مجلة الرسالة/العدد 885/الأدب والفن في أسبوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 885/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - [[مجلة الرسالة/العدد 885|العدد 885]]​
الأدب والفن في أسبوع
'ملاحظات: بتاريخ: 19 - 06 - 1950



حق المحدثين في الوضع اللغوي:

يذكر قراء (الرسالة) المحاضرة القيمة ألقاها الأستاذ أحمد حسن الزيات في مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية عن الوضع اللغوي وحق المحدثين فيه، والتي انتهى فيها إلى مقترحات أحيلت إلى لجنة الأصول بالمجمع لدراستها في ضوء المناقشة التي جرت بشأنها. وأذكر الآن أن هذه اللجنة تقدمت إلى مجلس المجمع برأيها في تلك المقترحات، وينحصر هذا الرأي في مقترحين اثنين:

الأول ناقشه المجلس وعدله ثم أقره على الوجه الآتي: تدرس كل كلمة من الكلمات الشائعة على ألسنة الناس، على أن يراعى في هذه الدراسة أن تكون الكلمة مستساغة ولم يعرف لها مرادف عربي سابق صالح للاستعمال.

والثاني: قبول السماع بشرط أن يكون هذا السماع من كاتب أو شاعر، أسلوبه العربي موضع الاطمئنان والثقة بعربيته مثل جيل بمعنى طبقة من الناس، وزهور جمع زهر.

ولما جرت المناقشة في هذا المقترح أدلى الأستاذ الزيات بالبيان التالي نصه: (يظهر أن بعد المسافة بين إلقاء المحاضرة وبحث المقترحات قد ألقي عليها ظلاً من الغموض، فإن بعض الأعضاء لم يلحظ الفرق بين الوضع والسماع فأراد أن يجعلهما واحداً، والمراد بالوضع إطلاق لفظ على معنى ابتداء، وقد يكون الوضع بالارتجال كالأب والأم والبحر والأرض والجبل، وقد يكون بالاشتقاق ككاتب وشاعر ومنشار ومفتاح وملعب، وقد يكون بالتجوز كإطلاق السماء على المطر والغيث على النبات والقهوة على المكان الذي تشرب فيه، وهذا الوضع بطرقه المختلفة كان يجري على قوانين مطردة نشأت من طبيعة اللغة وسليقة العرب وهذه القوانين هي ما نسميها بالقواعد والقياس، ولكن المتكلمين لأسباب طبيعية أيضاً يخالفون أحياناً هذه القواعد أو هذا القياس، وهذه المخالفة هي ما سميت بالسماع، والغرض منه مخالفة القياس في الاشتقاق أو النسب أو الجمع مثلاً، كقولهم يافع من أيفع والقياس موفع، وأموي بالفتح في النسبة إلى أمية وأهلون وأرضون وستون وعشرون وبابه في جمعها جمعاً مذكراً سالماً. وقد كان هذا السماع كالوضع من حق العرب الأولين والمراد الآن إعطاء هذا الحق للمحدثين فنقبل منهم ما خالفوا القياس في لفظه خالفوا المعاجم في مدلوله، كقولهم مثلاً من النوع الأول: (متحف) بالفتح والقياس الضم، و (مقهى) بالفتح والقياس الضم، و (ثلاجة) بدلاً من مثلجة، و (زهور) جمع زهر، و (نوادي) جمع ناد والقياس أندية، و (أحفاد) جمع حفيد والقياس حفدة، و (طبيعي) في النسب إلى الطبيعة والقياس طبعي، و (بديهي) في النسب إلى بديهة والقياس بدهي، و (طنطاوي) و (طهطاوي) في النسب إلى طنطا وطهطا والقياس طنطي أو طنطوي، و (قهاوي) في النسب إلى قها والقياس قهوي. وكقولهم من النوع الآخر (جيل) لطبقة من الناس واللغة جنس من الناس، و (فشل) للإخفاق واللغة والضعف، و (السمك) و (السميك) للتخمين واللغة: السمك بالفتح الرفع وطول الجدار من الأرض إلى السقف ولم يرد منه سميك، و (صدفة) بمعنى مصادفة، و (عائلة) (بمعنى أسرة).

وكان المجلس قد رد المقترح الثاني إلى اللجنة لإعادة بحثه. فنظرت اللجنة في الموضوع وفي ذلك البيان، ثم جعلت الاقتراح كما يلي: (ترى اللجنة قبول السماع المحدثين بشرط أن تدرس كل كلمة على حدتها قبل إقرارها)

ولما عرض ذلك على مجلس المجمع وافق عليه.

تعقيب

نرى أن النتيجة التي أخذ بها المجمع في هذا الموضوع تنحصر في المادتين اللتين أقرهما، الأولى تدرس كل كلمة من الكلمات الشائعة على ألسنة الناس، على أن يراعى في هذه الدراسة أن تكون الكلمة مستساغة ولم يعرف لها مرادف عربي سابق صالح للاستعمال) والثانية: قبول السماع من المحدثين بشرط أن تدرس كل كلمة على حدتها قبل إقرارها) والمتأمل في العبارتين يرى مؤداهما واحداً، وهو أن الكلمات التي يستعملها المحدثون يقبلها المجمع بعد دراستها، وهذه (الدراسة) تحفظ يشبه التحفظات التي ترد في التصريحات والمعاهدات التي ترد في التصريحات والمعاهدات التي تفرضها الدول الكبيرة على الأمم الصغيرة. فهي كلمة مطاطة، يمكن استغلالها عند بحث كل كلمة، فيقال مثلاً إنها تخالف القياس أو إنها على غير معناها في المعاجم، وقد أبدى ذلك صراحة في أثناء المناقشة الأستاذ إبراهيم مصطفى بك، إذ قال: (كان لي اعتراض على قبول كل سماع خالف القياس ولكن ما دامت اللجنة قد قررت أن كل كلمة ستبحث على حدتها فإني موافق على ذلك).

ويمكن أن يقال إن (السماع من المحدثين) هو كما فسره الأستاذ الزيات مخالفة القياس في اللفظ والمعاجم في المدلول، ولكن هذا القيد أهمل في القرار إهمالاً اطمأن إليه الأستاذ إبراهيم مصطفى!

ويماثل الأمم الصغيرة في ذلك (التحفظ) هذه الصيحات التي ترمي إلى تحرير اللغة وتطويعها لمقتضيات العصر، على أساس أنها لغتنا التي ورثناها عن الأسلاف ولنا حق التصرف فيها بما ينميها ويجعلها تساير الحياة، وليست (عيناً موقوفة) يلتزم فيها شرط الواقف. وخدمة اللغة لا تكون بالتشدد فيها والوقوف بها عند الحدود الجامدة، وإنما تكون بتسهيلها وتوسيع آفاقها، لتكون لغة مرنة محبوبة. والتجارب تداما على أن التشدد لم يجد نفعاً إزاء الاندفاع الذي يخضع للقوانين الطبيعية، فكم نبه المنبهون وكم صحح المصححون دون أن يلتفت إليهم أحد، فالمتحف لا ينطق إلا بالفتح، ولم تتجنب الألسنة والأقلام الزهور والنوادي والأحفاد والفشل. . . الخ، فماذا يضير اللغة لو أقررنا هذه الكلمات وأمثالها مما شاع جريانه على الأقلام واكتسب حق الحياة بكثرة الاستعمال؟ على أننا رأينا مدلول الكلمة الواحدة قد تغير وتطور في العصور المختلفة، فماذا لو أضفنا إليها مدلولاً جديداً؟

وهذا المجمع يعني نفسه بالمصطلحات الطبية والعلمية وغيرها منذ سنوات، وقد وضع من ذلك كثيراً، أكثره غريب ثقيل ليس من المنتظر أن تستعمله الجامعات والهيئات العلمية، ولست أدري لماذا لا تظل هذه المصطلحات بأسمائها كما وضعها أصحابها؟ ولماذا لا نسهل على كلية الطب مثلاً بإقرار هذه المصطلحات كأعلام للأشياء التي وضعت لها على أن تكون الدراسة فيها باللغة العربية من حيث التعبير والتركيب المكون للجمل العربية مع الاحتفاظ بالأسماء كما هي؟

وأنا لا أستطيع - بعقلي البحت - أن أفهم لماذا نغير الأسماء وقد وضعها أصحابها عند ولادة مسمياتها فصارت أعلاماً عليها. أليس من حق الوالد أن يسمي ولده بما يشاء؟ فكذلك الصانع والمخترع، إننا لا نغير أسماء الأجانب الذين يأتون إلى بلادنا فلماذا نغير السماء الأشياء التي ترد إلينا من الخارج؟

وتبرز لنا هنا كلمة (التعريب) التي قالوا بأنها الملجأ الأخير لإدخال الكلمة الأجنبية في اللغة العربية، جرياً على ما فعله العرب في العصور المتقدمة. أريد أن أسأل: لماذا عرب العرب الكلمة المعربة ولم ينطقوها كما هي في لغتها ألم يكن ذلك ضرورة لسانية لعدم قدرتهم أو اهتمامهم بصحة النطق الأعجمي؟ وقد كانوا يفعلون ذلك بأسماء الناس والبلدان وسائر الأشياء. أما نحن فإننا نهتم بنطق اللغات الأجنبية ونجتهد في إجادتها، فلماذا إذن نعرب الكلمة ا لأجنبية؟ وما هي الضرورة الداعية إلى ذلك؟ ولماذا نقصر التعريب إذا كان له وجه على أسماء الأشياء دون أسماء الرجال والنساء والبلدان التي ننطقها كما هي ولم يفكر أحد أو لم ير أحد موجباً لتغييرها بتعريب أو غيره؟

إن حياة اللغة في تراكيبها وجملها، وليس يضيرها، بل يفيدها أن ننطق ونكتب الأسماء والأعلام والمصطلحات الأجنبية كما وضعها أصحابها، فإذا قلت سمعت الراديو، أو تحدثت بالتليفون، أو قدم المستر سميث: من لندن، فإنك تتكلم كلاماً عربياً فصيحاً لا شك في ذلك. ومن الصور العجيبة والمضحكة لذلك التشدد في اللغة، أن معلم الإنشاء في المدارس لا يقبل من التلميذ أن يكتب الراديو والتليفون والسينما، فإذا وجدها في الموضوع بدل بها المذياع والمسرة والخيالة. ووزير المعارف الحالي معالي الدكتور طه حسين يكتب الراديو والتليفون والسينما، فهل يخطئ التلميذ إذا كتب مثل وزير المعارف؟

عباس خضر