مجلة الرسالة/العدد 892/من وسائل البريد الجوي في الإسلام:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 892/من وسائل البريد الجوي في الإسلام:

مجلة الرسالة - العدد 892
من وسائل البريد الجوي في الإسلام:
ملاحظات: بتاريخ: 07 - 08 - 1950



الحمام الزاجل

للأستاذ عطا الله ترزي باشي

لقد تحقق من دراسة العلماء الباحثين أن فكرة استخدام الحمام ظهرت منذ وجود البشرية على وجه البسيطة. واستنتج العالم الإنكليزي (داروين) أن المصريين القدماء استخدموا الحمام قبل الأسرة الفرعونية الخامسة. ويذكر (هوميروس) أن اليونانيين كانوا معروفين بتربية الحمام منذ العصور الغابرة، كما استفاد الرومان من هذه الوسيلة أثناء استيلائهم على بلاد اليونان ويشير المؤلف نفسه إلىأن استخدام الحمام عم في الهند حوالي سنة 1600م.

وأول إشارة وردت في الكتب المقدسة عن استخدام الحمام هو ما جاء في التوارة، فقد أطلق النبي نوح عليه السلام حماماً من سفينته أثناء الطوفان ليستدل به عما إذا كان الماء قد غيض. . ويشير أبو سفيان الثوري إلى ما ورد في القرآن حول كلمة (المؤتفكات) إلى أنها مدن جرت بينها المخابرة بالحمام الزاجل قبل الميلاد بألفي (راجع نجيب عاصم: كوجرجين بوسته سي (في اللغة التركية) ص11).

وقد قام الحمام الزاجل في العهود الغابرة بوظيفتي البريد والتلغراف. ويقال أن أول عهده بهذه الوظيفة كان في سنة 786 ق. م بأثينا؛ فقد أحضر أحد اليونانيين حمامة من جزيرة (أوجين) وبعد أن حضر مسابقة في الألعاب كانت له الغلبة فيها أرسل هذه الحمامة إلى أهله لتحمل إليهم خبر فوزه، فأحدثت هذه الرسالة فكرة استخدام الحمام في المواصلات البريدية ثم انتشرت هذه الفكرة في أكثر بلاد العالم (عبد الغني غنام: الحمام وتربيته ص8)

ولما أن بزغ فجر الإسلام أدخلت تحسينات كبيرة في طريقة استخدام الحمام الزاجل حتى امتاز المسلمون في ذلك على سائر الأمم. ولقد قيل أهم كانوا يستخدمونه في المواصلات البريد وخاصة خلال الحركات العسكرية بدرجة لم يبلغها الأوربيين في استخدامهم الحمام في الحروب الحاضرة (سياح كوكرج (في اللغة التركية) ص14)

وقد اجمع المؤرخون - كما جاء في كتاب الحيوان للجاحظ على أن المسلمين كانوا أول من استخدام الزاجل في الرسائل في القرن الثاني للهجرة.

ويبحث المؤرخ التركي عبد العزيز قره جلبي في كتابه المشهور (روضة الأبرار) ع استخدام الخليفة المتقي بالله في سنة 33 حمام الزاجل في بغداد؛ فقد أرسل هذا الخليفة خطاباً بواسطة الحمام إلى الأمير المصري آقشيد يدعوه إلىمعاونته علىتوزك ويبحث المؤرخ نفسه في حوادث 372هـ عن استخدام الحمام في أغراض غير الرسالة)

ورأى صاحب (التعريف) أن الزاجل نشأ في الموصل بالعراق وحافظ عليه الخلفاء الفاطميون بمصر وبالغوا حتى أقر له ديواناً وجرائد بأنساب الحمام. وللقاضي محي الدين بن عبدفي ذلك كتاب سماه بـ (تمائم الحمام).

وأما أول من نقله من الموصل فهو الشهيد نور الدين بن زنكي سنة 565هـ ففي هذه السنة اتخذ نور الدين بالشام! الهواوي وهي التي يقال لها المناسيب وهي تطير من البلاد إلى أوكارها، وجعلها في جميع بلاده فساعدته كثيراً في حربه أيام الفرنج (عبد الغني غنام: نفس المرجع ص 11 وص 85)

والواقع أن السيد خليل داهري من مؤلفي القرن الثاني يحكي عن الأبراج التي شيدت في نقل الرسائل فصارت مدينة الموصل حينذاك مركزاً هاماً لشبكة واسعة من دوائر المراسلات. نور الدين بن محمود قد وسع هذه الشبكة داخل البلاد التي فتح لتلقى الأخبار في أسرع وقت ممكن، فأمر بتشييد الأبراج (البريد) في مصر وسوريا بأن لا تزيد المسافة بين كل برجين عن أثنى عشر ميلاً. وقد عين في هذه الأبراج حراساً يراقبون حركات الحمام طيلة الليل والنهار، وخصص من الخزينة المبالغ الكافية لإدارة شئون هذه التشكيلات. (نجيب عاصم: المرجع السابق ص 18).

وفي سنة 623هـ قام الخليفة العباسي (أحمد) بتأسيس شبكة أقوى وأحسن مما أسسه نور الدين كما سبق ذكره.

ومما يذكر في هذا الصدد أن أمير الجيش الإسلامي فخر الدين أعلن في سنة 648هـ حادثة سقوط مدينة دمياط من جانب (سن لويس) ملك فرنسا بحمام أرسله إلى السلطان صالح نعيم الدين.

ويذكر (جو واتويل) الكاتب الخاص لـ (سن لويس) أن المسلمين أبلغوا خبر ورود الصليبيين إلى بلاد السودان ثلاث مرات بالحمام الزاجل.

ويذكر صاحب كتاب (حمائل الحمامات) أن الرسائل كانت تحرر في ورق حريري خاص يسمى بورق الطير وتوضع في قوارير ذهبية خفيفة تعلق في عنق الحمام أو في ذيله وأحياناً كانت تربط بجناحيه، ويكتب في الورقة تاريخ يوم الإرسال وساعة حركة الحمام. وقد جرت العادة أن تكتب في أول الرسالة عبارة (الحمد لله) وفي آخرها (والله نكتفي).

وكانت المخابرات تجرى بين البلاد حينذاك كما يلي:

- بين القاهرة والإسكندرية، ودمياط، وغزة؛

- وبين غزة والقدس، والصفد، والشام؛

- وبين الشام وبعلبك، وحلب، وطرابلس الشام؛

- وبين حلب وبهسني.

وقد اعتادوا قديماً على إرسال نسخة ثانية من الرسالة تكون طبقاً لصورة الأصل وذلك لإزالة الخوف الناشئ من ضياع الأصل في الطريق.

وعند وصول الحمام إلىمحله يقوم الموظف المختص بقراءة الرسالة ووضع تاريخ يوم وصولها والساعة التي استلمها فيها.

وشاع استخدام الحمام في الحروب الصليبية؛ ففي سنة 4492هـ حينما حاصر الصليبيون مدينة القدس، قام القائد العربي في موضع (حصار) الوقع بين القدس وإنطاكية، بإبلاغ خبر تسليم المدينة بواسطة الحمام. وصادف أن وقعت حمامة بالقرب من (عكا) بيد الصليبين وفي عنقها رسالة فيها تفاصيل الحركات الحربية لدى المسلمين فاطلع الفرنج على أسرارها؛ وكان لهذه الواقعة أسوأ الأثر في نفوس المسلمين.

وكذلك استخدام السلطان صلاح الدين الأيوبي الحمام في أر سال التعاليم اللازمة إلى المحصورين في عكا فشيد برجاً في جبل (خروبة) للاتصال بهم، فكانت الاتصالات قوية حسب المرام مدة حولين كاملين (584 - 587هـ) (نجيب عاصم: نفس المرجع، ص 20).

ولقد أساء بعض الزعماء العابثين والرؤساء المفسدين في القيام باستخدام الحمام في أغراضهم الخاصة للوصول به إلى غايات شخصية بحت. ومن بين الوقائع غير المشروعة ما قام به (حسن بن صباح) رئيس الجمعية الحشيشية بالاستفادة من الحمام الزاجل في تحقيق الأغراض التي من أجلها أنشئت الجمعية. وفي سنة 595هـ تولى رئاسة هذه الجمعية (رشيد الدين سنان) الذي تمكن من تأسيس إمارة في سوريا باستخدام الحمام بصورة سرية وتزويد الأهلين بالوقائع التي تحدث في البلاد النائية قبل وصول أخبارها إلى الناس فكان بذلك يعتبر نفسه شيخاً كريماً وإماماً جليلا يرشد الناس إلىالخير ويأمرهم بإتباع طريقته.

وكان (عبد الله بن ميمون) رئيس مذهب الإسماعيلية يتنبأ بالحوادث قبل سماع الناس لها، باستخدامه الحمام الزاجل فكون له مركزاً ممتازاً بين أفراد حاشيته (نجيب عاصم: المرجع السابق ص 21).

ويذكر الأستاذ محمد كرد علي في مقال نشره في مجلة المقتطف (ديسمبر سنة 1902) أنه منذ سنة 1850 - 1860 بطل استعمال الزاجل بين الإسكندرونة وحلب لأن بعض لصوص الأكراد أطالوا يد التعدي عليها وقتلوا أكثرها. ويشير إلى أن بعض المؤرخين ذكروا أن الدولة العثمانية أبطلت استعمال الزاجل في أواخر القرن الحادي عشر بعد أن لبث زمناً مستعملا في بلادها فكان العثمانيون أبرع الناس في تربية الزاجل. . . بيد أننا لم نجد في كتب التواريخ العثمانية إشارة إلىأن الدولة العثمانية قد استخدمت الحمام في شئون الرسالة. ولا نقول بهذا جزافاً فإن العالم التركي المعروف نجيب عاصم يؤيدنا في كتابه السالف الذكر. فلا ندري من أين أتى الأستاذ محمد كرد علي بتلك المعلومات وما هي المصادر التركية التي اعتمد عليها في ذلك!

عطا الله ترزي باشي

(كركوك - العراق)