مجلة الرسالة/العدد 886/تعقيبات
مجلة الرسالة/العدد 886/تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
حول مشكلة النقد والنقاد
حياك الله وحي أدبك الرفيع وبعد
كان سروري بعودتك إلى تعقيباتك الفطنة الواعية في (الرسالة) الغالية سرور المنصف بعودة الحق إلى نصابه. . . ولم يحملني تعريجك على ديواني الجديد (من نبع الحياة) أن أنقص من فرحتي ذرة واحدة بعودتك إلى عشك الأليف في (الرسالة) لأن الحق عندي لا يتأثر بما قد يثار من غبار.
ولقد كان تعقيبك على مشكلة النقد والنقاد، وتعرضك لنقد الدكتور الأهواني لديواني الجديد مسألة من حق الأهواني أن يدافع عن نفسه فيها، فله قلم وفيه بيان، ولست أدعي الحرص على مركزه كناقد أكثر من حرصه على نفسه.
على أنني تبينت من كلمتك استعدادك لمناقشة الدكتور الأهواني حول ما كتبه عن ديواني (من نبع الحياة) في مجلتي الرسالة والثقافة، ولما كنت أخشى أن يكون حكمك على الديوان حكماً (غيابياً) لأنه فاتني - تقصير - أن أتشرف بإهدائه إليك. . . فإنه يسعدني أن أقدم الديوان بين يديك، راجياً أن يتيح لك من صدق النقد وإخلاص التوجيه ما أعده ضرورياً للكمال الفني.
وإني على ثقة أن مثلك في حسه الفني الأصيل لخليق أن يرحب الكتاب والشعراء بنقده، وأن يلتمسوا بعينه البصيرة ما لم يقع لعيونهم في ساعات التلقية والإلهام.
ولا أزيدك علماً يا أخي بأنني في كتابي (بين سطور) كنت أتوخى الحق دائماً فيما تعرضت له من نقد أساتذة إجلاء وأصدقاء أعزاء، ولكن الحق شيء والصداقة شيء آخر. وآفة النقد عندنا - على وجه العموم - أننا نميل مع الزمام لأحدهما على صاحبه.
فكن كما أعهدك، الناقد الذي يفرق بين الحق والمجاملة. ولا أقول الصداقة، لأن الظروف لم تسعدني بصداقتك. . . وإن كانت صلاتنا الفكرية تجمعنا في إخاء تالد والسلام عليكم ورحمة الله.
محمد عبد الغني حسن نشكر للأستاذ محمد عبد الغني حسن جميل رأيه ونبيل عاطفته وكريم تقديره. ونبادر فنقول له: إننا حين عرضنا لمشكلة النقد والنقاد في عدد مضى من الرسالة، ولم لم تكن تهدف إلا إلى أن نقف إلى جانب الحق ولو أغضب الحق بعض الناس، وأخرجهم من صنوف الأصدقاء ودفع إلى معسكر الخصوم. . هذا الحق الذي وقفنا إلى جانبه عماد الحرص البالغ على أن تظل القيم منزهة عن الهوى مبرأة من الأغراض، وجوهره الدعوة الخاصة إلى أن يبتعد بعض الناس عن كل مجال لا يحسنون التعرض له ولا يجيدون الحديث فيه!
ودعوتنا إلى تقرير هذا الحق ليست وليدة اليوم حين طالعنا كلمة نقدية عن ديوان الأستاذ الفاضل، وإنما هي وليدة الأمس المسجل على صفحات الرسالة منذ عامين، هناك حيث وردت في مقالنا عن (عناصر الشخصية الأدبية) هذه الكلمات. . (. . . ومن عناصر الشخصية الأدبية أن يعرف الكاتب أين يضع مواهبه فلا يدفع بها إلى ميدان لم تخلق له، وأين يركز ملكاته فلا يوجهها التوجيه العقيم الذي لا ينتج ولا يثمر. عندئذ يجدي التركيز حيث لا يجدي التشتيت، وغني الجهد الذي يبذل في مكانه عن الجهد الذي يبذل في غير مكانه. . . هذا الناثر الذي يعالج نظم الشعر فيخفق، وهذا الشاعر الذي يحاول كتابة القصة فلا يوفق، وهذا القصاص الذي ينحرف بريشته إلى النقد الأدبي فلا يخرج بشيء، وكل هؤلاء ينقصهم هذا العنصر الخطير من عناصر الشخصية الأدبية، ونعني به عنصر الدراسة الخاصة لقيم المواهب والملكات).
قلنا هذا بالأمس ثم عدنا فأدركنا الحديث حول معناه وما زلنا نصر على أن بعض الناس - ومنهم الدكتور الأهواني يقحمون أنفسهم في ميدان النقد وهم بعيدون عما ينبغي له من وسائل، ويكرهون أقلامهم علو وزن الشعر وهم مفتقرون إلى اكتمال الأداة! هذا الحق الذي نقرره بالنسبة إلى الدكتور الأهواني قد سبقتنا إليه (الرسالة) منذ عامين على وجه التحديد يوم أن تعرض الدكتور لنقد كتاب من كتب الأستاذ تيمور وهو كتاب (أبو الهول يطير)، ولقد عقبت (الرسالة) على نقده بهذه الكلمات: (آفة النقد عندنا الترديد والتقليد، فالدكتور الأهواني يردد نغمة قديمة لم يبق لها في الآذان رجع! كان النقاد يأخذون على أسلوب الأستاذ تيمور في نتاجه الأول أنه أقرب إلى العامية في ألفاظه وتراكيبه، فإنتقش هذا الرأي في أذهان الناس، وصرفهم الكسل العقلي عن استئناف النظر فيه بالموازنة والنقد، فلم يلاحظوا تطور أسلوب الكاتب على إدمان الجهد وكر السنين، ومن الابتذال إلى السمو، ومن السهولة إلى هذا الجمود العقلي أن الناس قد اعتقدوا في كا كاتب من كتابنا وزعيم من زعمائنا، رأياً لا يتحولون عنه ولا يغيرون منه. فلو كان عندنا نقد يجاري التطور، ولنا رأي يساير النهوض، لحكمنا على الكاتب بالقول ما يقول، وعلى الزعيم بآخر ما يعمل. ويظهر أن الأستاذ الناقد يخلط بين السهولة والابتذال فإن السهولة من الصفات الجوهرية للبلاغة، ولا يعيبها على الكاتب إلا جلف بالطبع أو متقعر بالصنعة.
هذا ما عقبت به (الرسالة) على طريقة الأستاذ الأهواني في النقد، ولعل الأستاذ عبد الغني حسن يوافقنا على أن هذه الكلمة الموجزة تغنينا وتغنيه عن كل تفسير وتعقيب. . أما نحن فنوافق الأستاذ الفاضل على قوله بأن تعرضنا لنقد الدكتور الأهواني مسألة من حقه أن يدافع فيها عن نفسه، هذا الحق وما زلنا على استعداد لمناقشة الدكتور فيما كتب، وبيننا وبينه كما قلنا موازين النقد وديوان (من نبع الحياة). ولعله لا يركن إلى الصمت المطبق طلباً للسلامة وإيثاراً للعافية.
ولقد تفضل الأستاذ عبد الغني حسن فأهدى إلينا ديوانه الجديد خشية أن يكون حكمنا على الديوان (غيابياً) كما يقول ألا يشعر الأستاذ الشاعر أنه قد اندفع بعض الشيء فأفلت منه زمام التعبير؟ إننا يا أخي لسنا من هذا الطراز من النقاد، أولئك الذين يحملون أقلامهم لينقدوا كتاباً ولم يقرئوا منه إلا فصلاً أو فصلين، أو ديواناً ولم يقفوا فيه إلا عند قصيدة أو قصيدتين. . لسنا من أولئك، وإنما نحن - في غير ما زهو أو استعلاء - أصحاب النقد الذي يعرف القواعد والأصول على خير ما تعرف القواعد والأصول. ولا بأس من أن نصفح عن هذه الزلة القلمية، نصفح عنها ما دام خلوص النية وسلامة القصد، وهذا ما يؤكد صدق الشعور في كثير من السطور.
ألا فليطمئن الأستاذ عبد الغني حسن إلى أننا أمناء على الحق حرصاء على القيم أوفياء للكرامة العقلية. . وكل هذه الأمور ستكون هي المنهج الذي نسير عليه ولا منهج سواه، هذا إذا قدر للدكتور الأهواني أن يناقشنا فيما أخذناه عليه من شطحات. ولن نتعرض لديوان الأستاذ بنقد أو تحليل إلا إذا أقنع صاحبه بأن يدافع عن نفسه، وما أكثر ما ينتظره في الطريق الوعر من عقبات! بقيت إشارة الأستاذ الفاضل إلى كتابه (بين السطور) وما جاء بها عن طريقته في نقد الأساتذة والأصدقاء، وهي الطريقة التي تؤمن بالوفاء للأمانة القلمية قبل الوفاء للعلاقة الشخصية. نحب أن نؤكد للأستاذ عبد الغني حسن وتشهد ندوة الرسالة منذ أسابيع - أننا كنا أول المعجبين بمسلكه هذا في النقد الأدبي، يوم أن طالعنا له فصلاً من فصوله النقدية في مجلة الثقافة عن آخر كتاب أصدره الدكتور الأهواني. . . لقد كان قاسياً كل القسوة على صديقه حتى لقد نعت الكتاب بأنه لا نفع فيه ولا غناء! هذا المسلك الرائع في معاملة الأصدقاء قد دفعنا إلى الإشادة به في ندوة الرسالة أمام أناس كان من بينهم الدكتور الإهواني. . ولسنا ندري لم نسى الدكتور (الناقد) ذلك الذي قلناه في تلك الليلة تعقيباً على نقد لأستاذ عبد الغني حسن لكتابه وقد كان توجيهاً له بأن يسير في نفس الطريق! لقد صدق الأستاذ حين قال: إن الحق شيء والصداقة شيء آخر، وإن آفة النقد عندنا - على وجه العموم - أننا نميل مع الزمام لأحدهما على صاحبه. .
حول ذكرى الموسيقار باخ
(سمع بعض مئات من الناس أول أمس في كاتدرائية ستراسبورج قطعاً من موسيقى جون سباستيان باخ، أثناء الاحتفال بمرور مائتي عام على وفاة ذلك الفنان الخالد.
وقد أضيء برج الكنيسة بالأنوار وزينت جدرانها بقطع ثمينة من السجاد، واشترك في عزف الموسيقى عد كبير من فناني فرنسا واركسترا راديو ستراسبورج. وكان هذا الاجتماع حفل الافتتاح بذكرى باخ. ويطول الاحتفال بها أسبوعين كاملين)!
هذا هو الخبر الذي نقلته إلينا (الأهرام) منذ أيام. . . وهو خبر لو رحت تحصي عدد كلماته، لوجدتها، تقل عن الخمسين! ومع ذلك، فأنت لا تستطيع أن تحصي أصداءه في النفس، ولا طلاله في ثنايا الحس، ولا معانيه في أعماق الفكر، ولا رواسبه في قرار الشعور!
أسبوعان ينفقان في تخليد ذكرى. . . ذكرى انقضاء مائتي عام على وفاة فنان. إن القوم هناك لا ينسون الفن، ولا يجحدون الفضل، ولا يشغلون على التهجد في محراب الذكريات. . . كل أيامهم وفاء، وكل غاياتهم مثل، وكل لآثارهم خلود. وهكذا تجد (باخ) حياً في الضمائر، ماثلاً في الخواطر، نابضاً في القلوب. . . ولو انقضى على وفاته قرنان من الزمان!!
نظرة إلى هنا. . . ونظرة إلى هناك. وقارن بيننا وبينهم. . . بين الذهول والوعي، بين الخمول والخلود، بين الوفاء والجحود، بين القبح والجمال، بين الموت والحياة! ترى هل تجد وجهاً للمقارنة؟ لا نظن. . ولكنه الشيء يذكرنا بنقيضه كلما خطر في البال شرق وغرب. . شرق ينسى الذاهبين من أصحاب الفن بعد شهور، وغرب لا يريد أن ينساهم ولو مرت قرون!
أتذكر يوم حدثناك عن تخليد الأمريكيين لمرجريت ميتشل، تلك الفنانة المبدعة التي ظفرت بالخلود لأنها قدمت إلى العالم قصتها الوحيدة الفريدة (ذب مع الريح). .؟ لقد كان التقدير للكاتبة العظيمة مظهر من مظاهر الكرامة العقلية في الولايات المتحدة، تلك التي يقال عنها إن دوي الآلات فيها قد طغى على صوت الفن، وإن ضجيج المادة قد أخمد سبحات الروح. . أما في فرنسا وغيرها من البلاد الأوربية، فحسبك أن تعلم أنه ما من أديب كبير أو فنان معروف إلا وله تمثال يذكرك به في ميدان من الميادين، أو شارع قد أطلق عليه أسمه، أو دار قد حولت إلى متحف ينتسب إليه. . وما أكثر وسائل التخليد الأخرى التي تقوم بها الهيئات والحكومات.
عندهم هذا كله. . وعندنا الأدباء والفنانون يتضورون من الجوع ويضجون من الغبن، ويصرخون من الإهمال وهم أحياء، فإذا ماتوا. . اكتفينا في إحياء ذكراهم بحفلة تأبين تقام، ودمعة رثاء تذرف، وكلمة أسف تكتب ثم ينسى كل شيء بعد حين!!
قصيدة الشاعر للأستاذ يوسف حداد
قلت لنفسي بعد أن فرغت من قراءة القصيدة المنشورة في العدد الماضي من الرسالة: هذا شعر. . وعندما نقول إن قصيدة الأستاذ يوسف حداد شعر، فإننا نعني تلك الومضات الغادرة (من الأداء النفسي) الذي شرحنا لك بالأمس القريب أصوله وقواعده. ولا نريد بهذه الكلمة أن نطبق مذهب الأداء النفسي على قصيدة الأستاذ الحداد، ولكننا نريد أن نقدم إليه أخلص التهنئة وأصدق الإعجاب، على الرغم من بعض المآخذ التي لم تخل منها قصيدته المحلقة.
إن جناح هذا الشاعر ليعيد في رأينا من الأجنحة النفسية في أفق الشعر العربي الحديث. .
ومن عجب أن هذه القصيدة التي نشرتها الرسالة هي أول أثر فني نطالعه للأستاذ حداد، وأعجب من هذا أننا لا نعرف من أي قطر من أقطار العروبة يصدح بشعره: أهو من لبنان أم من سورية أم من العراق. . . أم تراه من شعراء المهجر؟ سؤال لم نعثر له على جواب، لأن قصيدته المشورة لم تشر إلى موطنه حيث يقيم!
إننا نشعر بكثير من الأسف لأننا لم نقرأ شعراً للأستاذ حداد من قبل، ونشعر أيضاً بكثير من الحرج حين يدور في خلدنا أن بعض القراء قد يعرفونه حق المعرفة، في الوقت الذي لم تتح لنا الظروف أن نعرفه بعض المعرفة. مهما يكن ما أمر فإنه ليسعدنا كل الإسعاد أن يطلع الشاعر على هذه الكلمة، وأن يبعث إلينا بقطوف من شعره لنقضي معه لحظات أخرى معطرة بأرج المتعة الروحية الخالصة!
وللذين يوافوننا ببعض ما يعرفون عن الأستاذ حداد - إذا لم يقدر أن يطلع على هذه الكلمة - تحية ملؤها الشكر العميق.
أنور المعداوي