مجلة الرسالة/العدد 872/ختام قصة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 872/ختام قصة

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 03 - 1950



خيانة امرأة

- 4 -

للأستاذ كامل محمود حبيب

قال لي صاحبي أديب. . . ومن العجب أن يقول: (وهل هناك رجل يرى زوجته مع رجل غريب على فراشه فلا تظهر آثار رجولته وغضبه إلا في خطاب يخاطب فيه بكلام يشبه الفلسفة؟ أهذا هو الرجل في الشرق أم في الغرب؟) هذا كلام فيه سخرية منى لاذعة وتهكم من الفلسفة مرير، فهو يسم الفلسفة بالعجز والفتور ويصورني رجلا خوار العزيمة جبان القلب؛ ذلك لأن صاحبك لم يستطع أن يستشف ما وراء السطور من ثورة جامحة عنيفة تتبدى حينا في عنف وتتوارى حينا في أسى، ولأنك أنت يا صديقي - حين كتبت القصة - جعلت اللص دبر أذنيك فما تحدثت عن شأني وشأنه بكلمة واحدة، وأنا قد نشرت على يديك جملة الخبر فقلت لك إنني حين أحسست بالطعنة القاسية تتغلغل في قلبي هدرت هدير الجمل الهائج غاظه عبث طفل أحمق، فانطلقت صوب الخائن والخائنة أحتدم احتداماً جارفاً، فلم أدع الرجل يفلت من يدي إلا بعد أن صار حطاماً من إنسان ثم قذفت به إلى الشارع وهو لا يكاد يتماسك مما ناله من تورثي وبطشي. ثم اندفعت في فوره الغضب أفتش عن الخائنة - وقد توارت عن عيني - فما راعني إلا أن أسمع صوتاً رقيقاً ندياً يناديني: بابا. . بابا! فالتفت فإذا أبني الأكبر يشتد نحوي على عادته كلما أقبل من روضة الأطفال. . . يشتد نحوي ليتشبث بي ويتعلق بعنقي ويغمرني بقبلاته الحارة، وفاضت مشاعره الطاهرة الجياشة يتوثب الحب من خلالها ويتأرج الصفاء من أضعافها. آه يا قلبي! لقد شعرت بقبلات الطفل تلفني في جو من الهدوء والسكينة وتكبت الثورة العنيفة في قلبي وتستلبني من حيوانيتي العمياء، وضننت أنا بأعصاب الطفل أن تتحطم حين يراني اهجم على أمه في قسوة وعنف أذيقها وبال أمرها، فأمسكت حتى حين. وانطلق الطفل ينادي اخوته فتدفقت رنات صوته في أغوار قلبي نغماً موسيقياً أخاذاً يدفعني إلى هؤلاء الملائكة الصغار. . . إلى أولادي. . . إلى أحبائي. ورأيت الطفل يدور في الحجرات يبحث عبثا عن أخوته في جنون وشغف. لقد أرسلتهم الخائنة مع الخادم إلى دار أختها ليخلو لها الجو هنا. . هنا في داري، ثم أقبل الطفل وهو يلهث من شدة ألاين ومن أثر الإخفاق. . . أقبل يسائلني عن أخوته فضممته إلى صدري وانتحيت به ناحية ألقي السمع إلى حديث التافه البريء عسى أن أجد فيه سلوة أو عزاء، ولكن. . .

وظللت أياما أدير الرأي في خاطري فما أهتدي وإن بي لنهماً إلى الدم يدفعني إلى أن أحتقر نفسي وأمتهن عقلي لأنني لم أقطع في الأمر برأي منذ أن كان، ولأنني أصغيت إلى صوت قلبي حين رنت في جنباته صيحات طفل بريء. ثم أخذتني ثورة الجهل لأني فتى بدوي الطبع ريفي الشمائل، فعقدت العزم على أمر.

وجلست إلى زوجتي - بعد أيام - وقد ملأني الغيظ بروح الشر وغمرني الكمد بنوازع الانتقام. . . جلست إليها أناقشها في شدة وأجادلها في عنف وفي حديثي سمات الاحتقار وعلامات الازدراء؛ قلت لها (كيف سولت لك نفسك أن تفتحي بابك لرجل غريب يقتحمه في غيبتي؟) قالت (ليس هذا رجلا غريباً عني فهو من ذوي قرابتي جاء يزورني) قلت في تهكم (فجلستما معاً على سريري تتجاذبان حديثاً فيه العفة والطهر) قالت (فأنت الآن تتهكم بي وتتهمني في شرفي) قلت (عفوا! فما كان أجدرني بأن أذر الدار لكما تستمتعان فيها كيف شئتما، وأن أعتذر لكما في رقة وأدب لأنني قطعت صفوة الخلوة) قالت في تنمر (ماذا تعني؟) قلت (أعني أن هذه الدار داري ولا حق لك في أن تفعلي شيئاً إلا أن آذن لك) فضحكت في سخرية ثم قالت (إذن تريد أن تتعبدني. لعلك نسيت أننا هنا شريكان!) قلت (هذا كلام توحي به حماقة المرأة لتوهم نفسها بأنها شيء وما هي بشيء. إن الشركة - يا سيدتي - معناها التعاون فبماذا تساهمين هنا. . . في هذه الدار. . . لتستمتعي بحق الشركة) قالت في غضب (أنت تعرض بي وأنا لا أستطيع أن أصبر على مثل هذا الكلام) قلت (وهل يعبأ مدير الشركة بمن أصابه مس من جنون فحاول أن يستمتع بأرباح الشركة دون أن يساهم فيها بنصيب؟) قالت في تحد (هذه أفكار رجعية تافهة) قلت (ولكنها مبادئي أنا ومبادئ الحياة. إن المرأة التي تمرح فضل في الرجل وترفل في نعمته، ولا تحس الضيق ولا العنت؛ لا بد لها أن تتعبد الرجل في رضا، وتخضع لرأيه في استسلام، وتقر بسلطانه في تواضع. فإن كابرت فهي وضيعة الأصل دنيئة المنبت؛ أولا، فهي حمقاء العقل هوجاء الرأي؛ أولا، فهي ساقطة تافهة. . . ولا معدي لرجل فيه الرجولة عن أن يقيم عوجها - إذ ذاك بالعصا. . . العصا التي يسلس لها الحيوان الشموس وينقاد. . . أو بالكلمة التي تقذف بها إلى الشارع) قالت (هذا كلام رجل ريفي الطبع ريفي العقل ريفي النزعة لم يهذبه التعليم ولا وشذبته المدنية) قلت (أما أنت فقد هذبك التعليم فنزلت عن الكرامة. وشذبتك المدينة فأغضيت عن الشرف، وصقلتك الحضارة فعبثت بالعرض) فقالت في ثورة جامحة (أنت رجل سافل وضيع) فثار غضبي وتأجج غيضي واندفعت إليها وأنا أزجرها بقولي (اخرسي يا. . .) ثم أهويت عليها بصفعة قوية قاسية طار لها صوابها فانقضت علي تخمشني بأظافر حادة كأنها مخالب نمر فركلتها ركلة قوية فانحطت على الأرض وهي تعوي عواء ذئب ناله أذى شديد فما يمسك عن العواء. . .

وسمع أولادي صيحات أمهم فتدافعوا نحوي، وأفزعهم أن يروا المرأة على الأرض تتلوى مما أصابها من شدة الركلة، فانطلقوا إليها يلقون بأنفسهم عليها يتمسحون بها وهم يبكون في مرارة وحسرة وقد كست وجوههم صفرة الرعب ورانت على نظراتهم علامات الحيرة والفزع، وانصرفوا عني جميعا في إهمال وخوف. ووقفت بازائهم حينا أنظر في ذهول ودهشة، ثم تسللت من الدار وأنا أحدث نفسي (يا عجباً إن في الأم معاني سامية لا يدركها إلا قلب الطفل) وخرجت من الدار أهيم على وجهي وإن كلمات أبي ترن في مسمعي حين قال (وإذا تفلسفت الفتاة في الدار جمحت بها نزوات الطيش فأنكرت وظيفتها وجحدت مكانتها، فتستحيل طمأنينة الزوج إلى فزع ما ينتهي ويحور هدوء الدار إلى ثورة ما تنقضي. إن المرأة التي تلد الفلسفة تلد الهم والأسى والضيق في نفس الرجل. . .)

وعدت إلى الدار في هدأة الليل لأجلس إلى زوجتي أحدثها في صراحة (إن الحياة لن تستقر في هذه الدار إلا أن تبرحيها، فأنا لا أستطيع أن أجد هدوء نفسي ولا راحة قلبي إن رأيتك إلى جانبي. وإذا رفضت، فستدفعني حماقتك إلى أن إلى أن أكشف لأهلك عن فضيحتك. وإذ ذاك أقذف في وجهك - مرغما - بالكلمة المحرمة. تعللي بما تشائين من التعلات، واتهميني بما يروق لك من التهم، ولكن حذار أن تتحدثي لأهلك بحقيقة ما كان) قالت في انكسار (والأولاد؟) قلت (خذي أبني الرضيع وذري الباقين أقوم على حاجاتهم وأسهر على تربيتهم)

وانفلتت زوجتي إلى دار أبيها تصحب أبني لرضيع وحده. * وغبرت أياما وأنا أعيش بين أولادي أبا وأما، أهيئ لهم حاجاتهم وأعد لهم رغباتهم، ولا أطمئن إلى قلب الخادم وهو غليظ، ولا أرضى عن يدها وهي قاسية. وأحاول جهدي أن أصرفهم عن التفكير في أمهم بالحديث والحلوى واللعب ما أستطيع، فجرفني سيل عارم من الأسى أكتمه في قلبي وأغمض جفني عن قذاه واقضي الليل ساهرا قلقا أقلب الفكر في جوانبه وأدير الرأي في نواحيه، حتى نال مني التعب وأصابني الإرهاق وبدا لعيني أن صغاري يتجرعون كأسا مريرة من اليتم والضياع حين افتقدوا الحنان والعطف. وأحسست بأن الحياة قد اضطربت وأن نظام الدار قد تشعث وأن مالي قد تبدد في غير رحمة. وأصبحت الدار في ناظري جحيما يتلظى أوارها فيكاد يلتهمني أنا وأحبائي دفعة واحدة، أو سجناً ضيقاً يقضقض عظامي وعظامهم معاً.

ولشد ما حز في نفسي أن أرى أبني الأصغر - وهو في الثانية من عمره - يدور في أنحاء الدار - ساعات طوالا - يفتش عن أمه لا يهدأ ولا يستقر وهو ينادي في لهفة وشغف: ماما. . . ماما! ثم يرتد في ذله وانكسار، وقد آلمه الإخفاق وأضناه البحث. يرتد ليلقي بنفسه بين يدي وهو ينادي بصوت باك حزين: ماما. . . ماما! ورحت أبذل غاية الجهد لأهدهد دوافع نفسه وأستغرق وسع الطاقة لأصرفه عن نوازع قلبه، فأعجزتني الحيلة، فأخذت أنظر إليه في لوعة وأسى وإن العبرات لتكاد تتطفر من محجري

وهكذا توزعتني حاجات الصغار وحاجات الدار وحاجات العمل وحاجات العيش، فتقسمتني الشواغل المتضاربة، فتفرطت عزيمتي وتبددت قوتي ولفتني الحياة في إعصار من الضيق والملل.

ووسوست لي نفسي فانطلقت إلى زوجتي في دار أبيها أطلب إليها أن تعود إلى داري لترعى شان أولادي فاستسلمت في خضوع ورضخت في استكانة.

وها أنا الآن - يا صاحبي - أعيش في صراع دائم لا يهدأ ولا يستقر، أعيش بين عدوتي الخائنة، زوجتي، وبين أحبائي الأعزاء، أولادي، لا أستطيع أن أقذف بعدوتي إلى عرض الشارع فأقتل السعادة والأمان في قلوب أحبائي، ولا أستطيع أن أصبر فأراها إلى جانبي تذكرني - أبدا - بغباوتي وحمقي.

كامل محمود حبيب