مجلة الرسالة/العدد 892/جوالق الهمهوم
مجلة الرسالة/العدد 892/جوالق الهمهوم
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
تستوعب الأساطير القديمة، قصة رجل كان يدلف في مرتقى جبل صليع، وأخذه البهر أثناء سيره من الجوالقين اللذين فدحاه. وناء تحت ثقلهما وخذلته قواه، واصبح لا تتبعه رجلاه، وهو يحاول أن يشق طريقه إلى الأمام. وأخيراً انقطع من الإعياء ولم يقدر أن يغالبه وتصدى له ملك كريم، فاستوقفه وسأله قائلا: (مالي أراك يا صاحبي الطيب تقاسي هذا الكبد، في توقل الجيل)؟
فأجابه الرجل: (إني أقاسي ما أقاسي، بسبب هذين الثقلين يا مولاي)
ثم انهد فوق صخرة ليستريح قليلا
فسأله الملاك قائلا: (أيمكنني أن استفسر منك عما وضعته في هذين الزفرين اللذين يروثانك كل هذا الجهد)؟
فقال: (آه أودع فيهما همومي).
فنظر إليه الملاك وقال له في صوت آمر: (أطلعني على محتوياتهما)!!
ففتح الرجل أحد الجوالقين ولكنه حين أطرق مع الملاك لاستنفاض محتوياته، لم يجدا شيئاً في داخله!
فسأله الملاك قائلا: (ماذا كنت تضع في هذا العدل)؟
فأجاب الرجل في دهشة قائلا: (كنت أضع فيه. هموم. . . أمسى. . .! ولكن يظهر أنها قد مضت وتولت). . .
فقال الملاك وهو يشير إلى العدل الآخر: (وماذا يوجد هنا؟)
فأجاب الرجل: (إيه! هنا؟ أني أودع هنا هموم. . . الغد!)
ثم حملق الرجل في الجوالق الثاني، فوجده خاويا فارغا كأخيه. . . ثم تابع كلامه قائلا: (ولكن يظهر أن لا وجود لها هنا بعد)
فوضع الملاك يده في رفق عل كتف الرجل وقال له: (دع جوالقيك كليهما. . . إن الأمس قد ولى ومضى ولن يمكنك أن تصنع به شيئا، فلا تحزن على ما فات، ولا يعظمن عليك فوته. . . أما الغد، فلم يأت بعد، فلا تستسلفن تأخره، ولا تستعجل ما هو آت. واعلم أن الذي يحمل أعباء يومه الحاضر، لا يحتاج إلى عدل يودع فيه همومه).
وترك الرجل ثقله وراءه، وانطلق لسبيله مبتهجاً قريراً.
هذا ولقد ثبت بالدليل المقنع، إن السعادة لا تستفيض في حياتنا إلا إذا كنا ننهض ذواتنا، لكي نحيا ليومنا الراهن فقط وننسى أخطاء الأمس ومنغصاته، ونعقد النية على أن نرجو أن يكون نصيب الغد من التوفيق والهناء أوفى وأرقى، وعلى أن نبذل ليومنا الران خير ما نملك من جهد وطاقة. ولله در من استعرض هذه الحكمة الرائعة، حين قال: (علينا أن نرجو الأحسن، ونتأهب للأسواء، ونتقبل كل ما يعرض لنا، في حلم راجح وخلق وادع، وصدر رحب، ووجه طليق، وحنان وقر).
ولقد قيل إن الهموم صنفان: صنف يسير قريب المنزع مذلل الأغصان. وصنف لا تبلغ إليه وسيلة، ولا يقع في حباله أمل فلا تناله حيلة محتال. ولا مرية في أنه يجدر بنا أن نصلح الأمور التي يمكن أن نرتاد لها نواحي الترصين والتجويد - وأن تحسم الأدواء التي يمكن أن ننفض لها سبل العلاج - وأن نتطلب الذرائع لكل معضل ممتنع وكؤود معجز. ومن اليسير أن يعرون ضرب من القلق والخوف، حين نعجز عن استخراج ودائع الغيوب، والنظر إلى المستقبل من وراء ستر رقيق، لنطالبه بعين السداد والتوفيق. بل إن من اليسير إن يهن منا العزم حين تخذلنا القدرة على وضع الخطط اللازمة لمآتي أيامنا. ولكن الله تعالى شأنه، كفيل بأن يوجه خطانا إن سلمنا له جميع طرقنا. . .
ترى هل خطر لنا أن نقف لحظة، ونستعرض الهموم التي رزحنا تحت أثقالها في بعض أيامنا، ثم أدركنا من بعد، ما كان يزاملها من سخافة وتفاهة، وسقم وغبانة؟! أعرف طالباً جامعيناً سويسرياً، ابتلي (بعادة القلق وحمل الهموم) وأبهظته هذه العادة الآسرة الفادحة، فرأى أن يأخذ العدة لمحاربتها والقضاء عليها. وما إن روي قليلا في الآلات التي ينبغي أن يستعين بها للانتصاب في هذه الحرب المقدسة، حتى هداه تفكيره إلىاستحضار كراسة، يعمد إليها في مستهل الشهر، ليدون فيها أنواع الهموم، التي يثيرها القلق في تقديره، ويسبقها التخمين إلى حسه، ويغريه التكهن بانتظار وقوعها، في الأسابيع الأربعة المقبلة. . . ثم يعود إليها في آخر الشهر، ويرى هل صدق في دائرة الواقع العملي شيء من هذه المظنات التي زاملته من قبل. . . وأقضت مضجعه!! وكان في مقدمة الأمور التي تروثه هماً ملحاً - افتقاره إلى سروال من الفانلا البيضاء، ليلبسه في رحلة ريفية احتفاء بمقدم الربيع، وأيقن أنه سيكون الشخص الوحيد الذي سيظهر في الحفلة - دون رفاقه بغير هذا السروال. وإلى جانب هذا الهم أرهقه هم آخر لا يقل عنه خطراً وإلحاحا. وذلكلأن عميد الكلية طلي إليه أن يتولى افتتاح اجتماع الرابطة الأدبية في مساء يوم الخميس المقبل، وطارت نفسه شعاعاً لهذا الطلب وهتك الخوف قميص قلبه،. . . وماذا عساء أن يقول في مثل هذا الاجتماع المهيب - ولم يتعود أن يتعلى المنابر - وأيقن أنه سيبيت بين رفاقه الطلاب - أضحوكة من الأضاحيك - وقد دفع في صدره العجز، وملكت الركاكة خطامه. . . وكان هذان الهمان أبرز ما في المجموعة التي سجلها في يوميات كراسته. وفي نهاية الشهر رجع الفتى إلى يومياته فما تمالك أن ضحك، وضحك حتى أغرب إذ ذكر أن نصف عدد رفاقه الطلاب، لم يظهروا في حفلة الربيع بسراويل بيضاء. ولقد هبت زوبعة شديدة يوم ذاك، وندم الذين كانوا يرتدون السراويل البيضاء لأنهم لم يختاروا سواها. ثم ذكر أن العميد انتحى به في الليلة السابقة للاجتماع العهود وأخبره أن سائحا من كبار الأدباء سيتحدث إلى الجماعة في المساء المقبل، وأن خطبته من ثم يجب أن تؤخر إلى أجل غير مسمى. وعلى هذا النحو كان نصيب غالبية الأمور التي سجلها ف كراسته، وربك ذاته بالاهتمام لها.
ولعله يحسن بالكثيرين منا أن نعد لذواننا مثل هذه الكراسة. وما الذي يمنع من أن نجري على أسلوب ذلك الطالب المجتهد ونأخذ أخذه؟!
تقول الكاتبة الموهوبة (الن. ج. هوايت) إن القلق أعمى، ويمكن أن يتبين المستقبل ويوضح معالمه ويستجلي رسومه. ولكن الله سبحانه وتعالى يرى النهاية من البداية، ويرصد الهبة لكل صعوبة! ويهيأ لكل ضيقة مخرجاً ومفرجاً!!
ويقول فاضل من أعلام الأدباء الاجتماعين العاملين في الغرب: إن القلق (أو حمل الهموم) يشبه الرمل الذي يتسرب إلى الزيت في سيارتك وكما يبلى الرمل آلاتها وأجزاءها، كذلك يستهلك الهم عناصر حيويتك شيئاً فشيئاً ويفنيها. بل إن القلق يشبه الصدأ الذي يأكل على الولاء بعض أجهزة المصنع في إصرار بطئ ولا يلبث أن يحدث تحت ضرب من ضروب الضغط صدعاً شديداً بل انقصاما أكبراً بل انفجاراً هائلا يجر في كثير من الأحيان مضرة فاجعة وخسارة قاصمة. ولاشك في أن القلق قد حطم عشرات الآلاف من الناس ولكن لو اجتمعت الأوبئة والحروب والمجاعات لما أمكن أن تفتك بالعباد، فتك القلق. والتاريخ مشحون بألوان الدمار التي ألحقها بالعالم هذا الثالوث الذي يتهاوى ويتضاءل أمام القلق.
إن القلق لا يوقد النار ولا ينفخ البوق ولا يضرب النفير ولا يدق الطبول ولا يترك صفوفاً من الأشلاء في الحومة ومنازل الوقائع منا تصنع الحروب. . . أنه لا يسقع المزارع ويدقعها كما يصنع القحط. . . أنه يشبه السوس الذي ينخر خلسه في الغلال ويفسد. . . أنه كالدودة التي تسطو في هدوء، على مزارع الأقطان وتيبسها. . . أنه يشبه اللص - ينسل خفية إلى عقلك وقلبك، ويبدأ عمله المهلك - وهو العمل الذي يفضي آخر الأمر إلى المرض والموت، ما لم تسارع إلى رد عرامه، حبس عنانه والضرب على يده. . . أفلا يجمل بنا بعد هذا كله أن نطرح عنا جوالق همومنا، ونحيا حياتنا، ونتقبل كل يوم من أيامها - كما يجئ!!
الزهره