مجلة الرسالة/العدد 881/قلوب من حجر
مجلة الرسالة/العدد 881/قلوب من حجر
للأستاذ كامل محمود حبيب
قال لي صاحبي: كان ذلك منذ سنوات، والشباب نضير، والإهاب غض، والعود ريان، والزمان مبتسم، والحياة مشرقة؛ والقلب - إذ ذاك - معطل من نزوات الطيش. والفؤاد خلو من نزعات الحمق، والروح عارية من دفعات النزق، وأنا - حينذاك - أب وزوج. ولا عجب فلقد عشت عمراً من عمري قنوعاً أرى الدنيا حوالي تموج بالهوى والغرام، وأنا على حيد الطريق أنظر إلى الركب فلا أستطيع أن أمد يداً ولا لساناً لأني رجل ريفي النشأة قروي المربى، طبعتني روح الريف بسمات الخجل والانزواء، وموهت تعاليم الدين الحياة في ناظري فصبغتها بأفانين من الألوان القاتمة كبلتني بقيود زائفة ورثتها غصبا فدمغتني بالتزمت والانطواء، ثم اختار لي أبي الزوجة على نسق حرمني حق الاختيار والرأي، في حين أني كنت موظفاً في الحكومة أبدو رجلاً بين الرجال، فعشت إلى جانبها لا أشعر نحوها إلا بالسيادة والسيطرة، ولا تحس هي نحوي إلا بالخضوع والاستسلام، وانطوت الأيام.
وشعرت بأنني أعيش هنا - في القاهرة - غريباً لا أجد أهلي، وهم في القرية، ولا أستطيعأن أختمر في خضم المدنية، وأنا ريفي الروح، ولا أن أعاور زملائي في الديوان أسباب المتعة واللهو، وأنا أنكمش على نفسي وعلى ديني، فرحت أهيئ السلوى والعزاء في الدار، وأداري نقصي باللباس الأنيق والمسكن الجميل وعندي الخفض والسعة فلا تعوزني المادة ولا ينقصني المال
هذه الحياة الرتيبة كانت بغيضة إلى نفسي لأنها تبعث في الملل والضيق، وتنفث في الفراغ والدعة؛ فلا أجني اللذة في معترك الحياة ولا أرشف السعادة من تقلبات العيش؛ فركد ذهني وانحطت خواطري ووهى عقلي، ولكني لم أجد عنها مصرفاً إلا في أن أتنقل من مسكن إلى مسكن وأفزع من دار إلى دار لا أحس الهدوء ولا القرار.
وأستقر بي القلق - آخر الأمر - في مسكن من الطبق الثالث من عمارة ضخمة
وفي ذات صباح، خرجت - كدأبي - إلى عملي في الديوان، فما رعاني إلا أن أرى نفسي - على حين فجأة - قبالة فتاة هيفاء القد ريانة العود مشرقة الجبين ريقة الحسن، تختال في روعة الشباب وتزهو في غضارة العمر، تتألق رونقاً يخطف البصر، وتشع جمالاً يسحر اللب، وتنفح عطراً يلفح الفؤاد؛ فوقفت - برغمي - لحظة. . . وأحست هي بي فلم تعرني اهتماماً - بادئ ذي بدء - ثم رأت نظراتي تغمرها بالنهم والرغبة فاندفعت صوب مسكن جاري تغلق الباب من دوني في هدوء.
وانطلقت أنا إلى عملي في حيرة وذهول أسائل نفسي وقد انطبعت صورتها في ذهني، وما في خاطري سوى فكرة واحدة تزحمه: يا لقلبي! إنها تفور شباباً وفتنة، شباباً يعصف العقل وفتنة تزلزل القلب فمن عسى أن تكون؟ لعلها ربة الدار!
وشغلتني الفتاة الجميلة عن عملي فما أنصرف عنها ولا يبرح طيفها خيالي وأنا أحس اللذة والسعادة كلما تراءت لي من خلال تصوراتي تبسم في رضا ورغبة، وأشعر بالضيق والملل كلما بدا لي أنها تدفعني عنها في غير هوادة ولا لين لأنها أغلقت من دوني الباب.
وترادفت الأيام وأنا أحتال للأمر فأنفتح أمامي الباب وتبسطت أسارير وجه الفتاة وخف جماحها، ثم سكتت نفس إلى نفس فاطمأن قلب إلى قلب وأرتبط سبب بسبب. واستبشرت روحي فبدت علي سمات الزينة والأناقة خيفة أن تقع عين الفتاة مني على ما يبعث فيها النفور والاشمئزاز. . . ورحت أتزين كل صباح فأسرفت في الزينة وأتأنق فأفرط في الأناقة، لا أعبأ بنظرات الريبة والشك تنطق بهما عيناً زوجتي الريفية المسكينة، وهي تنضم على أسى عاصف يوشك أن يقد قلبها. . . قلب الأنثى الضعيفة المستكينة. . . ولكنها لا تستطيع أن تكشف لي عن خبيئة نفسها خوفاً مني وفرقاً.
مسكين أنت يا من تطوي عمر الشباب في زاوية من الدار تعكف على خيالات من الفضيلة والشرف، تتعبد لها في خضوع وذلة، ثم لا تغتمر في لجة الدنيا بقلب الرجل ولا تكافح أعاصير الحياة بقوة العزم! مسكين أنت لأنك تعيش عمرك طفلاً في دنيا المردة وضاوياً، في جيل من العمالقة! مسكين لأنك لا تدري أيان تزل قدمك وأنت على حافة الهاوية لا تستطيع أن تتماسك من وهن.
مسكين أنت أيها الريفي الساذج حين تجمح بك نزوات اطيش وقد اكتملت رجولتك واستوى عودك وتجاوزت سن الحمق، فتسول لك نفسك أمراً فتطاوع أهواء قلبك فتطير في إثر فتاة المدينة. . . فتاة الشارع، فتصرفك عن الدار والزوجة والولد، وتسلبك هدوء النفس وراحة الضمير!
وجذبتني ابتسامة الفتاة فانطلقت على آثارها أسلس وأنقاد، فسيطرت على قلبي وعقلي معاً، فما استطعت أن ارتدع عن غي، ولا أن أرعوي عن شطط، يوم أن علمت أنها زوجة جاري الذي لا أعرفه.
وتلاقينا على ميعاد في منأى عن الرقيب، نرشف معا رضاب الهوى المحض على حين غفلة من زوجي ومن زوجها، لا أحس الضعة ولا الخسة، ولا تستشعر هي سفالة الخيانة والسقوط. . . تلاقينا معاً في كنف الشيطان وقد مات فينا الضمير والشرف والكرامة جميعاً.
وغبرنا زماناً أخاتل زوجتي وتخدع هي زوجها. ولمست فيها الرقة والظرف فوجدت إلى جانبها السعادة التي افتقدت منذ زمان. وخيل ألي أن في حديثها رنات لحن موسيقى تهتز له أوتار قلبي في شدة وعنف، وأن في عينيها شعاعاً آسرا يجذبني إليها بأمراس، وأن في دلالها معاني من أسوار السجن تلفني في ثناياها فتحجبني عما عداها؛ فاستسلمت في رضا ولذة. على حين قد استحالت داري إلى مكان بغيض، واستحالت زوجتي إلى فتاة كريهة، وباء ابني مني بالإهمال والهوان.
وتواعدنا - ذات مرة - أن نتلاقى أصيل يوم معلوم من أيام الربيع، وكنا إذا تواعدنا لا نختلف في الميعاد، وجاء اليوم الموعود فخف قلبي للقيا الحبيبة، وهفا فؤادي نحو الحديث الساحر واشتاقت نفسي إلى اللذة الحرام فقضيت ساعات الضحى خفيف الحركة مشرق الوجه طلق المحيا، يهزني الخيال وتطربني الفكرة. ثم انطلقت عند الظهر إلى داري أهيئ نفسي للسعادة المنتظرة، ورقيت السلم أتوثب رشاقة وطرباً، فما أفزعني إلا صوت صراخ ينبعث مختنقاً من أعماق مسكن جاري. . . مسكن الفتاة التي احب، فدق قلبي دقات الرعب، وبدا على وجهي شحوب الخوف، وران على ذهني اضطراب الأسى، وسرت في مفاصلي رعدة الجزع؛ فوقفت لدى الباب أتسمع.
ترى ماذا عسى أن يكون خلف الباب؟ ووقفت حيناً متردداً انتفض وفي رأيي أن القدر يصنع حادثة ذات بال من وراء الجدار. وسولت لي مخافتي فدفعت الباب فاندفع. . . فإذا أنا أمام الفتاة التي احب، وإذا الخادم الصغيرة تلقى بنفسها بين يدي مستجيرة وهي تصرخ صراخاً يفتت الكبد ويصم الأذن، وإذا بالفتاة الجميلة تندفع صوبي هائجة تهدر، تلطمني بكلتا يديها في غيظ، وتدعني خارج الدار في عنف، وتقذفني بأقذع الشتيمة وأحط السباب.
وفزعت من أمام الفتاة الثائرة، وبين يدي الخادم المسكينة تتشبث بي وتتضرع
وقالت لي الخادم بعد أن أفرخ روعها وهدأ خوفها: (أرأيت يا سيدي السجان وهو يقسو على السجين في غلظة وفظاظة لا تأخذه به رأفة أبداً؟ أما أنا فلقد دأبت سيدتي الجميلة على أن تقضي صدر النهار في الشارع وطرفاً من الليل في اللهو، لا تسكن إلى الدار إلا ريثما تطرى نفسها وتستكمل زينتها، ثم تنطلق إلى هدف أو إلى غير هدف؛ وسيدي رجل عمل لا يستقر في البيت إلا ساعة يطير بعدها إلى عمله؛ أما أنا فقد عشت بينهما زماناً ضحية الجوع والعرى والوحدة. وضاقت نفسي بالحياة في هذا السجن الوضيع وأنا ريفية طويت عمري في الحقل أنعم بالعمل والحركة وأنشق نسمات الحرية، لا أومن بالقيد ولا أطمئن إلى غل؛ فطلبت إلى سيدتي في خضوع أن ترسلني فأسافر إلى أهلي في القرية، فرفضت. وألححت فرفضت. وحين وجدت من العناد والإصرار خشيت أن أفر من الدار فيعجزها أن تجد خادماً غيري، فغلقت الأبواب وانفلتت هي إلى غايتها. وبلغ مني اليأس غاية نفذ عندها الصبر فثرت في وجهها، ورأت في ثورتي معاني التبجح وسوء الأدب فأمسكتني بيد من حديد وراحت تكويني بحديده محماة وإن عينيها لتضطرمان بنار القسوة والفظاظة، وأنا أتلوى وأبكي وأتضرع ولكن إنسانيتها كانت قد غابت فبدت فيها حيوانية جارفة تفترس بالناب والظفر ثم لا تهدأ إلا أن تلغ في الدم).
قالت الخادم كلماتها من خلال عبرات تتدفق أسى ويأساً، ثم كشفت عن ذراع مزقتها كيات النار التي لا تعرف الرحمة، أوحى بها قلب خلا من الرحمة والشفقة والإنسانية جميعاً.
وعجبت أن يكون هذا الجمال الفتان ستاراً يواري خلفه قلباً لا ينبض بالرأفة، وروحاً لا تخفق بالحنان، ونفساً لا تنضم إلا على الوحشية والافتراس.
ولكن، لا عجب - يا صاحبي - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية!
كامل محمود حبيب