مجلة الرسالة/العدد 882/الفيزيوقراطيون. .
مجلة الرسالة/العدد 882/الفيزيوقراطيون. .
للأستاذ محمد محمود زيتون
سادت فرنسا في القرن الثامن عشر موجة فكرية تدعو إلى الطبيعة واشتدت هذه الموجة بفضل ما كتبه أدباء فرنسا ومفكروها سواء صدروا في كتاباتهم عن الإنجليز المعاصرين أمثال أو تأثروا بحالة بلادهم فتمثلوها وترجموا عنها أدباً وفلسفة واقتصاداً وسياسة إلى غير ذلك من نواحي النشاط الإنساني.
ترددت تلك الدعوة إلى الطبيعة على كل لسان وقلم، وامتزجت بها كل وحدة من وحدات المجتمع الفرنسي. وكان من بين تلك الدوائر جماعة الطبيعيين (الفيزيوقراطيين) الذين كانوا خير من تبنوا هذه الدعوة وأنموها وأوصلوها إلى نتائج وقفت الحضارة الفكرية عندها طويلا، لأن هذه الجماعة سوغت لنفسها أن تتخذ (العلم العام للمجتمع) مذهباً لها.
نشأت هذه الجماعة في فرنسا حوالي سنة 1750 م وكان مؤسسها (كيسنس الذي ساهم في قيامها بكتبه التي تحوي جميع العناصر الرئيسية للمذهب، من ذلك: مبدأ الحق الطبيعي، ونظرية الإنتاج الزراعي الخالص، ونظرية الشركة العادلة بين الملاك والمنتجين، ونظرية الاستبدال الطليق، ونظرية الحكومة الاستبدادية المستنيرة. وقد انتشرت هذه التعاليم بحذافيرها حينا، ومعدلة حينا، ومغيرة حينا في خارج فرنسا بل في داخلها. وكل ما كتب بصددها في المرحلة التالية للفيزيوقراطيين مباشرة إنما كان مستمدا من مؤلفات (كيسني) وقائما على الأصول التي وضعها.
نعم سبقه كثير من الماديين، وسار على نهجهم واعتنق بعض مذاهبهم، وحقا إن (لوك) وغيره من الإنجليز كانوا أسبق من (كيسني) فيما ذهب إليه، فلوك هو القائل بنظرية الحق الطبيعي، والمدافع عن حرية التجارة، ولكن هذه الآراء وإن تسربت كلها أو بعضها إلى فرنسا إلا أنها لم تعمل على خصوبة الفكر الفرنسي، ولم تكن هي الباعث على قيام هذه المدرسة وتعاليمها، وذلك لأن مركز فرنسا المادي حينذاك كان منحلاًا لما كانت تعانيه من فساد النظام التجاري، فضلا عن انحطاط الحالة الزراعية والصناعية جميعاً.
ففي مثل هذه الحالة، يتجه الاهتمام أول ما يتجه نحو (حقوق الإنسان) التي تربطه بالمجتمع، تلك الحقوق الطبيعية التي لا مصدر لها غير الطبيعة وحدها. ومن الواضح أ طبيعة الإنسان لها الحق في كل شيء يتعلق بوجوده وسلوكه، حتى إذا قام للمجتمع كيان، عانى هذا الحق تحديدا لا بد منه وقد يصبح هذا التحديد خطيراً ما لم تفسيره صيغة الحق والصيغة الوحيدة لهذا التحديد المطابقة للعدالة والعقل معاً هي حق كل فرد في نصيب من الخيرات التي يستطيع أن يمارسها عن طريق العمل والخدمات العامة.
وبتحليل هذا الحق الطبيعي ينتهي إلى عنصرية: الحرية المطلقة، والملكية المطلقة، ولكن هذه الحقوق من غير شك تفترض تبادل الواجبات. واجب العمل، وواجب احترام الغير، وواجب العمل على خير الغير. وعلى ذلك ينبغي أن يكون القانون الوضعي تفسيراً لهذين الجانبين من الحق الطبيعي. وهكذا تنتظم الروابط بين الأفراد بعضهم بعضا، ولكن يبقى تحديد موقفهم من المجتمع ليكون الحق العام متمشياً مع الحق الطبيعي غير متعارض معه، وهذا يتطلب تنظيماً.
عالج الفيزيوقراطيون هذا التنظيم، ففي الاقتصاد (ترتيب طبيعي) هو موضوع البحث في المجتمع. وفي الاقتصاد قوانين طبيعية، معرفتها أمر ضروري، وكاف لإقامة نظرية الإنتاج، ونظرية الاستهلاك، وهما النصفان اللذان يتألف منهما الاقتصاد.
ولم يكن (شارل جيد حين قال (أداء الواجبات، واستغلال الحقوق، وإرضاء الرغبات، تلك هي الأغراض الثلاثة المختلفة للنشاط الإنساني، والأخير منها موضوع علم الاقتصاد، ولذا نستطيع القول بأن الاقتصاد السياسي له أن يعالج الروابط بين الناس العائشين في مجتمع من حيث تعمل هذه الروابط على إرضاء رغبات الحياة المتعلقة بالجهود العاملة على تزويد الجميع بالثروة المادية).
والأرض هي أساس الاقتصاد، والقاعدة التي عليها يرتكز، وحسب الفيزيوقراطيين أن يشاهدوا الطبيعة وأن يستمعوا لها، فهي وحدها التي تفسر توزيع الدخل، ودورة الثروة، وقوانين المحصول الصافي وغير ذلك. ومن كل هذا استنبطوا نتائجهم، وإن كانوا فيما بعد قد ظنوا أن القوانين التي يجب أن يتوجهوا إليها، واضحة وضوح القوانين الطبيعية.
لقد تردد ذكر (الطبيعة) طوال القرن الثامن عشر. فعلى أي وجه ردده الفيزيوقراطيون؟ إنهم اعتبروا في الطبيعة جانبا ماديا، وأرادوا أن يربطوا القوانين الأخلاقية والقضائية بقوانين فيزيقية ربطا مباشرا. يقول (ميرابوا (لقد عولج الحق الطبيعي باعتباره حقاً عقلياً دون التفكير في خضوع قوانين النفس لقوانين فيزيقية متصلة بها اتصال الجسم بالروح)
وهنا تختلف وجهة نظر الاقتصادي، عن وجهة نظر الأخلاقي، فهنا يريد (ميرابو) الانتقال مما هو مادي إلى ما هو أخلاقي، وذهب إلى القول بأن (الناس تحكمهم الأشياء) ` ` هذه الأشياء عند (ميرابو) هي (الحبوب) إذ يقول (وكما أن حبة القمح مرآة تتحدث عن حكمة الخير الإلهي وعظمته ولطفه، فكذلك هي مرآة تتحدث عن الكواكب والعوالم إلى ما ينتهي، فينبغي كشف عظمة القوانين الإلهية بفخامة القوانين المادية).
وهذه النزعة - وإن بدت مادية - إلا أنها فكرة فلسفية قال بها من الفلاسفة من قال بالعناية الإلهية، وكذلك من اعتبر دورة الثروة كالدورة الدموية، من حيث لها قوانينها الطبيعية في الحياة الإنسانية.
وهنا نتساءل: لماذا أهتم الفيزيوقراطيون بالطبيعة والقول بالعناية الإلهية! الجواب سهل يسير، ذلك أنهم رأوا في الطبيعة قوة أسمى من قوة الإنسان، لأن عمل الإنسان تافه، أما الطبيعة فذات قوى منتجة هي عمل إلهي، ونوع من المنحة والنعمة.
وجد الفيزيوقراطيون إذن في القوانين المادية قوانين إلهية، واستطاعوا في جرأة وإقدام أن يربطوا بين النظام الأخلاقي والنظام الفيزيقي، لأن في نفوسهم استحساناً له مفعوله فيها، ويفسر (كسني) ذلك بقوله: (المقصود بالنظام الفيزيقي هو المجرى العام لجميع الأشياء الفيزيقية، أي هو النظام الطبيعي الأكثر نفعا للجنس البشري. وبهذا القول نكون قد وفقنا على جوهر المذهب الفيزيوقراطي، إذ القاعدة العامة لكل فعل إنساني تنطبق على أنفع نظام فيزيقي للإنسان وهذه القواعد كلها تكون قانوناً طبيعياً، واضعه الله، وهذه القوانين ثابتة دامغة، وهي أحسن ما يمكن أن يكون.
بفضل هذا الاستحسان استطاع الفيزيوقراطيون أن يقربوا بين القوانين الطبيعية الضرورية وبين القوانين الفيزيقية وأفهمونا بذلك الحقوق الطبيعية.
وكان مذهب الأحرار منطوياً في مبدئهم العام والخاص على وجوب ترك القوانين الاقتصادية حرة طليقة، وعلى ترك الباب مفتوحاً للتجارة الحرة، فاشتهر في الأوساط الاقتصادية مبدؤهم المشهور أي (دع القوانين تعمل، ودع التجارة تمر) وكان أيضاً داعياً إلى القوانين الطبيعية، والحقوق الطبيعية، ومستتبعاً لنظريتهم في الطبقات ولقد جاء الفيزيوقراطيون بفكرتين جديدتين هما:
1 - سمو الزراعة على التجارة والصناعة.
2 - إيجاد (نظام طبيعي أساسي للمجتمعات الإنسانية) كما يدل على ذلك نص عنوان كتاب للفيزيوقراطي الشهير (مرسييه دي لارفيير)
أما الزراعة فقد أعطاها الفيزيوقراطيون من الأهمية ما لم يعطوه لغيرها، لأن الزراعة في نظرهم ليست مصدر الغلة الصافية فقط، بل هي المصدر الوحيد للثروة، وما عداها عقيم والإنتاج الزراعي أجل من غيره من الأنتاجات لأن الأرض تحتوي على جميع أسرار سعادة الإنسان.
والزراعة أولاً وبالذات هي التي تخلق الثروة، أما الصناعة والتجارة وسائر الحرف فكل عملها أن تحول الثروة، وشتان بين الخلق والتحويل ثم إن العمل الزراعي - دون سواه - يعالج المواد من أجل الثروة.
والتعدين والقنص والسماكة كل ذلك تابع للعمل الزراعي ويندرج تحت اسم (استخدام الطبيعة) ولو أمكن استخدام الهواء والسماء لحسبهما الفيزيوقراطيون أيضاً من هذا العمل.
وضع الفيزيوقراطيون لهذه الأعمال جداول، ووضعوا لها قواعدها وشروطها ووسائلها، أما التجارة فإنها لا تزيد من قيمة المنتجات بتحويلها، فقالوا: (إنك حين تنصرف عن المحراث لتكون تاجراً، فإن التجارة لن تجعلك تنتج قمحا) وأما الصناعة فهي كالتجارة تحول ولا تخلق.
ولنا أن نقول هنا إن ما يسميه الفيزيوقراطيون نظرية لا يعدو أن يكون مجرد رغبة أو رأي، حفزهم إليه النزوع الأدبي قبل كل شئ، وليس أدل على ذلك من كتابات (روسو) الأديب السياسي معاً، وقد سارت السياسة والأدب في عصره جنباً إلى جنب.
والنفس بطبيعتها تنزع إلى الطبيعة بما فيها من وداعة واطمئنان بعد الشعور بالمادية الطاغية وعند النفور من لجب المدينة وضوضائها. على أن القول بأن الزراعة تخلق الثروة غير صحيح، لأن الفلاح لا يخلق شيئاً، وإنما هو يحول في المواد إلى التربة والهواء ويؤلف بينها، فهو يستنتج القمح من الماء والبوتاسيوم والسليكون والفوسفات والنتروجين، شأنه في ذلك شأن الصبان يصنع الصابون من المواد الدهنية والبوتاسا. وإذن لا فضل للزراعة على غيرها من هذا الاعتبار. ولذا لم يتردد (آدم سمث وغيره في اعتبار الصناعة عملاً منتجاً، بل أول عمل منتج، وأكثر من ذلك فإن الخدمات حتى الفنية منها لم يتردد الاقتصاديون في اعتبارها أعمالاً منتجة.
وإذا كان رأيهم في الزراعة - على النحو الذي بينا - يمثل المذهب الاقتصادي لمذهبهم، فثمت مظهر اجتماعي له، يمثله رأيهم في طبات المجتمع، وهو نتيجة محتومة للنظرة الاقتصادية.
فكما أن ما عدا الزراعة - في نظرهم - عمل عقيم، فكذلك كل طبقة ما عدا الزراع طبقة عقيمة. ولما كان الفلاح هو المساعد المباشر للقدرة الإلهية، وممون الأمة جميعها، فهو وحده الذي يستحق أن يندرج في قائمة المنتجين. يقول (ميرابو) في هذا (إن الرجل الذي يجتهد في استخراج محاصيل الأرض هو الرجل الأول في المجتمع، فكيف يستطيع الملك والقواد والوزراء أن يعيشوا من غير الفلاح، وإن كان الفلاح يستطيع أن يعيش بدونهم؟)
كل الطبقات - مهما علت أو سفلت - عالة على الفلاح، وليس الفلاح عالة عليهم، وهذا ما سيقرره فيما بعد أنصار مذهب - مثل (سيس) وأنصار الصناعة مثل (سان سيمون) الذي قرر (أن فرنسا إذا فقدت الملك والوزراء فإنها لا تفقد شيئاً ذا بال، أما إذا فقدت النجارين والنساجين والعمال عامة تعطلت الحياة، وفقدت كل شئ). وهكذا يكون قد تابع (كني) و (ميرابو) على نحو آخر.
ما عدا الزراع في الطبقات عقيم، لأنهم لا يأتون - كالزراع - بإنتاج جديد، إذ العامل والعاطل عندهم سيان، وبذا ظل الفلاحون وحدهم المنتجين بمعنى الكلمة.
أما الملاك فلم يلق الفيزيوقراطيون بهم في سلة الطبقات المهملة لأنهم حين أرادوا النهوض بالزراعة، احتاجوا إلى رؤوس الأموال فوجدوها عند الملاك، وبذلك كان مذهبهم مناهضاً للاشتراكية وهم - إذا حرموا العمال شرف الإنتاج في الطبقات المنتجة - كانوا ضد العمالية
وهم - حين أرادوا التقرب إلى الفلاحين واستغلال منتجاتهم - فتحوا الباب لمنح الامتيازات لهم، بعدم دفع الضرائب، والإقرار بأن الفلاحة من الحرف ذات الامتيازات.
وإذا كان من الواجب على الاقتصادي أن يحقق التضامن الاجتماعي بالقضاة على الفردية النهمة من جهة، والطائفية الغالبة من جهة أخرى، فإذا بالفيزيوقراطيين - وهم الساعون إلى الحقوق الطبيعية والمنادون بالحرية - يعملون على انحلال اجتماعي خطير، بإقامتهم حواجز وفواصل بين الطبقات لا تعاون بينها ولا تضامن.
تطور المذهب الفيزيوقراطي - شأن كل مذهب - إلى لون سياسي اقتصادي في آن واحد، يناهض الاشتراكية، وتوارثته الأفكار حتى انحدر إلى أتون الثورة الفرنسية، وأجج نيرانها وعارض فلاسفة القانون.
قال (منتسكيو) بالسلطات الثلاث، وألحقها (روسو) بالإرادة العامة، وحقا استنكر الفيزيوقراطيون الحكم الاستبدادي غير أنهم التمسوا العذر لإمبراطور الصين المستبد لأنه في ساعة معينة من السنة يضع المحراث بنفسه بالأرض يحرثها.
ومهما يكن من شئ، فقد كانت هذه الأنظار الفيزيوقراطية إرهاصا بمجهود فكري مجيد، احتمله فلاسفة الإصلاح، وعلى رأسهم (روسو) و (هوبز) و (متتسكيو) وقد أفادوا من المذهب الفيزيوقراطي أصوله السياسية كالحقوق الطبيعية، وأصوله القانونية والاجتماعية كالإرادة العامة، وساروا بها شوطاً بعيداً حتى جاء (دوركيم) زعيم المدرسة الاجتماعية الفرنسية الحديثة، فعمل على تجريد البحث الاجتماعي من الجانب النفعي، وضم البحث الاقتصادي إلى فروع علم الاجتماع البحت، واكتشاف القوانين الصارمة، ورسم البرامج لذلك كله.
محمد محمود زيتون