مجلة الرسالة/العدد 882/الأدب والفن في أسبوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 882/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 882
الأدب والفن في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 29 - 05 - 1950



للأستاذ عباس خضر

مصر العروبة

نشرت صحيفة (المصري) يوم السبت من الأسبوع الماضي مقالين عن مكان مصر من سائر البلاد العربية، لأستاذين كبيرين هما المفكر العربي ساطع الحصري بك، والأديب المصري الدكتور أحمد زكي بك؛ والمقالان يمثلان وجهتي النظر المختلفتين في هذا الموضوع، الأول يقول بالقومية العربية وبأن مصر هي زعيمة هذه القومية، والثاني يقول كما ينطق عنوان مقاله (ما العرب وما الفراعنة، إنما نحن قوم مصريون) ولا أدري هل قصدت الصحيفة أن تملأ الكفتين في عدد واحد أو هو مجرد اتفاق، والمحقق أن كلا من الكاتبين كتب مقاله وهو لا يعلم شيئاً عن مقال الآخر.

وقد ثنى الأستاذ الحصري موضوعه بمقال آخر نشرته الصحيفة يوم السبت من هذا الأسبوع. في المقال الأول أعرب عن إيمانه بأن مصر تعتنق الفكرة العربية وأن الطبيعة ودتها بكل الصفات والمزايا التي تحتم عليها أن تقوم بواجب الزعامة والقيادة في إنهاض القومية العربية. وقال أنه لم يقنط من انتشار فكرة القومية العربية في مصر يوماً من الأيام، وإن إحجام مصر عن الاشتراك في الثورة العربية التي قامت ضد السياسة العثمانية إنما كان لظروف سياسية وعوامل تاريخية، وهي ظروف وعوامل عارضة كان طبيعياً أن تتغير بعد مدة، كما كان طبيعياً أن يتبدل موقف مصر والمصريين من حركات القومية العربية تبدلاً ظاهراً تبعاً لتغير تلك الظروف، وأخذ الشعور بالعروبة في مصر يغمر نفوس المصريين شيئاً فشيئاً، حتى اشتد خلال الحرب العالمية الثانية، وبلغ حده الأقصى بعد تأسيس جامعة الدول العربية وعند بدء الحركات السياسية والحربية لإنقاذ فلسطين من براثن الصهيونية. ولكن الإخفاق الذي منيت به هذه الحركات أثر في هذا التيار الفكري تأثيراً سيئاً وعرض فكرة العروبة لنكسة أليمة جداً. إلى أن قال: إني أقدر مرارة الآلام التي شعر بها المصريون بحق من جراء سير الوقائع الحربية في فلسطين ولا سيما صفحتها الأخيرة. ولكني أعرف أن جميع المؤمنين بالقومية العربية شاركوا المصريين في هذه الآلام، وإن المثل العليا القومية لا يمكن أن تتحقق في حملة واحدة. ثم ارجع الأستاذ عدم تقدير هذه الحقيقة - في أهم أسبابها - إلى اختلاط مفهوم (الفكرة العربية) بأعمال (جامعة الدول العربية) في أذهان الكثيرين من الخاصة والعامة. وبعد ذلك أوضح الفرق بين جامعة الدول العربية) التي تأسست سنة 1945 بموجب الميثاق المعلوم، وبين (الجامعة العربية) التي لا تزال فكرة تعيش في أذهان الذين يؤمنون بوحدة الأمة العربية إيمانا صحيحا، قائلا بأن كل من يتهجم على فكرة الجامعة العربية من جراء أعمال جامعة الدول العربية، يكون قد ارتكب ظلماً فادحاً

وأذكر بهذا رأي الأستاذ الحصري أن القوميات إنما تقوم على اتحاد اللغة قبل كل شيء، وقد فصل هذا الرأي وطبقه على نشوء، القوميات بأوربا في المحاضرات التي ألقاها بدار الجمعية الجغرافية الملكية من نحو سنتين، وقد أتخذ من القوميات الأوربية أمثلة خلص منها إلى فكرة القومية العربية التي تقوم على لغة الضاد في جميع بلاد العروبة.

وكان المقال الثاني للأستاذ الذي نشر يوم السبت الماضي تطبيقاً لفكرته في أساس القوميات إذ رد به على حديث لسعادة الأستاذ لطفي السيد باشا أدلى به إلى مجلة (المصور) أيد فيه مصرية المصريين مستشهداً باليونان في تمسكهم بقوميتهم وتحقيق استقلالهم عن الأتراك.

قال الأستاذ الحصري: إن اليونان لم يندمجوا في الأتراك بسبب اختلافهم عنهم في اللغة وفي الدين، وقد تعرضت اليونان بعد انفصالها عن الدولة العثمانية لخطر الاندماج في الشعوب السلافية في أوروبا التي يجمعها بها المذهب الأرثوزكسي، ولكنها تغلبت على الاعتبارات الدينية واستجابت لنداء اللغة والوطن، فاليونانيون مدينون بكيانهم السياسي الراهن - قبل كل شيء واكثر من كل شيء - إلى تمسكهم بلغتهم القومية. وقال: ألا يدل ذلك على أن سعادة لطفي السيد باشا قد حاد عن جادة الصواب عندما استصغر وتجاهل شأن اللغة فساوى بين العروبة وبين التركية خلال دعوته إلى المصرية على أن هناك ما هو أهم من ذلك، فبلاد اليونان لم تستقل كلها دفعة واحدة، فقد استقل سنة 1830 أقل من خمس بلاد اليونان الحالية، وظل الباقي ولايات عثمانية ثم أصبحت من الدولة اليونانية فيما بعد، ومع ذلك فإن المفكرين وزعماء اليونان ومفكريهم لم يحصروا مفهوم الوطن الياباني داخل الحدود التي خطتها السياسة الدولية، ولم يقولوا: فلنحصر جهودنا داخل هذا الوطن الذي يرفرف عليه علمنا الرسمي، ولم يتنكروا لهذه الأقطار المختلفة فيخرجوها من نطاق جهودهم الثقافية ومن حدود أهدافهم السياسية. بل ظلوا يحلمون بالوطن الأكبر الذي يضم جميع المتكلمين باليونانية، حتى تكللت جهودهم بالنجاح التام. ألا يظهر من ذلك كله أن تاريخ اليونان الحديث لا يؤكد الرأي الذي أبداه سعادة لطفي السيد باشا، بل أنه - على عكس ذلك - يشهد شهادة صريحة ضد ذلك الرأي ويفنده تفنيدا قاطعا. أما مقال الدكتور أحمد زكي بك فقد أشتمل على العناصر الآتية:

1 - تفنيد القول بأصول الأمم وأن الفكر الحديث قد أطرح هذه الأصول، وأستدل بأمة الولايات المتحدة التي تكونت من أمم مختلفة، ولم يمنعها اختلاف الأصول أن تكون أمة مرتبطة مشتركة الأحساس، يتسابق أفرادها في الذود عنها.

2 - الجماعات الإنسانية تأخذ بالوراثة القليل الأقل من الآباء، وتأخذ بالمران الكثير الأكثر من البيئات: الجغرافية والإنسانية والثقافية والتاريخية الزمانية فأثر البيئة يغلب على أثر الوراثة حتى لا يكاد الثاني يبين.

3 - المصريون لا تصلهم بقدمائهم صلة، فالقبط الذين يقال إنهم اخلص أنساباً لا يتفق بياضهم وخضرة عيونهم مع ما عرف عن القدماء، وليس بينهم وبين المسلمين فروق بينة وقد هضم الوادي كل من دخله

4 - العربية عنصرية لا ترتكز على حقيقة، فقد اختلطت الأنساب في كل بلادها والإسلام رفض الأنساب ورفض الأحساب.

والخلاصة التي انتهى إليها الدكتور زكي بك أن مصر أمة بالذي فيها اليوم من أهل، كانت أصولهم ما كانت، مساكها روابط مما يربط الأمم الحديثة، وأكبر هذه الروابط رغبة أهلها في أن يكونوا أمة واحدة ويداً واحدة على الخير وعلى الشر، ومن هذه الروابط شركة في أسلوب الحياة الواحدة والتفكير الواحد، ومن وراء التفكير الواحد الثقافة الواحدة، ومن وراء العواطف الواحدة التاريخ القريب الواحد)

والواقع أن هذه العناصر التي تحدث فيها الدكتور أحمد زكي بك لا تنفي عنا القومية العربية ولا تقتضي انعزالنا مصريين خالصين من العروبة والعرب، فالفكر العربي الحديث لا يقيم القومية العربية الحديثة على الأصول والأنساب، فإذا قلنا إننا عرب فليس يلزم لصحة ذلك أن نكون منحدرين من أصلاب القحطانية أو العدنانية. ويظهر من ابتداء المقالة أن الدكتور بنى كلامه على تصريح (الملك الهاشمي) القائل: إن المصريين قوم أفريقيون، فهم لا يفهمون العرب، وليسوا أهلاً لتزعم العرب. ولكن الملك الهاشمي إذ يقول ذلك يعزب عن باله مفهوم القومية العربية الحديثة، وهو الوحدة المبنية على اللغة الواحدة والثقافة الواحدة المستندة إلى التاريخ الواحد. والعربي الحديث ليس هو فقط الذي يستطيع أن يثبت نسبه إلى إحدى القبائل العربية، وإنما هو الذي يتكلم العربية ويشارك قومه العرب في كل أمة عربية مشاعرهم ويرتبط بروابطهم، والمثل الذي أتى به الدكتور زكي بك، وهو الولايات المتحدة الأمريكية التي تكونت من أمم مختلفة الأصول، ذلك المثل الذي ضيقه بالتطبيق على مصر التي تكونت من عناصر مختلفة، ينطبق في اتساعه وحجمه على قد الأمة العربية التي يرجى أن تتكون من أمم مختلفة الأصول، والبيئات (الجغرافية والإنسانية والثقافة والتاريخية الزمانية) تعطيها الوحدة والتماسك، إلى جانب عامل الوراثة الذي يتمثل في اللغة والثقافة، ولا أقول في الدم والعصب، فالقومية العربية تتوافر لها البيئة والوراثة جميعا؛ وقد نفى الدكتور صلة المصريين بقدمائهم، وهذا حق لأن حاضرنا في كل النواحي بعيد عن ذلك الماضي كل البعد، وإن كنا أحيانا نتكلف الاتصال به مجاراة للغربيين الذين يصرون على تمجيد قدمائنا الفراعنة، لأنهم لا يحبون كلمتي (العروبة والإسلام) ولم يتعرض الدكتور بشيء من هذا القبيل بالنسبة لصلتنا بالعرب وما كان ينبغي له أن يفعل، لأن الدكتور زكي نفسه بلغته التي كتب بها المقال وأسلوبه الأدبي العربي، حقيقة ماثلة شاهدة على تلك الصلة الخالدة. .

ولو لم يكن عنوان مقال الدكتور أحمد زكي بك (ما العرب وما الفراعنة، إنما نحن قوم مصريون) لصلح المقال لتأييد القومية العربية ودخول المصريين فيها. وذلك بتعديل يسير في بعض الأجزاء مثل إبدال (العرب) بكلمة (مصر) في الخلاصة التي انتهى إليها، فالعرب أمة بالذي فيها اليوم من أهل الخ، فعناصر الخلاصة كلها تنطبق على العرب بما فيها من (رغبة أهلها في أن يكونوا أمة واحدة ويداً واحدة على الخير وعلى الشر) وأبرز هذه الفقرة بالذات لأقول إن هذه الرغبة موجودة يستطيع رؤيتها من ينفذ بصره إلى الحقيقة خلال غبار الأحداث الأخيرة، الذي أثاره (حكام) بحوافر مطامعهم ورغباتهم الشخصية.

العواذل: وكتب الدكتور حسين مؤنس بأهرام يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي، كلمة بعنوان (أهل الهوى) عذل فيها من بهوون العروبة من المصريين، فأتبع طريقة (العواذل) المعروفة، في تقبيح الحبيبة والتنفير منها، والدعوى أنها لا تبادل محبها هواه، وإظهار الشماتة لما ينال المحب من بعض الأذى في سبيل التمسك بمحبوبه، وتصوير المحب في صورة المتهالك على حبيب يعرض عنه ويزدريه، ويلتمسون بذلك الحبة ليجعلوا منها قبة، وقد اتخذ دكتورنا من قولة (الملك الهاشمي): إننا أفريقيون - مادة لعذله، كأن هذا الملك هو سادن العروبة الأوحد، وكأن كلمته هي الفيصل في أمر العرب. . .

وطالما عذل العاذلون ولاموا، وأهل الهوى ثابتون على هواهم، لا يزيدهم العذل واللوم إلا إمعانا في الحب وتعلقاً بالحبيب. ولم يخل حب من عاذل، فليعذل العاذلون في هوى العروبة، وليثلبوا الحبيبة، وليصفوا فتاها بما يمليه الوهم عليهم، وليفتنوا في ذلك ما شاءوا، فإن الفتى لن يحيد عن هواه، ولن يثنيه عن عزمه ما يلاقيه من المكاره، ولا يفزعه من عذل العاذلين إلا أنه يسر الأعداء.

عباس خضر