مجلة الرسالة/العدد 885/تعقيبات
مجلة الرسالة/العدد 885/تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مشكلة الفن والقيود:
(لا يحيا الفن بغير القيود)، مثل مشهور تبناه فريق من أدباء فرنسا وشايعهم فيه أنصار من مختلف بقاع الأرض. وأرى أنه ينطوي على شيء كثير من الخطأ والضلال، لأن إخضاع الفن للقيود يعني تقنينه وربطه بقواعد وأصول، وهذا ينافي طبع الجمال الذي هو غاية الفن وطابعه الرئيسي. ولو طبقنا المثل نفسه على الشعر العربي مثلاً لانعكست الآية وانقلب المفهوم رأساً على عقب فمما لا شك فيه أن القافية كثيراً ما تسوق الشاعر مرغماً إلى معنى لا يرتضيه ولكن ارتضته القافية، ومعنى هذا أن القافية تنطق الشاعر كلاماً لم يقصد إليه ولم يهدف إلى معناه، وما لا يقصده الشاعر ولا يهدف إليه يكون حتماً خيلا عليه فلا يرتضيه ولا يطمئن إليه، وفي هذا قال شاعرنا العربي عبارته الخالدة (ما أرضاه من شعري لا ياتبنى وما يأتيني منه لا أرضاه).
حقاً إن القافية تبتكر معنى جديداً لم يخطر ببال الشاعر، ولكن العبرة ليست في تغيير المعني وتزاحمها وإنما في قوتها وروعتها وجمالها، وكلها صفات لا تجتمع للمعنى الذي تبتكره القافية، إلا عن طريق الصدفة، والتعويل على الصدفة عند تكوين حكم عام عن الفن، أمر ينافي الحكمة ويجافي المنطق. . . ألا ترى معي بعد هذا بأنه ليس من المتصور أن تحيي القيود الفنون مادام القيد ينزع بطبعه إلى التحكم؟
هذا ما وددت أن أعرف رأيك فيه. . . ولك مني خالص الشكر والتحية.
فؤاد الونداوي المحامي
(بغداد - العراق)
يريد الأستاذ الفاضل فؤاد الونداوي أن يعرف رأينا في هذه المشكلة الفنية التي يعرض لها في رسالته، ونعني بها مشكلة الفن والقيود. ويبادر هو فيحكم على المثل الذي ينادي بالا حياة للفن إلا في ظل القيود. ويبادر فيحكم عليه بأنه ينطوي على شيء كثير من الخطأ والضلال، لأن إخضاع الفن للقيود في رأيه يعني تقنينه وربطه بقواعد وأصول، وهذ ينافي عنصر الجمال الذي هو غاية الفن وطابعه.
هذا هو رأي الأستاذ الونداوي. وخلاصته أنه يريد أن يحرر الفن من كل قيد وأن يعفيه من كل قانون، ليصل من وراء هذا كله إلى تحقيق ذلك العنصر الرئيسي في الفن، ونعني به عنصر الجمال. . . ومن هذا الرأي الذي يجهر به الأستاذ الونداوي تخرج بأن مضمون نظرته وجوهر دعوته يلتقيان حول معنى واحد: هو أن الجمال في الفن عماده الحرية.
نود أن نقول للأستاذ الونداوي إن إطلاق حكم عام على مشكلة من مشكلات الفن يتطلب شيئاً من التريث وأشياء من المراجعة. ولو تريث الأستاذ في دراسة المشكلة وراجع نفسه عند إصدار حكمه، لأدرك أن تحرير الفن من كل قيد معناه الحرية المطلقة، وأن الحرية المطلقة ليست هي الجمال الذي يتطلع إليه! إننا حين نفرض القيود على الفن فإنما نفرضها بغية أن نبث فيه روح النظام. وما هو الجمال في الفن إذا لم يكن هو النظام على التحقيق؟ وحين نرفض الحرية المطلقة في الفن فإنما نرفضها خشية أن نبث فيه روح الفوضى. وما القبح في الفن إذا لم يكن هو الفوضى بلا جدال؟ لا بد إذن من القواعد وأصول حين نحتاج في (تنظيم) الفن إلى تلك القواعد والأصول، ولابد إذن من القيود التي تقررها المقاييس النقدية لتحديد القيم الجمالية. ومع ذلك فنحن لا ننكر الحرية التي تتيح للفن أن يتنفس ليكون فناً، ولكنها الحرية المعقولة غير المطلقة، تلك التي تعمل في مجالها الطبيعي حيث قدر لها أن تكون! هناك إذن قيود مفروضة وقيود مفروضة. أما تلك القيود المفروضة فقد حددناها في مذهب (الأداء النفسي)، وهو مذهبنا في نقد الفنون عامة وفي نقد الشعر على الأخص، ولا بأس من أن نعيد اليوم بعض ما قلناه بالأمس، مادام الأستاذ الونداوي يريد أن يعرف رأينا في مشكلة الفن والقيود.
في القصيدة الشعرية، وفي اللوحة التصويرية، وفي القطعة الموسيقية، وفي كل عمل يمت إلى الفن بسبب من الأسباب، يحسن بالفنان، بل يجب عليه، أن يكون له هدف. . هذا الهدف لا بد له من تصميم، ولابد له من خط سير، ولا بد له من خطوات تتبع خط السير وتعمل في حدود التصميم. ذلك لأن الفن في كل صوره من صوره يجب أن يعتمد أول ما يعتمد على تلك الملكة التي نسميها (ملكة التنظيم)، وكل فن يخلو من عمل هذه الملكة التي تربط بين الظواهر، وتوفق بين الخواطر، وتنسق المشاهد ذلك التنسيق الذي يضع كل شيء مكانه؛ كل فن يخلو من عمل هذه الملكة لا يعد فناً، بل هو (فوضى فكرية) أساسها وجدان مضطرب، وذهن مهوش، ومقاييس معقدة أو مزلزلة. وأبلغ دليل على تلك الفوضى الفكرية في بعض ما نشاهده من آثار تنسب ظلماً إلى الفن، هو تلك الحركة السريالية التي هبطت إلى ميدان الشعر كما هبطت إلى ميدان النحت والتصوير والقصة، فعبثت بكل الأنظمة والمقاييس التي تطبع الفن بطابع التسلل والوضوح والدقة والوحدة والنظام. . . مثل هذه الحركة في الفن ليس لها هدف ولا تصميم ولا خط سير، وإنما هي أخلاط من الصور وأشتات من الأحاسيس لا يربط بينها رابط ولا تحدها حدود! وشبيه بتلك الحركة في جنايتها على معايير الذوق وموازين الجمال كل حركة أخرى تمضي بالفن إلى غير غاية، هناك حيث تفتقر بعض الأذهان إلى تلك (الملكة التنظيمية) التي تلائم بين الجزئيات وتوائم بين الكليات، وتفضل ثوب التخيل على جسم الفكرة بحيث لا ينقص منه طرف من الأطراف ولا يزيد.
نريد من الفنان سواء أكان شاعراً أم مصوراً أم موسيقياً أن يخلق نموذجه الفني على هدى تصميم يرسم (أصوله وقواعده) قبل أن يبدأ عمله وقبل أن يمضي فيه وقبل أن ينتهي منه. نريد أن يكون بين يديه هذا التصميم الفني الذي يأمره بالوقوف عند هذا المشهد، وبالتقاط الصورة من هذه الزاوية، ويتركز الانفعال في هذا الموطن من مواطن الإثارة. عندئذ نوجد (نظاماً)، وإذا ما أوجدنا النظام فقد خلقنا الجمال، وإذا ما خلقنا الجمال فقد قمنا بناء الفن هذا التصميم الذي ندعو إليه ينظم هيكله العام أصول الأداء النفسي في الشعر والتصوير والموسيقى. هناك حيث تتوقف قيمة الفنان على مدى خبرته بتلوين الألفاظ والأجواء في الميدان الأول، وتوزيع الظلال والأضواء في الميدان الثاني، وتوجيه الأنغام والأصوات في الميدان الأخير. ولا بد للأداء النفسي في الشعر من هذا (التصميم الداخلي). لابد من جمع أدوات العمل الفني وترتيبها في ذلك المستودع العميق، مستودع النفس، قبل أن ندفع بها إلى الوجود كائناً حياً مكتمل الخلقة متناسق الأعضاء. . إننا ننكر ذلك الشعر الذي تكون فيه القصيدة أشبه بتيه تنطمس فيه معالم الطرق وتنمحي الجهات، أو أشبه بمولود خرج إلى الحياة قبل موعده فخرج وهو ناقص النمو مشوه القسمات!
هذه يا صديقي هي القيود المفروضة التي تتيح للفن كل معاني الحياة. . أما تلك القيود الأخرى التي لا نرتضيها للفن لأنها تحد من حريته الطبيعية وحقه المشروع، فهي تلك الصيحات التي تنطلق من بعض الأفواه منادية بربط الفن إلى عجلة المجتمع أو مزجه، بأصول علم الأخلاق. وأصحاب المذهب الأول مغرقون في الخطأ أو مسرفون في الوهم، لأنهم يتخيلون أن المجتمع هو الحياة حين يتحدثون عن الصلة بين الفن والحياة! إن مصدر الخطأ هنا هو أن الحياة في مدلولها اللفظي وواقعها المادي، أوسع مدى وأشمل معنى من المجتمع الذي يريدون للفن ألا ينشر جناحيه بعيداً عن حماه. . إن المجتمع جزء من الحياة وليس هو كل الحياة، ونضرب لذلك مثلاً قصيدة من الشعر يصور بها الشاعر مجلي من مجالي الطبيعة أو نزعة (فردية) من نزعات النفس أو دفقه (ذاتية) من دفقات الشعور. أليس كل جانب من هذه الجوانب التي تخرج عن دائرة المجتمع، تعبيراً عن الحياة في وضع من أوضاعها الخاصة التي تفيض بالنبض وتزخر بالحقوق؟ إننا نستطيع أن نلتمس الحياة في شعر يتحدث عن الصحراء، وفي قصة تدور حول معالم الذات، وفي أدب معروف هو أدب الاعترافات. . . وكل هذه الألوان الفنية لا تدخل في نطاق المجتمع الكبير ومع ذلك فهي تؤدي رسالة النقل عن الحياة كأصدق ما يكون الأداء!!
هذا عن أصحاب المذهب الأول، أما عن أصحاب المذهب الأخلاقي في الفن فقد رددنا عليهم في مناسبة سابقة بكلمات للفيلسوف الإيطالي بندتو كروتشة، وهي كلمات نؤمن بها كل الإيمان لأن فيها الحجة المقنعة والمنطق السليم. . وخلاصة رأي الفيلسوف الإيطالي في نقد المذهب الأخلاقي في الفن، هو أن الفنان لا يمكن أن يوصم من الناحية الأخلاقية بأنه مذنب، ولا من الناحية الفلسفية بأنه مخطئ، حتى ولو كانت مادة فنه أخلاقاً هابطة! فهو - كفنان - لا يعمل ولا يفكر، ولكنه يعبر. . . إن فناً يتعلق بالأخلاق أو اللذة أو المنفعة، هو أخلاق أو لذة أو منفعة ولن يكون فناً أبداً!! ولئن كانت الإرادة قوام الإنسان الخير فهي ليست قوام الإنسان الفنان، ومتى كان الفن غير ناشئ عن الإرادة فهو في حل كذلك من كل تمييز أخلاقي.
بقي أن نقول للأستاذ الونداوي في مجال الرد على ما أورده حول قيود القافية في فن الشعر، إن هذه القيود كما عرض لها حق لا شك فيه، من الناحية أنها تفرض على الشاعر لوناً من التعبير قد لا يرتضيه. ولكن الأستاذ قد نسي أن تلك القيود لازمه من لوازم الشعر ليكون شعراً، له ذلك القالب الفني الذي يميزه عن قالب النثر ويشير إلى ما بين القالبين من فروق!
موسوعة عن الأدباء المعاصرين
أتشرف باطلاعك على كوني أقصد أن أطيع في أقرب وقت كتاب (المختارات)، في ستة مجلدات ضخمة، تحتوي قطعاً نثرية وشعرية منتخبة لنحو ثلاثمائة من أشهر الأدباء المعاصرين، في كل أقطار العالم العربي.
أرجو أن تتحفني بشيء من مؤلفاتك لإدراجه في كتابي، صورتك الشمسية واضحة كل الوضوح، وملخص سيرتك الأدبية، أعني تاريخ ومكان ولادتك، المدارس التي تهذبت بها، جدول مؤلفاتك وأهم حوادث حياتك الأدبية.
أشكرك سلفاً، مع إهدائي لك فائق اعتباري ودمت.
رفائيل نخلة
(دير اليسوعيين - حلب - سورية)
ليس من شك في أن هذا العمل الذي يزمع أن يقوم به الأستاذ الفاضل رفائيل نخلة، وهو إخراج موسوعة ضخمة عن أشهر الأدباء المعاصرين في العربية، ليس من شك في أنه عمل يستحق الإعجاب من ناحية جدواه. . ذلك لأن جدوى الموسوعات الأدبية هي أنها تضع بين أيدينا خلاصة وافية لحياة من تعرض لهم من الأدباء، مما يتيح للدارسين شيئاً من العون حين ينشدون دراسة الإنتاج الأدبي على ضوء تلك الحياة. أما تلك المتعة الأخرى التي يمكن أن يستشعرها القارئ وهو يتنقل بين قطع مختارة من الشعر والنثر، فهي متعة تفسح مجالاً لا بأس به لجمهرة المتذوقين والنقاد.
هذا هو رأينا في الموسوعات الأدبية بمناسبة هذه الرسالة التي تلقيناها من الأستاذ الفاضل. . ولكننا نحب أن نلفت نظره إلى حقيقة ليس إلى إنكارها من سبيل، وهو أن الأستاذ مسرف في التفاؤل حين يتصور أن في الأقطار العربية ثلاثمائة من الأدباء! لا يا سيدي، إننا يجب أن نقيم الميزان للأديب الحق لا لكل أديب حمل قلماً وكتب. . . ومن هو الأديب الحق؟ هو صاحب (المذهب) المعروف لا صاحب الاسم المعروف، هو - في كلمة جامعة مانعة - صاحب الأصالة المبدعة لا المحاكاة الناقلة. . . إذا نظرنا إلى الأدباء بهذا المنظار فلا مفر من أن يهبط الرقم الذي تتصوره من ثلاثمائة أديب إلى عدد لا يتجاوز أصابع اليدين!! معذرة يا سيدي فهذه هي الحقيقة، وكم نود أن تقنع موسوعتك بهذه الحقيقة لتظفر بما أشرنا إليه من جدوى الموسوعات الأدبية.
وعندما يوفق الأستاذ نخلة إلى اختيار هذا العدد الضئيل من الأدباء فلا بأس من أن يكتب إليهم من جديد. . .
وللأستاذ خالص الشكر على كريم تقديره.
رسائل أخرى من حقيبة البريد
لم تخل حقيبة البريد من عدد من الرسائل يدور موضوعها حول أمور شخصية، وهذا اللون من الرسائل يؤسفنا ألا نستطيع التعقيب عليه، لأننا نهدف من وراء التعقيب إلى الإجابة عن مشكلات الأدب والفن، تلك التي تهم أكبر عدد من القراء. . فإلى أصحاب تلك الرسائل نعتذر، راجين أن يقصروا أسئلتهم على المشكلات الأدبية لا الذاتية!
أنور المعداوي