول هذا الاتجاه قد تخطت نطاق الحلقات الخاصة من أهل الأدب والفن إلى المجامع العامة فأخذ ينفذ إلى صلب التكوين العقلي والنفساني لجمهرة القراء والكتاب، ويترك أثره السيئ في صميم الأوضاع السياسية والاجتماعية للشعب الغربي بالإضافة إلى تعريضه تراث الثقافة العربية العريقة لفقدان ما حافظت عليه من مقدمات أصيلة أكسبتها هذه المكانة التي تحتلها بين ثقافات الأمم.

والذي يعيننا من هذه الكلمة دراسة عناصر الثقافة الأمريكية المعاصرة فهي المسؤولة عن هذا التحدي الذي تواجهه الفضيلة والفن في العالم العربي، فهذه العناصر هي المصدر الرئيسي للدكتاتورية التي تفرضه على الثقافات والاتجاهات الفكرية الأخرى (هوليود) وآلة دعايتها الجبارة التي من (دواعيها عامية الذهن وسطحية الفكرة وسآمة الجد). . ومن دواهيها أنها تلفظ أهلها على ساحل الحياة فلا يخوضون العباب ولا يغوصون على الجوهر، وتدفعهم إلى هامش الوجود فلا يكون لهم في متنه مكان مرموق ولا شأن يذكر)

وليست المسألة قضية (جمود) و (رجعية) و (محافظة) فأن هذه الكلمات على ما لها من مكانة أصيلة في التكاتل الاجتماعي أصبحت الآن كالجذام يتجنب الناس لمسها والاقتراب منها، إنما القضية تتعلق بتراث عريق يقف موقفها سلبياً إزاء أخطار تهدد أسسه وتدفعه إلا الانحطاط: وتلفظ أهله على ساحل الحياة).

ليست الثقافة العربية وحدها هي التي تواجه هذا التحدي. فلقد قام في الآونة الأخيرة بعض أئمة الفكر الفرنسي المعاصر يحملون لواء النقد اللاذع للثقافة الأمريكية وللفجر والتبسط والتبذل التي يشوبها - أو على الأقل يشوب ألوانها التي تجد سبيلها إلى صحافة العالم ومجلاته ومنها الشرق العربي - فكتب (فرانسوا مورياك (سلسلة من المقالات التحليلية العنيفة في (الفيجارو يصف الثقافة الأمريكية بأنها (تشكل في غزوتها الثقافية للثقافة الفرنسية العريقة خطراً لا يقل عن خطر المادية الماركسية) وساند مورياك كاتب فرنسي عنيد هو (أندريه زيجفريد) فعزز رأيه وتناول بالنقد والتحليل المقارن ذيول هذا الخطر الداهم وعواقبه على الإنتاج الفكري وصميم المصلحة السياسية والاجتماعية للشعب الفرنسي.

حتى (جون بول سارتر) وهو من دعائم أدب اللذة ثار على الثقافة الأمريكية ثورة لم يكن مبعثها انتقاد عناصر اللذة والمجون التي تهيمن على إنتاج أمريكا الأدبي والفني فحسب، وإنما مبعثها تحليل لوضعية الثقافة الفرنسية ومواقف الضعف والقوة فيها إزاء هذا التحدي الأمريكي، ولم يكن في موقف سارتر هذا شيء من التناقض؛ فالرجل صاحب مدرسة في الأدب والفن، المجون واللذة من أصولها؛ ولكنه فوق ذلك مثقف فرنسي يأبى إلا أن تكون مدرسته وثقافته أصيلة لا تقلد، وعريقة لا تستعير، وعميقة لا تنساق في موكب القشور والسطحية والابتذال التي يبدأ في هوليود وينتهي في أكثر شعاب الأرض.

ولقد أقر البرلمان الفرنسي مؤخراً قانوناً - يمنع استيراد (الكوكاكولا) من أمريكا، لأنها من العناصر التي تؤثر في أسلوب الحياة الفرنسي. وكان البرلمان الفرنسي في هذا القرار جاداً وليس بهازل. فقد عبر عن مخاوف الفرنسيين في أن يفقدوا العناصر والمقومات التي تحفظ للمجتمع الفرنسي طابعه ويصون له مكانته بين الثقافات الإنسانية.

وأمثال مورياك وزيجفريد وسارتر كثيرون في بريطانيا. فالبريطاني أديباً كان أو سياسياً أو من رجال الأعمال يحمل في نفسه نفوراً للكل ما يمت إلى العقلية الثقافة الأمريكية بصلة وهذا النفور لا يستره ولا ينسيه تحالف بريطانيا مع أمريكا في عالم السياسية والاقتصاد.

وندر أن تقرأ كتاباً أو بحثاً بريطانياً في السياسية أو الأدب أو الاقتصاد أو شتى مظاهر الفكر إلا وتلمس هذا الاستخفاف بالثقافة الأمريكية والنفور منها نفوراً لا قبل للبريطانيين بدفعه. وقد أعرب (هارود لاسكي) عن هذا النفور البريطاني في دراسته القيمة للديمقراطية الأمريكية التي صدرت قبيل وفاته. وكذلك فعل (جفري نمورا) في كتابه عن (الخلق الأمريكي) الذي صدر منذ عامين.

إذن فحملة (الزيات) وأقرانه وكبار رجال العلماء والذين يشاركونهم في الرأي للدفاع عن الفضيلة والفن هي حملة صادقة.

فالمرء يولد في ثقافة تتشعب أصولها في تكوينه العقلي ونشاطه الروحي وحياته الاجتماعية. وهذه الثقافة عزيزة عليه لأنها توفر مستقبلاً ينفث فيه ذلك النشاط.

والثقافة الحية تعيش في جماعة حية ترى في ثقافتها إمكانيات تنطوي عليها ما تفور به نفس تلك الجماعة من انفعالات ومثل وقيم.

وهذه الأوضاع النفسانية تختلف باختلاف الجماعات وذلك لأسباب بيولوجية وتاريخية تشمل البيئة والوراثة والمقدمات الخلقية وما شاكلها في هذه الوجوه التي تنفرد بها الجماعات عن بعضها البعض.

وللثقافة الحية إذا شاءت أن توفر لنفسها حياة التقدم والرقي أن تسلك سلوكاً قومياً فتحتفظ لنفسها بالسلطة الفكرية والسيادة الثقافية بحيث تهيئ للمفكر والفنان ورجل الدين أن يقوموا بوظائفهم في تغذية تلك الثقافة بشتى عناصر الحياة والنمو.

وعناصر الحياة والنمو هذه لا تكون بالاستعارة والمحاكاة والتقليد الأعمى، بل باستيعاب الأسس العريقة التي بنيت عليها ثقافة الفنان والمفكر ورجل الدين واطلاعه على ثقافات الأمم الأخرى، فيختار منها ما يستسيغه ذوقه وما يهضمه عقله فيتطعم بها ثم يقدمها إلى ثقافته الوطنية مساغة منقحة على النحو فعله بناة الثقافة العربية حين اتصلوا بحضارات الإغريق والفرس والرومان، وكما فعله بناة الثقافة الأوربية حين استساغوا من الثقافة الإسلامية في القرون الوسطى وما بعد.

أما إذا فقدت الجماعة حولها إزاء هذا التقليد الأعمى الاستعارة والمحاكاة الضالة فقل على ثقافتها السلام.

وفقدان الحول يكون بواحدة من اثنتين: أما أن تكبت ألسنة المفكرين وحفظة الدين وأهل الفن كبتاً كما فعل أتاتورك الأتراك فأفقد ثقافتهم طابع الحياة والنمو، وإما أن يقف من أهل العلم والفن. موقفاً سلبياً أمام نشاط المقلدين والمحاكين ويتركونهم يعيشون بالثقافة القومية وخصائصها ومقدماتها العريقة فساداً في غير وعي ونباهة.

ولقد صدق (فرانز كافكا) حين قال (إن المثقف في الدولة الديمقراطية نائب يحمل لواء الدفاع عن مقومات الثقافة وجوهرها ويصونه من عبث العابثين؛ حتى ولم يوله أحد هذه النيابة. فالدفاع عن الثقافة واجب وطني كالواجب السياسي والاجتماعي. بل الواقع أن النيابة الثقافية أهم أنواع الالتزامات القومية شأناً؛ أنها المصدر الذي يستمد منه السياسي دهاءه، والاقتصادي كفايته، والجندي معنويته واستعداده، والمصلح الاجتماعي مواد الخام)

وفي عنق الخاصة من الكتاب والباحثين من أهل الثقافة أمانة مضاعفة إزاء موجات العبث والتحدي. فالكاتب إذ ينشر في الناس آراءه وانطباعاته وزبدة اختباره وتجاربه يعد مسؤولاً عن كل شيء كما قال سارتر، عن الحب والموت والكيان الاجتماعي والحياة السياسية والمشاكل الاجتماعية وشتى أنواع النشاط الإنساني. وريشة الفنان وقلم الكاتب وحديث المعاصر مهما تقيدت بالانفعالات النفسية الخاصة ليست في الواقع إلا دعوة إلى معالجة ذلك النشاط الإنساني. والشاعر حيث يتغنى بجمال الحياة أو ينعي بؤسها إنما يعد نفسه مسؤولا عن إطلاع الناس على ذلك الجمال أو البؤس.

فحين كتب تولستوي قصته الخالدة عن (الحرب والسلم) كان يعد نفسه مسؤولاً عن الحرب وشرورها. وقل مثل ذلك من المعري في (لزوميائه) وفي جوته في (فاوسته) وفي الفارابي (في مدينته الفاضلة).

وسواء صارح الكاتب أو الفنان نفسه بهذه المسؤولية وصارح بها الناس أو لم يصارح فهذا ليس بالأمر المهم. إنما المهم أنه أنتج ونشر في الناس وبذلك عبر - واعياً أو واع - عن مسئوليته في القالب الذي يستعذبه وفي الأسلوب المحبب إلى نفسه وعواطفه ومشاعره.

فكيف إذن يقف الخاصة من المثقفين موقفاً سلبياً إزاء هذا العبث الذي يفسد كيان الثقافة التي يعيشون فيها والأسس والمقدمات العريقة التي استمدوا منها نيابتهم ومسئوليتهم؟

وقد برر (أندريه زيجفريد) انتقاده للتيارات الأمريكية التي تعصف بالثقافة الفرنسية فقال (إن الثقافة الفرنسية لا تستطيع مواجهة هذه التيارات في قوة ومناعة إلا إذا أستشعر المثقفون الفرنسيون مسئوليتهم. فالثقافة لا تحفظ طابعها أو مقوماتها العريقة إلا إذا صمد لها العارفون بها المؤمنون بعزتها المحبون لها من أبنائها الخلص)

والتصدي للتيارات الأجنبية يتطلب مزيداً من الدفاع وقسطاً أكبر من الحماس والنشاط حين تكون تلك التيارات صادرة عن ثقافة تسندها دولة قوية البأس وافرة العدة الاقتصادية والسياسية.

ففي الثقافة الاسكندنافية مثلاً عناصر كثيرة من المستحب السائغ الذي قد يستهوي التقليد والمحاكاة، ولكن الدول الاسكندنافية ضعيفة الحول في عالم السياسة والاقتصاد، ولذا فأن تياراتها لا تندفع نحو الثقافات الأخرى فتفرض نفسها عليها على نحو ما تفرضه ثقافة الإنجلو سكسون على ثقافات المعسكر الديمقراطي، وثقافة السوفييت على منطقة نفوذه في شرق أوربا والشرق الأقصى. وقد ضرب جون بول سارتر مثلاً بألمانيا إبان العهد.

الهتلري وقال أن المواطن في هولندا وبلجيكا ولوكسمبرج مثلا كان مدفوعاً إلى التماس الثقافة الألمانية لأنه كان يشعر بأنه سيصبح عاجلاً أو آجلاً جزءً منها. وما ذلك إلا لأن النازية كانت على قسط كبير من القوة والبأس السياسي والاقتصادي كانت سبباً في هذه الهزيمة التي شاعت في المواطنين الهولنديين والبلجيكيين والتي سهلت لألمانيا احتلال هذه الشعوب في يوم وليلة وسهل لها كذلك أدارتها وتسيير شئونها المحلية بالتعاون مع الكثرة من المثقفين وغير المثقفين.

وتاريخ الاستعمار الأوروبي في شرقنا يؤيد ذلك.

إذن فعلى المثقفين مسئولية سياسية وقومية بالإضافة. إلى الواجب الأدبي والفني في الدفاع عن مقدمات الثقافة التي نشأ فيها وتعرف على سرائرها وعرف بها الناس. ووزر القصور مضاعف، والصمت في مثل هذه الحالة جريمة قومية.

وقد يحلو لبعض الخاصة من أهل الفكر أن لا يتقيدوا بالقوميات في معناها الضيق المحدود، وألا يتعرفوا بأن للفن والفكر حدوداً ومعالم جغرافية وزمنية. فهذا لون من الاتجاه الفكري كلما أمعنت فيه الدرس وجدته مناقضاً لطبيعة السلوك الإنساني؛ فعلم الاجتماع ينفيه وعلم النفس لا يقره. والسلوك الشخصي لمعظم الداعين له ينقضه نقضاً تاماً.

فالعصبية القبلية في حقيقتها الاجتماعية مستمدة من علاقة الفرد بعائلته وأمه وأبيه؛ وإلى أن يولد مجتمع تزول منه هذه العلاقة الطبيعية فأن العصبية ستظل من الحقائق الاجتماعية الراسخة. المرء حيوان اجتماعي، وهو يألف الجماعة التي تبادله مشاعره وتشاركه طبائعه وتبادله المحبة والألفة. وإلى أن يتطور المجتمع إلى وحدة متجانسة في مشاعرها وطبائعها فأن المرء سيظل يألف القوم الذين هو منهم، ويعتز في قرارة نفسه بالقومية التي يدينون بها. وتاريخ الحضارة لم يحقق - ولا يبدو أنه يستطيع أن يحقق - هذه الوحدة وهذا التجانس.

فمن أبرز دعاة (العالمية) رجل يعلم عن طبيعة الكون ما لم يعلمه إنسان آخر؛ ذلك الرجل هو (البرت انشتاين). وقد نشر انشتاين بحوثاً في السياسة والاجتماع وهي غير مؤلفاته الرفيعة الشأن في الرياضيات الفلسفية. وحيث تقرأ ما كتبه انشتاين عن القومية و (العالمية) تشعر بأنك أمام رجل، العالم بأسره وطن له فهو لا يعترف بحدود ولا يتقيد بولاء (قومي) معين. ولكن ذلك لم يمنعه في السنوات الأخيرة أن ينشر النداء تلو النداء يستجدي فيه المناصرة الأدبية والسياسية والمادية للوطن القومي اليهودي في فلسطين. فعالمية أنشتين شطحة فلسفية لم تصمد أمامٍ الحقائق الاجتماعية وطبيعة السلوك الإنساني. فهو يهودي قومي قبل أن يكون مواطنا عالمياً. وقد وجه كاتب هذه السطور في السنة الماضية أسئلة بهذا المعنى إلى البروفيسور أنشتاين خلال محاضرة عن (الجامعة العبرية بالقدس وضروية مؤازرتها) ألقيت في معهد الدراسات المتقدمة في جامعة برنستون هنا في أمريكا حيث يعيش اليوم أنشتاين. فكان جواب هذا المواطن العالمي ما يلي بالحرف الواحد: (إسرائيل لي وطن روحي. وأني أعز في إسرائيل ثقافة العبريين وهي ثقافة لها مكانتها في الفكر العالمي وهي جديرة بالإعزاز والإحياء.)

ويمكنك أن تستنتج ما شئت من سلوك أنشتاين هذا ولكنك لن تستطيع أن تنفي عن هذا المواطن (العالمي) قوميته الثقافية ولا أقول ولاءه السياسي لإسرائيل. فليس المقام هنا ليسمح باستعراض النقاش السياسي العنيف الذي دار بين البروفيسور أنشتاين وبين الدكتور فيليب خليل حتى المؤرخ العربي المعروف على صفحات الجريدة المحلية في برنستون وكيف كشف أنشتاين عن حقيقة نعرته القديسية وتعصبه اليهودي على أوضح ما تكون النعرات ويكون التعصب.

للبحث بقية نيويورك

عمر حليق