انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 886/رسالة النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 886/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 06 - 1950



المسرحية بين الكتابة والخلق

مفرق الطريق

للأستاذ يوسف الخطاب

يخطئ من يظن أن النقد رصد للأخطاء وتلمس لأوجه الضعف في العمل الفني. فمثل هذا النقد لا يصدر إلا عن ناقد عاجز لا يقوى على مجابهة العمل الناجح، لأن في نجاحه ما يذكره بعجزه، ويؤكد فيه ضعفه. وهذا الضعف من النقاد لا وجود له إلا في مجتمع بدائي يترصد الناس فيه بعضهم لبعض، وعلى عكسهم يكون الناقد الأمين الذي يتحدى جانب القوة في العمل الفني ويفرح بلقاء العمل الناجح ولا يضيق به. ومن هنا حق لنا أن نرحب بالترجمة الفرنسية لمسرحية الدكتور بشر فارس (مفرق الطريق) التي عرفت المسرحية قبل أن تأخذ طريقها إلى المطبعة فمثلت بنجاح على (مسرح الجيب وفكرت الصحف الفنية أن في النية إعادة تمثيلها في سبتمبر القادم. وظهرت هذا الشهر مطبوعة في المجلة العالمية لفن المسرح ونحن نرحب بهذه المسرحية لأنها لكاتب من كتاب الطليعة في النقد والأدب العربي، ومسرحية كانت من أولى المسرحيات الرمزية التي طالعت المكتبة العربية، ومثلت بنجاح على المسرح الفرنسي، وكم تقنا إلى مشاهدتها على المسرح المصري لنحكم أنها للتمثيل قبل أن تكون للقراءة.

وكنا قد يتصدى لنقد المسرحية، أقرر أني أعتمد على النص المطبوع في منا قشة بنائها المسرحي، أما الجانب التمثيلي فقد كفاني مناقشته نقاد باريس، ولنا عودة إليه حين تشهد مصر تمثيل هذه المسرحية كما شاهدتها فرنسا.

وقبل أن أبدأ النقد هناك حقيقة يجب أن نتفق عليها هي أنه إذا كانت الأعمال الفنية تحمل بين ثناياها مقاييس الحكم عليها، وأن الفنان يحدد اتجاهه بحكم ثقافة العصر الذي نشأ فيه فإن المؤلف هذه المسرحية جعل المسألة أكثر تحديداً وإلزاماً حين قدم لمسرحيته بتوطئة طويلة عن الرمزية وطبيعة تناولها لها. ومن هنا أرى أنه من التعسف أن يخضع الناقد الكاتب لاتجاهين هما حتماً مختلفان بحكم الثقافة والجيل.

ونحن محتاجون للوقوف عند التوطئة لنتعرف إلى المسرحية واتجاهها الأدبي الذي يقول المؤلف أنه انتهى إليه بعد جهد ودراسة. وهذه الدراسة متى تجنب المسرحية كل ما ترمي به أكثر أعمالنا الأدبية من شيطانية وارتجال. ثم أن المؤلف لم يدلف إلى ميدان المسرحية الروزية إلا بعد أن عالج الرمزية في القصة والمقالة والقصيدة، فهو لم يصل إليها طفرة بل بطريق طبيعي كالصوفي حين يترقى في مراتب الوجد.

ومن تفسيره الرمزية في أعماله وأعمال الآخرين نعرف أنه من أنصار الرمزية النفسية السيكولوجي الموضوعي. فهي (استنباط ما وراء الحس من المحسوس. . . . يشرك في كشفها الإحساس. . . والإدراك. . والتخيل. .) وبقدر ما تتهم به الرمزية من غموض إلى حد التباس تعريفها على النقاد - حتى لنجد لها عند كل ناقد تعريفاً - فإننا لا نجد تعريفاً أكثر وضوحاً من تعريف المؤلف الذي يجد له سنداً من علم النفس. ويستمر المؤلف في بسط نظريته في الرمزية على هذا الأساس النفسي الفردي فيروي لنا الغاية التي يستهدفها وأنها سعي (وراء العالم الحقيقي عالم المجدان المشرق. . . عالم أمثل. . . يوفق بين الواقع والموهوم).

ثم يصور لنا طريقة الصياغة الرمزية فيقول أنه (يعرض عن الطريقة المألوفة في الكتابة بغية أن يجعل منها ركناً يغلب فيه الارتجال على الصناعة. . وحتى يخلص إنشاءه من الخطابة. والتحليل. . والوصف الواقعي. . . وحتى يسابق الزمن الذي أصبح فيه الإيجاز والإيماء أحب للقارئ العربي من الإطناب الطويل) لذا تراه يجمع في ألفاظ معدودة طائفة من الآراء والتأثيرات.

هذه هي الخطوط الفنية التي ترسمها المؤلف ننتهي منها لنخلص المسرحية ونوضح فكرتها إذا سلمنا بأن المسرحيات الرمزية ذات دلالة ظاهرة لباطن خفي يمكن إيضاحه بتخليص المسرحية كما تجري في الظاهر.

و (مفرق الطريق) كما تصورها الشخصيات بالملابس التي ترتديها، والحي البلدي الذي تدور حوادثها بجوار منازله القديمة تروي لنا علاقة امرأة بشباب أبله تملأ به فراغاً تركه حبيب ذو نزوات حسية نفرتها منه. ويظل الأبله قانعاً بها في صمت، وتظل هي مستسلمة لصمته - وإن كانت دائمة الثورة على هذا الصمت مشغولة بالإحساس القديم، ويأتي حبيبها الأول فيستعيد أن القصة ويدعوها لأن تذهب معه. وهنا ينبعث الإنسان الكامن في الأبله ويبكي لأول مرة في حياته. فلا يسع المرأة التي تخلصت من كل العواطف الساخنة إلا أن تدع الرجلين يأخذان طريقهما في الحياة العادية وتصعد هي في طريق التجرد من العاطفة البشرية.

هذه هي المسرحية كما ترى في الظاهر: قصة فيها من الواقع أحداث واقعية وأشخاص تنبض بالحياة وفيها من الرمز والإيحاء الشيء الكثير. ولكن الرمزية ليست بواقع الحياة الذي تصوره بل بدلالة هذا الواقع على النفس الإنسانية وتفسيره لمكوناتها المجردة. ولقد قدمنا أن النقاد يختلفون في تفسير الرمزين وأعمالهم ولا عجب. فالرمزية أكثر المذاهب الفنية ذاتية وحاول المؤلفون كساءها بالموضوعية.

ومع هذا فإن الرمزية - مفرق الطريق - تتضح عند عنوانها الذي يحدد طبيعة المسرح الذي تجدي فوقه أحداثها بأنه ملتقى العقل والشعور. ويتضح هذا التحديد في توطئة المسرحية التي كتبها المؤلف. وأخشى أن أقول أن الدكتور بشر فارس وقد مارس النقد خاف أن يأتي مخرج أو ناقد فلا يحسن فهم اتجاهه فقدم المسرحية بتوطئة طويلة وتبين لطبيعة المسرح ورسم للشخصيات ثم عاد مرة ثالثة فرسم المسرح والشخصيات كما تبدو في الواقع مبالغة منه في إيضاح المبهم من الأشياء. ولو رجعنا إلى هذا التبيين نجد أن المرأة تمثل النفس الإنسانية حين تضطرب فيتجاذبها عالم العقل الباطن - كما يمثله الأبله - والعقل الظاهر الذي يمثله حبيبها ذلك الإنسان العادي الذي لا يدرك المعاني المجردة.

هذه هي الشخصيات وما ترمز له من دلالات تجمع بينها الفكرة المسيطرة على الشخصية الرئيسية: وهي الصراع بين العقل الظاهر والباطن وضرورة التوفيق بينهما. ومن هذا الصراع الدفين أخذت المسرحية شكلها الدراماتيكي - وإن كانت المسألة ليست قصراً على الشخصيات والفكرة وحدها، فإن المواقف التي مرت بها لها دلالاتها لأن المؤلف يلونها بفكرته.

ونكتفي بهذا التفسير لرموزه المسرحية لننتقل إلى بنائها المسرحي. وهنا نجد المؤلف يبدؤها بمشهد من التمثيل الصامت يستمر مدة ليست قصيرة فيكسبها الشكل المسرحي الخالص. وهي التفاته فنية إلى طبيعة المسرح التي لا تقتصر على الكلام والحوار، ثم يعود فيكررها أكثر من مرة.

وإذا ربطنا هذا التمثيل الصامت وصوت الناي الذي يسمع مراراً أدركنا أن المؤلف أراد أن يوفر لروايته كل العناصر الجمالية التي عرفها المسرح منذ نهض عن الإغريق حتى وجود البالية. وهو حين يستخدم هذه العناصر لا يقدمها كإضافات تملأ فراغاً بل كدلالات أصيلة تشارك في الأحداث. ففي المنظر الصامت الذي تبدأ به المسرحية نجد الأبله يمسك عوداً من القصب وبينما يكسره على ركبتيه يشد العود إليه بقوة كان هناك من يريد خطفه. فتسأله المرأة (أيريد أحد خطف قصبك؟) وهنا تكون دلالة التمثيل على الحالة النفسية التي تبدو عليها الشخصية.

وإذا تركنا الصمت الموسيقي اللذين أعانا المؤلف على توضيح فكرته نجد الحوار عنده لا يقتصر على تأدية وظيفته اللغوية فحسب بل تعداها إلى ما هو أهم حين يقف به عند مجرد العرض بل يجعله يشارك في الأحداث باعتبار أن الحدث المسرحي في الرواية الرمزية يدور داخل النفس ولا يتجسد خارجها وأن وسيلة الحديث النفسي الحركة الباطنية التي يعبر عنها الحوار المار. وميزة هذا الحوار أن ألفاظه فيها من الشعر طابع الإيجاز واللطف.

ورغم الجهد الذي تتطلبه هذه المسرحية من الممثل والمخرج بل ومن المشاهد - فأنا نطالب بتمثيلها على مسارحنا باللغة الفرنسية من الفرق الأجنبية التي تأتينا كل من عام من فرنسا. وباللغة العربية من الفرقة النموذجية التي ستقدم عيون الأدب المسرحي.

يوسف الحطاب