مجلة الرسالة/العدد 872/الأدب والفن في أسبوع
مجلة الرسالة/العدد 872/الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
المهرجان الأدبي بالجامعة الشعبية
سموها (مؤسسة الثقافة الشعبية) ولكن ما زال الاسم القديم (الجامعة الشعبية) جارياً على الألسنة، لتقدمه وخفته وثقل الاسم الجديد. . وقد رأيناه على بطاقة الدعوة إلى المهرجان كما نراه في الصحف، ولكن في المهرجان نفسه وعلى الألسنة الخطباء من المشرفين عليها أنفسهم لا يزال اسم الجامعة الشعبية هو السابق الأثير. وكأنهم قد أرضوا طلبة الجامعة (غير الشعبية) بتغيير الاسم (تحريرياً) فقط، حتى لا يشركهم الشعبيون في لفظ الجامعة. . وبذلك انتفى سبب من أسباب (الاعتصام)!
ولكي تثبت الجامعة الشعبية - وأنا على المصرين على ذلك - إنها جامعة حقاً، أراد قسم الدراسات الأدبية لجماعة من الأساتذة يستمع إليها المدعون من أهل العلم والأدب ورجال الصحافة. . ولنا تعقيب في موضوع المهرجان يأتي بعد أن نلقي نظرة على برنامجه.
بعد أن أفتتح المهرجان بالسلام الوطني ونشيد الجامعة الشعبية وقف الدكتور أحمد أمين بك رئيس مجلس إدارة الجامعة، فألقى كلمة قال فيها إن فكرة الجامعة الشعبية ثورة على النظم المدرسية التي كانت تقف عندها وزارة المعارف، فهي تقبل كل راغب في الثقافة غير متقيدة بسن ولا بامتحان دخول، ولا تعلم لتعطي شهادة تسعرها وزارة المالية؛ وهي تيسر الثقافة للعامل في مصنعه وللفلاح في حقله وللبنت في حارتها. . .، وقال إن مهمتها أن تمحو الأمية العقلية، فليس محو الأمية مقصوراً على تعليم القراءة والكتابة، وأن تكون رأياً عاماً ناضجاً يفهم حقائق الأمور ولا ينطلي عليه الخداع والدجل.
وذلك كلام قيم. غير أن الدكتور أحمد أمين بك صور المسألة على أن الجامعة الشعبية هي التي تحقق التثقيف العام المطلوب من حيث تكوين المواطن الصالح والرأي العام الناضج، كان ليس هذا من أغراض المدارس والجامعات التي تعلم الناشئين، وهو يعلم باعتباره مؤسسا للجامعة الشعبية أنها فرصة لمن فاتهم إتمام التعليم في الصغر فهي مكملة لنقص في الثقافة لا محدثه نوعاً جديداً من التثقيف فكل ما فيها - عدا المحاضرات العامة - أقسام تعلم ما يعلم في المدارس العامة والفنية.
وبعد ذلك ألقى الأستاذ السباعي بيومي بك كلمة موضوعها (مشاهد البطولة في الأدب الجاهلي) فتحدث فيها عن حروب العرب وآثارها في أخلاقهم من حيث تكوين البطولة التي تقوم على الشجاعة ورثاء البطل الشهيد وقرى الأضياف. والموضوع من موضوعات تاريخ أدباللغة العربية المعروفة، ولكن الأستاذ أحسن عرضه وتجميع فكرته، كما أجاد اختيار الشواهد التي كانت موضوع الاستحسان ومثار التصفيق.
ثم ألقى الأستاذ مهدي علام بحثاً في (الصداقة في شعر المتنبي) قال فيه إن المتنبي لم يكن له أصدقاء، لأنه كان متعالياً لا يرى أحداً أهلا لصداقته، ولأنه كان متشائماً سيئ الظن في الناس، ولأنه كان ذا أطماع يبغي الوصول إليها فيتخذ الصداقة ذريعة لها ثم يخرج عليها، وعلى ذلك كان البحث جديراً بان يسمى (عدم الصداقة عند المتنبي)
ثم تحدث الدكتور عبد اللطيف حمزة عن (الروح المصري في شعر البهاء زهير) وكان حديثه قيما، ومما قاله أن البهاء كان شعبي النزعة في شعره، وأن هذه الشعبية قوة لم تتح لمعاصريه من الشعراء الذين جروا على التقليد ومحاكاة الأقدمين، أما هو فكان يصور البيئة المصرية ويعبر عن روحها تعبيراً أصيلاً، ومن مظاهر ذلك سهولة شعره واستعمال العبارات الفصيحة الجارية على ألسنة الناس والتي يترفع عنها الأدباء والشعراء ويعدونها ابتذالا، ومن هذا اقتباسه الأمثال العامية، إلى شيوع الدعاية والمرح في شعره.
وألقى بعد ذلك الأستاذ محمد سعيد العريان بحثاً عنوانه (ديمقراطية الأدب) فأتى في الموضوع بمحصول الدراسة الدقيقة وهيأ بعرضه جواً من الإمتاع المعجب. قال إن الأدب عرف أول ما عرف على أنه فن من فنون الجمال أو لون من ألوان الترف العقلي، وظل كذلك مفهومه في أجيال متعاقبة، في العربية وغير العربية من لغات الناس، لا يكاد يتجاوز هذه الدائرة إلا خطوة بعد خطوة في السنين ذوات العدد، حتى التقى في هذا العصر بالحياة الإنسانية في صميمها أو شك أن يلتقي، فإذا هو في حياة الناس عامل ذو أثر، وإذا هو توجيه لهذه الحياة، وتوجيه لهذا الناس، وإذا هو ضرورة بعد ترف، ودعوة إلى الكمال بعد دعوة إلى الجمال، وكذلك عرف الإنسان الديمقراطية أول ما عرفها على أنها مذهب من مذاهب الحكم وصلة من الصلات بين الحكام والمحكومين ثم تطور هذا الفهم على مر القرون، فإذا الديمقراطية رأي وفن من فنون الجدل العقلي، ثم إذا هي تجربة عملية يراق على جوانبها الدم، ثم إذا هي وعي وإحساس وفكرة إنسانية، ثم إذا هي حكومة وبرلمان وتعاون الحاكم والمحكوم على الرقي بمستوى الحياة الإنسانية. وكذلك صارت الديمقراطية وجداناً إنسانياً عاماً يرتفع بالمستوى العقلي العام للجماعات فوق اعتبارات الغنى والفقر وفوق اعتبارات العرق والدم واختلاف المنشأ والبيئة. وفي هذا العصر التقى الأدب بمعناه العميق الواسع، بالديمقراطية بمدلولها الوجداني الرفيع وصارت ديمقراطية الأدب - ونحن منها على الطريق - أنه فن من فنون المعرفة للسمو بمستوى العقل الإنساني ولون من ألوان الأخوة الإنسانية، ونسف الأبراج العاجية فلا تحجب حقيقة من حقائق الحياة عن ذي عينين.
وانتقل الأستاذ سعيد بعد ذلك إلى مناقشة من يقول بان ديمقراطية الأدب هي أن تكتب للناس بلغة الناس، ومن يقول بأنها انتزاع الموضوعات من صميم الحياة التي تحياها الطبقات الشعبية العامة أو البيئات الدنيا فقال: جميل أن تكون لغة الأديب وأسلوبه وفنه في الأداءبحيث يحس مذاقها الملايين ذات العدد من الناس، ولكن أجمل من ذلك أن يكون الأدب توجيها إلى ما هو أرفع وأرقى وأكمل، فليست المساواة هي الغاية الأولى للديمقراطية ولكن السمو هو الغاية. وقال: ليست الديمقراطية في الأدب هي أن يكون الموضوع ديمقراطيا، فقد يؤخذ الموضوع من طبقة عالية ويعالج على نمط يحقق أهداف الديمقراطية القومية والدعوة إلى الحرية والمساواة والأخوة الإنسانية.
وتحدث الدكتور إبراهيم ناجي عن (القصة في العصر الحديث) فاستعرض تطور فن القصة من الكلاسيكية إلى الرومانتيكية إلى الواقعية. ولوحظ أنه قصر كلامه على القصة في العالم الغربي ولم يعرج على القصة المصرية بقليل أو كثير.
وألقى الأستاذ علي الجمبلاطي قصيدة جيدة وصف فيها حال الطالب بالجامعة الشعبية من حيث تيسيرها له ما يطمح إليه من تعليم وتثقيف، ومنها قوله يخاطب الجامعة:
أنت أعليت فيه أشواقه العل ... يا فأعلى ما فيه من رغبات
ومشى للجمال يدفعه الشو ... ق إليه وصادق العزمات
كان لولاك يقطع العيش سأما ... نا ملول الساعات واللحظات
لا يرى في الحياة غير فراغ ... مد فوق الحياة ظل السبات وحبذا لو قصر الأستاذ الجمبلاطي كان قصيدته على الموضوع دون أن يمدح وزير المعارف ورئيس مجلس إدارة الجامعة الشعبية ومديرها العام بنحو نصف القصيدة مدحا غير وثيق الصلة بموضوعها.
وبعد فما موضوع هذا المهرجان؟ ولم أقيم؟ وما مدى صلته بالجامعة الشعبية؟
يجب أولا أن نرحب بأي حفل للأدب في أي مكان، ويجب ثانيا - من باب نسبة الفضل إلى أهله - جهد الأستاذ علي الجمبلاطي مفتش الدراسات الأدبية بالجامعة الشعبية، الذي بذله في إقامة المهرجان وتنظيمه، وقد أشاد به الدكتور أحمد أمين بك في كلمته، وهو جهد بارز يدل على ما وراءه من محاولة إحياء الدراسات الأدبية في الجامعة الشعبية، وقد شاهدنا انصراف الطلبة عنها - وعن سائر الدراسات النظرية في السنوات الماضية حتى لقد أصبح كل جهدها يكاد يكون قاصراً على الصناعات والفنون التطبيقية، وأترك هذه الظاهرة مكتفيا بالتنبيه عليها، لعلهم ينظرون فيها، لمعرفة أسبابها ومعالجتها، وأعود إلى المهرجان.
سمعنا المحاضرات التي ألقيت، وهي ذات موضوعات مختلفة، من أساتذة أجلاء تدعوهم الجامعة إلى إلقاء محاضرات عامة في دار الجامعة، وهذه كل صلتهم بها. وهي موضوعات غير ميسرة أي لم يراع فيها مستوى طلبة الجامعة الشعبية، ولم يراعى هذا؟ وأين هم هؤلاء الطلبة؟ إن الحاضرين هم مجموع المدعوين إلى حفلة الشاي من رجال الأدب والصحافة وغيرهم من المثقفين وكبار الموظفين.
لقد فهمت قبل أن أشهد الحفل انه يمثل الجامعة الشعبية بمعنى أنها أرادت أن تبرز به جهودها الأدبية فيمن يقصدونها من الطلاب، فنرى بعضهم، ولو إلى جانب الأساتذة، يبدي بعض ثمرات الغرس ولكننا لم شيئا من ذلك، فلم نشهد الطلبة حتى في مكان الاستماع. . .
وقد رأينا أن المحاضرات كانت مختلفة الموضوعات، ولكن يلاحظ أن محاضرتي الأستاذ العريان والدكتور حمزة وقصيدة الأستاذ الجمبلاطي تجمعها سمة واحدة ذات ارتباط بفكرة الجامعة الشعبية، وكان موقع الفكرة الشعبية في كل من المحاضرتين والقصيدة. جميلا مناسبا. وهذا يدل على أنه كان يمكن وكان يحسن أن يكون للمهرجان فكرة أدبية معينة تتجه إليها أفكار المحدثين.
عباس خضر