مجلة الرسالة/العدد 882/تفريط

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 882/تفريط

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 05 - 1950



للدكتور محمد يوسف موسى

تفريط تحس به حيث تكون، وتحس به حيث تلتلفت حواليك. تفريط من كل طبقة وفريق: طبقة الطلاب، وطبقة الشيوخ والأساتذة، وطبقة السادة رجال الإدارة والرياسة. تفريط من كل هؤلاء وأولئك، إلا من عصم الله وهم قليل نادر. ولولا ذلك، لصار الأزهر منذ أزمان وأزمان تاريخا من التاريخ، ولصار يتحدث عنه كما يتحدث عن كائن طالت به الحياة، وأثر فيها وتأثر بها، ثم صار أثرا بعد عين وغظة في الحاضر والمستقبل!

نعم! ذلك حال الأزهر اليوم، وقد نشأ أول أمره مقراً للدعاية لمذهب ودولة، ثم - لفرط حيويته - تمرد على ما أريد به وله، فصار منارة عامة ترسل أشعتها هنا وهناك في أرجاء العالم الإسلامي ثم تقدم به الزمن فصار، فترة طويلة من التاريخ، المعين الوحيد للمعرفة والعلم، وصاحب الأثر الكبير في تصريف شؤون البلد والقول الفصل في المشاكل التي تجد. وكان من رجالاته من عرف التاريخ لهم فضلهم، إذ عرفوا لأنفسهم كرامتهم وللعلم حقه، حتى كان منهم من رفض أن يمد يده لصاحب السلطان، بعد أن لم ير حرجاً في أن يمد بحضرته رجله! ثم مرت أزمان، وجاءت أزمان، وإذا بالأزهر لا يلتمس رأيه فيما يجب أن يكون له الرأي فيه، حتى لقد غدا كما يقول الشاعر:

ويقضي الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود

وأحب قبل الكلام الجاد فيما أنا بسبيله، أن أسارع فأطمئن المشفقين من الأبناء الأوفياء والزملاء الأفاضل، هؤلاء وأولئك الذين يخافون على عقبى صراحتي في زمن يتهم فيه كل صريح، أنني، علم الله، لا أقصد بحديثي هذا رجال عهد معين قريب أو بعيد، إنما أعني الأزهر ورجاله في هذا العهد الذي نعيش فيه منذ سنوات وسنوات. ولست بالذي ينقص إجلاله لفضيلة الأستاذ الأكبر عن أشد الناس حباً له واتصالاً به. غير أني صريح بحكم منبتي وطبيعتي، وحديث عهد ببلاد تصدع بالحق متى هديت له، وأشعر في قوة بما علي وعلى أمثالي من تبعات للأزهر في حاضره ومستقبله، تبعات لا يفتأ الإخوان يذكروننا بها في كل مناسبة.

فليهدأ، إذاً، بالاً الأبناء والإخوان المشفقون، فالله متم أمره، ولن يقف حذر دون قدر. ولس بما أقول، اليوم أو بعد اليوم، إلا في مقام الناصح الأمين. وليس مناي - وقد جاوز مثلي الخمسين - بأقل من أن ينصح بما يراه حقاً، وليس إنسان مهما علا قدره بأكبر من أن يتقبل الرأي الحق يتقدم به ناصح أمين.

1 - لطلاب الأزهر في الكليات والمعاهد مطالب يضربون من أجلها عن الدروس فترة طويلة كل عام، ويلحون في سبيل تحقيقها ملتمسين كلما يرون من سبل ووسائل. وهم جميعاً لا يكلف أحدهم نفسه النظر فيما يطلبون: أحق كله؟ أو يلتبس فيه الحق بالباطل؟ وهل رائدهم الإخلاص فيما يرجون؟ أو هي أصابع الفتنة تدفع بهم في غير الطريق السوي؟

ويحاول هؤلاء الطلاب المساكين التماس عون أساتذتهم وشيوخهم فلا يجدون منهم إلا ازورارا وأعراضاً، لأنهم يخافون التهمة بتحريك الطلاب، أو لأنهم لا يعرفون كيف يوجهونهم سواء السبيل. والمشيخة من ذلك في شيء من الحيرة والكرب؛ لا تقدم إلا إذا أشتد الخطب، ولا تقرر إلا تحت الضغط.

ولو كانت الأمور تجري عندنا في الأزهر على استقامة، لكان يسيراً كل اليسر على أولى الشأن في الكليات تعرف ما فيه الخير للطلاب في ثقافتهم ومستقبلهم، والأهداف التي يجب أن يعدوا الإعداد الطيب لبلوغها، ووسائل تحقيق هذه الأهداف. وحين إذ لا يكون الطلاب ما يشكون منه، وما يضربون عن دروسهم من أجله.

ولو كانت الأمور تجري عندنا في الأزهر على استقامة، من الطلاب والأساتذة وأولى الأمر، لكان للكليات (اتحاد) كاتحاد الكليات في الجامعة، ولكان هذا الاتحاد وسيط خير بين الطلاب والمشيخة، ولكان وسيلة يمرن بها الطلاب على المشاركة في إدارة شئونهم، وعلى المسئولية والاضطلاع بها. ولكن كيف السبيل إلى تكوين مثل هذا (الاتحاد)، ومن إليهم الأمر يظنون كل صيحة عليهم، ويرون في تكوين هذا (الاتحاد) بدء ثورة وانقلاب؟! ثم كيف السبيل إلى مثل هذا (الاتحاد)، ومن الشيوخ من يستحل اتخاذ الطلاب الأبرياء وسيلة لقضاء حاجة أو حاجات في نفوسهم! ومن أجل هذا يزور المدرسون عن الطلاب، فلا يرى الطلاب - وقد حرموا التوجيه الصالح - إلا أن يصدروا عن عقولهم التي تنقصها الإحاطة بالأمور، وعن خبرتهم وتجاربهم وهي ناقصة، وعن مطالبهم الخاصة دون رعاية للحق أو للصالح العام في نفسه.

2 - وبعد الطلاب، الذين شغلتهم الامتحانات والاستعداد لها عن مطالبهم، جاء بكل أسف دور المدرسين والأساتذة.

نعم! هاهي ذي المعركة حامية الوطيس بين فريقي المدرسين في المعاهد والكليات، المعركة التي استعمل فيها كل سلاح وإن رغم الحق! المعركة التي وصل أمرها للصحف والديوان الملكي وللبرلمان أخيراً كل فريق يدافع - على طريقته - عن حقه وكيانه ومستقبله، ويرى كل الوسائل مشروعة ما دامت تحقق الغاية أو تدنى منها. وفيما بين هؤلاء وأولئك تضيع كرامة الأزهر، وتتزلزل سمعته في مصر والعالم الإسلامي كله.

ولو كانت الأمور تجري في الأزهر على ما ينبغي من عدل واستقامة لصدر منذ طويل (كادر التدريس) حين صدر القانون بإنشاء الكليات. وإذاً، لعرف كل من أعضاء هيئة التدريس حقه، ولوضع في موضعه الذي تؤهله له دراسته وكفايته، ولما كان من الممكن أن تقوم هذه الخصومة العنيفة بين الأخوة الزملاء أبناء المعهد الواحد، ولشغل الكل بالبحث والإنتاج العلمي الذي تخلفنا فيه حتى صرنا ساقه بعد أن كنا القادة.

ذلك ما كان يجب أن يكون، لولا اشتغال الرؤساء بالحاضر، يصرفون مسائله في ارتجال، عن المستقبل - حتى القريب منه - يعدون له ما لا بد منه من عدة ووسائل. ولله الأمر من قبل ومن بعد!

3 - وفي الأزهر اضطراب شديد أيضاً فيما يتصل بعدم تركز السلطان وتصريف الأمور في المسئولين وحدهم بكل مناصبهم، بل صار نصيب كبير من هذا إلى غير هؤلاء المسئولين، فنظمت البلوى وعمت الشكوى.

ولو كانت الأمور تجري عندنا على استقامة، لأنشئ منذ زمن طويل مكتب فني بالرياسة يكون لأعضائه من الثقافة والكفاية والروح الأزهرية والحب للصالح العام، مما يجعلهم أهلاً بحق لاقتراح المشروعات التي تفيد الأزهر، ولبحث ما يحال إليهم من مشاكل، ولتقديم المشورة الطيبة فيما يجد من أمور.

ولو كانت الأمور تسير عندنا على ما ينبغي، لوضعت منذ طويل قواعد عامة للنقل للكليات، ولكان من هذه القواعد ألا ينقل مدرس - مهما كانت درجته العلمية - من الثانوي لكلية من الكليات إلا إذا شهد له بالعلم والبحث مؤلفات منشورة

ولكن؛ منع من هذا وذاك فيما مضى، وربما يمنع منه أيضاً هذه الأيام وفي المستقبل، ما ركب في النفس من حب الاستثئار بالبت في كل أمر وبالإعطاء والمنع، ولعل الله ينظر للأزهر نظرة رحمة فيغير من هذا كله.

4 - وقد نظر الله للأزهر في بعض ما مر به من عهود، فألهم القائم بأمره حين ذاك - وهو المغفور له الأستاذ الشيخ المراغي - أن يرسل بعوثاً لأوربا يقبسون من علم الغربيين وطرائقهم في لبحث والدرس! ومضى الزمن، وعادت البعوث من فرنسا وألمانيا وإنجلترا، وانتظر الناس أن ينتقل الأزهر خطوة إلى الأمام؛ وحق لهم أن ينتظروا في ثقة واطمئنان. ولكن، ها هو الزمن يمر، وهلا هو الأزهر في جملته يسير نفس سيرته قبل أن يكون له أعضاء بعثات جمعوا بين ثقافة والشرق والغرب. نعم! ها هو الأزهر لا يزال كما نعهد من قبل في مناهجه وطرائق التدريس فيه وعدم غنائه في علوم الدنيا والدين.

ولماذا؟ لأن المشيخة لم تحب، ولا تحب، أن ينتفع الأزهر بمبعوثيه، لأنها لم تحب، ولا تحب، أن تستعين بهم - كما تفعل الجامعة ووزارة المعارف - في التوجيه الصحيح في المعاهد والكليات؛ لأنها لم تحب، ولا تحب، أن تجعل لهم الإشراف على ما يواجه الأزهر هذه الأيام من الاتصال الشديد بالعالم الإسلامي والعالم العربي في أوربا وغير أوربا.

وبهذا، صار للأزهر شكل الجامعة، دون أن يكون له حقيقتها، ما دام لا يسير على نظم الجامعات! وصار له أعضاء بعثات حازوا أكبر الدرجات العلمية من الأزهر ومن أوربا، ولكن لا يحاول أن يفيد منهم! وأصبح من العبث إرسال بعثات أخرى، نكلف أعضائها كثيراً من الجهد وتنفق عليهم كثيراً من المال، حتى إذا عادوا تركوا دون الإفادة منهم كإخوان لهم من قبل!

إن الأزهر لا يسير منذ سنين طويلة في الطريق الصحيح؛ وتلك حقيقة تعرفها الأمة وقادة الرأي فيها، كما يعرفها الأزهريون أنفسهم. وإن من دلائل ذلك ما نراه من تخلف الأزهر في ميدان الإنتاج العلمي، حتى حين يتصل بالتراث الإسلامي. وإن من دلائل ذلك عدم القدرة حتى الآن على عرض الإسلام عرضاً سليماً واضحاً يجد فيه العقل رضى والقلب هدى، ونتعرف منه الرأي الحق في المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تنوعت كثيراً هذه الأيام. وإن من دلائل ذلك ما حدثني به جمع من تلاميذي، من أنهم لا يحسون الأمة تضعهم في المنزلة التي تضع فيها طلاب الجامعة. ذلك بأن الأزهر، كما قلت أول الحديث، تسوده روح التفريط: تفريط من الطلاب في الإخلاص للعلم، وتفريط من الأساتذة في مد يد العون لهم وتوجيههم الطريق السوي، وتفريط من الرؤساء - إلا من عصم الله وهم قليل نادر - في طلب الرأي ممن يراه وفي الاستماع للنصح حين يتقدم به الثقة الأمين.

ولعل الله يعرفنا الباطل باطلاً فنجتنبه، ويرينا الحق حقا فنتبعه. وأدعو الله لأستاذنا الأكبر شيخ الأزهر، قابساً من دعاء للدكتور طه حسين بك لرفعة سرى باشا حين كان رئيساً للوزراء فأقول:

رزقك الله سداد الرأي، وألهمك صواب القول، وكتب لك التوفيق في العمل، وجعل سيرتك عزاء عن سيرة من كان قبلك، ورضا لمن عاش معك، وقدوة لمن جاء بعدك

محمد يوسف موسى

دكتوراه الدولة في الفلسفة من السوريون وأستاذ بكلية أصول

الدين بالأزهر