مجلة الرسالة/العدد 881/ليس بعد الدين وازع
مجلة الرسالة/العدد 881/ليس بعد الدين وازع
كان كتاب التراجيدية من الإغريق وأتباعهم من أمثال كورني وراسين وشكسبير لا يتخيرون أبطال مآسيهم إلا من أصحاب القصور. وحكمتهم في ذلك أن وجيعة النفس لمصائب الملوك أقوى من وجيعتها لمصائب السوقة، فالاعتبار بهم يكون أبلغ، والتأثر لهم يكون أشد. والناس يومئذ لم يكونوا يظنون أن سلائل الآلهة هم كذلك أغراض لسهام القدر؛ فإذا رأوا أن المرء مهما يعظم قدره ويضخم أمره لا يعظم على النوائب، ولا يكبر على الأحداث، خفت عليهم أحكام القضاء، وساعت لديهم غصص الحياة.
والحق أن ما يصيب العامة كل يوم من فواجع العيش ومواجع القلب لا يقع من النفوس موقع ما يصيب الخاصة كل حين من بعض ذلك؛ لأن أولئك مظنة الخطأ والتبذل والاستهتار، فالعجب أن يسلموا؛ وهؤلاء مظنة الصواب والتصون والحفاظ، فالعجب أن يصابوا ولعلك لا تعدم كل صباح أو مساء خبراً عن فتاة خرجت على أسرتها فأفضلها الشيطان، كما لا يعدم الرعاة كل ضحوة أو عشية خبراً عن نعجة شردت عن قطيعها فأكلها الذئب. ولكن هذه الأخبار أصبحت من مألوف الآذان لكثرة ما في سواد المجتمع من ضعاف البصيرة والعقيدة والإرادة. أما الذي لم يؤلف ولن يؤلف فهو خروج الفتاة على دينها لشهوة متغلبة أو نزوة متحكمة.
وهذه الظاهرة على ندرتها قلما تجدها في الطبقتين الدنيا والوسطى، وكثر ما تجدها في الطبقة العليا؛ فإذا عددت واحدة أو اثنتين من غواني المدن تزوجتا من غير المسلمين، عددت سبع أميرات في العراق وإيران ومصر قد تزوجن من مسيحيين وهن يعلمن أن دينهن لا يجيز هذا الزواج ولا يرتب عليه حقا من حقوق الأسرة. وعلة الكثرة هنا والقلة هناك ضعف الوازع الديني في نفوس هؤلاء، وقوته في نفوس أولئك.
واستشعار الخوف من الله طبيعة في الشعب غرسها فيه افتقاره الدائم إليه، واعتماده المطلق عليه، ورجاؤه المتصل فيه. أما السراة فهم حريون لغناهم عنه بالسراوة والثراء ألا يخشوه ولا يرجوه إلا إذا حملوا منذ النشأة حملاً على تقواه بالتربية الدينية والثقافة الروحية والأسوة الحسنة.
والسنن الإسلامية التي ربت عائشة وأسماء، وسكينة ونفيسة، وزبيدة وشجرة الدر، لا تزال قادرة على أن تربي مثلهن إذا أقيم على قواعدها السماوية نظام البيت ومنهاج المدرسة وشريعة الوطن.
إن المسلم الحق قد ينزل عن طبقته فيشكر، وقد يخرج من جنسيته فيعذر، ولكنه أبداً لا يفسق عن أمر ربه وفي قلبه نور وفي ضميره حياة.
ابن عبد الملك