مجلة الرسالة/العدد 870/شيطانية إمرأة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 870/شيطانية إمرأة

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 03 - 1950



للأستاذ كامل محمود حبيب

طوت (عليه) أيام الطفولة، أيام كانت تلهو وتلعب في منأى عن قيد التقاليد، أيام كانت تمزح بعيدة عن غل الدار. . .

طوت هذه الأيام فأخذت تشعر بدم الشباب يفور جياشاً في عروقها فيضطرب أمنية في قلبها، ويلمع جمالاً في خديها، ويتألق حياة في خاطرها، فامتدت يدها الغضة ترتب شعرها الفاحم السبط على نسق جميل جذاب، وامتد ذوقها النشوي إلى الأصباغ والعطر تتأنق في الاختيار وتفتتن في التطرية، وامتد خيالها إلى الثياب يخصها بعناية منه وفن، وأبوها رجل فيه الثراء والبذل. فبدت الفتاة في روعة الجمال وجمال الذوق وسمو الفن وخفة الظل، فتنابهتا الأبصار والقلوب وهي في شغل لا يعنيها إلا أن تكشف عن زينتها وروائها لتسمع كلمة إطراء تنفث فيها النشوة أو عبارة تبعث فيها الغرور.

وجلست (علية) حيناً إلى المرآة تحدثها وتستشيرها، ولكن قلب الفتاة الطموح كان يرنو إلى ما وراء المرآة، فما لبثت أن ضاقت بحديث المرآة فامتد بصرها إلى النافذة تريد أن تفزع من وحدة الحجرة إلى أنس الشارع، فما راعها إلى أن ترى في النافذة المقابلة شاباً يجلس إلى المرآة يحدثها حديثاً ضاقت هي به. . . يحدثها حديثاً طويلاً لا يحس فيه الملل ولا الضيق، فتعلق به بصرها. . . والتفت الشاب فرأى الفتاة تحدق فيه فبدت له روعة الجمال وروعة الزينة، فتعلق بها بصره.

وأحست الفتاة في نظرات الشاب معاني تشبع نهم غرورها وتطفئ غلة أنوثتها، فاطمأنت إلى ابتسامته وسكنت إلى تحيته، وراحت تبادله ابتسامة بابتسامة، وتحية بتحية؛ وبينهما من الشارع ومن التقاليد حجاب لا يستطيع واحد من أن يظهره.

لقد كان (بهاء) شاباً في زهرة العمر وجمال الحياة، يتأنق دائماً في زينته وفي لباسه، وكان لا يحس وطأة الحياة ولا يضيق بتكاليف العيش رغم أنه موظف صغير لا يبلغ راتبه إلا بضعة جنيهات؛ فهو أعزب، يسكن حجرة ضيقة رخيصة لا تنضم إلا على فتات من الأثاث، وهو يقنع بالوضيع من الطعام والتافه من الشراب ليوفر لنفسه زينته وألقها، وهو يعيش على نهج الصعاليك من العزاب لا يعنيه إلا أن يبدو أمام الناس في الغالي من اللباس ولا يشغله إلا ان يستمتع بالرخيص من المتعة.

ولطالما جلس إلى المرآة يهيئ نفسه للشارع مثلما تفعل الفتاة لا هم لها إلا أن تفرط في الزينة أو تبالغ في التطرية. فلما رأى (علية) ترمقه من خلال النافذة تعلق بها بصره وتشبث بها قلبه.

وانطوت الأيام والفتاة تغدو وتروح إلى النافذة ترنو إلى فتاها من ثنايا الشباك، والفتى لا يبرح مكانه إزاء الشباك كأنه جدار أسند إلى جدار. وضاقت الفتاة بهذا الستار الكثيف المنسدل بينها وبين فتاها حين أحست بهوى الشاب ينسلب إلى قلبها برفق ولين؛ وطمعت أن تجلس إليه ساعة من زمان علها تسمع منه أنشودة من أناشيد الغزل الذي يصبو إليه قلب كل أنثى، أنشودة يوقعها شاب على أوتار قلب فتاة؛ أو تطرب إلى لحن من ألحان الغرام يترنم به في رقة فتنتشي له عواطفها وتهتز مشاعرها. . ضاقت الفتاة بهذا الستر فدست إليه من يدفعه إلى أن يتعرف إلى أخيها الأكبر فيجد السبيل إلى الدار. . . إلى (علية)، وتستطيع هي أن تراه وأن تجلس إليه على حين غفلة من أهلها.

ومرت الأيام فإذا (بهاء) صديق أخيها الأكبر، بزوره أصيل كل يوم ويرافقه في نزهاته ويعينه على حاجاته، وسعدت الفتاة بما كان وسعد الفتى.

وطارت الشائعات تقول إن (عطية) قد خطب (علية) إلى أبيها.

وعطية فتى من ذوي قرابتها خشن المجس قوي الأركان وثيق التراكيب، وهو عامل في مصنع، يقضي نهاره في الجهد العنيف لقاء دريهمات لا تسد خلة ولا تدفع غائلة. ولكن والد الفتاة رضي به زوجاً لأبنته. وما كان الأب أن يرد فتى من ذوي قرابته يبذل غاية الطاقة ويستفرغ منتهى الجهد ليكسب قوت يومه، فهو نفسه نشأ - في صباه - نجاراً صغيراً يعاني شظف العيش وشدة الفاقة، فما زال يرغم نفسه على الدأب ويحملها على الجد حتى أصبح الآن - صاحب (ورشة) كبيرة تدر عليه الآلاف والآلاف.

وجاءت الأم تزف البشرى إلى أبنتها (علية) وفي رأيها أن الفتاة ستهتز للخبر فرحاً وتطير له حبوراً، ولكن ما راعها إلا أن ترى في أبنتها الإباء والرفض، وغلا أن تلمس فيها روح الكراهية والبغض، وإلا أن تشهد وقع الخبر عليها عنيفاً وقاسياً. وكيف ترضى الفتاة المدللة بهذا العامل الفقير وهي تراه يدلف إلى الدار بثياب مهلهلة قد لوثها آثار العمل وعاثت فيها يد الأقذار، فإن حاول أن يتأنق في لباسه بدا مضطرباً يختلج في ثياب فضفاضة لا تتسم بسمة من الذوق ولا سمة من الفن؟ كيف ترضى به ومن أمامها (بهاء) وهو فتى رقيق جذاب يتألق في شعره المرجل الناعم وفي عطره الفواح وفي رباط رقبته الزاهي وفي بذلته النظيفة المنسقة وفي حذائه اللامع وفي حديثه الرقيق وفي. . .

وحاولت الأم جهدها أن تحمل الفتاة على أن تنزل عند رغبة أبيها أو تلقى السلم لرغبة ذويها، فما أفلحت. . .

وجلست الفتاة - ذات يوم - إلى فتاها، تقص عليه قصة عطية وتستثير همته ورجولته وتنفث فيه سموم الأنثى عبرات تتدفق حرى وباردة على خديها لتدفعه إلى غاية. وأسهل الفتى وانقاد إلى أبيها يخطبها فما تأبى الأب ولا تعوقت الأم.

وخرج (عطية) من الدار يجر أذيال الخيبة، وفي قلبه حسرة ما تنطفئ.

وتعقبت الأيام تشيد داراً صغيرة يسعد فيها زوجان وثلاثة أطفال.

وشعر الزوج (بهاء) بأن حاله قد استحالت إلى أخرى فهو لا يطمئن إلا إلى جانب زوجته، ولا يهدأ إلا إلى جوار أطفاله ولا يسكن إلا في كنف الدار، غير أن أمراً واحداً كان يحز في نفسه فيعكر عليه صفاء الدار ويسلبه رونق السعادة بالزوجة والولد؛ أمراً كان ينزع عنه - دائماً - القرار والهدوء: فهو كان يشعر بضيق ذات يده يمسكه عن أن يسد حاجات الدار وعن أن يشبع رغبات المدرسة. لطالما أصابه العنت والضيق مما يحس من فاق وعسر، ولكن زوجته كانت تسري عنه بعض أتراحه بكلمات جوفاء لا يلمس فيها روح التضحية ولا معنى الوفاء. وأخذ الغلاء يطحنه بين فكين من جفاء وقسوة، فجذب ابنته الكبرى من المدرسة لتعمل ممرضة في مستشفى فما أفاد شيئاً، وشعر كأن عيوناً كثيرة ترمقه شزراً وكأن قلوباً حبيبة إلى نفسه تخفق بالازدراء والاحتقار، فضاقت عليه الدار بما رحبت وتبخرت السعادة من أركانها، وتألق الهم في فودية شعرات بيضاء لامعة وارتسم الأسى على جبينه خطوطاً غائرة.

وعز عليه أن يبدو أمام أحبائه يسربل بالضعة والعجز، فامتدت يده إلى أموال الدولة تختلسها ليسد خلة أو يوفي ديناً.

وتيقظت عبن الحارس على يد تمتد في صمت فكبلها بالحديد، وساقها إلى ساحة القضاء؛ وجاء القاضي يمجد الأمانة ويغضي عن الشفقة، ويطري العفة ويتناسى الرحمة.

آه، لك الله أيها الأب المسكين! لو استطعت - في عجزك - أن ترد سغب أبنائك بقطعة يجتزها ما لحمك لقدمتها لهم في رضى وهدوء! ولو استطعت - في فاقتك - أن تطفئ غلة صغارك بسيل من دمك لتدفعه إليهم في غير وناء ولا بطء!

ولكن القاضي تكلم بلسان القانون الذي كتبه رجل، فسجن الأب ليذر من خلفه زوجة وثلاث أبناء لا يجدون العون إلا في دريهمات قليلة هي راتب الابنة الكبرى. دريهمات لا تغني من جوع ولا تسمن من عري.

ورأت (علية) الهاوية من أمامها توشك أن تبتلعها هي وأبنائها حين تداعى مستقبل زوجها وانهارت كرامته وتحطم شرفه، فجلست إلى نفسها وإلى شيطانها ساعات تتلمس الرأي وتحتال الخلاص، فما برحت مكانها حتى انفرجت الغمة عن فكرة.

وعند الصباح انفلتت المرأة من الدار في زينتها إلى (عطية)، الخطيب الذي خرج من دارها - يوماً ما - يجر أذيال الخيبة وفي قلبه حسرة ما تنطفئ. . . لقد تمنعت عليه يوم إن كان عاملاً فقيراً تقتحمه العين وتزدريه النفس. أما الآن فقد أسبغ الجد عليه من فيضه وحبته الحرب من فضلها فأصبح يرفل بالنعمى والنعيم ويسعد بالجدة والثراء.

ورأى الرجل (علية) فهم يستقبلها وعلى شفتيه ابتسامة وفي قلبه نبضة. وجلس الرجل إلى المرأة والشيطان، فما همت من مكانها حتى كان قد استيقظ في قلب الرجل هوى قديم كان قد غمره اليأس فطوا في زاوية النسيان.

وفي مساء اليوم التالي وقف (عطية) أمام المرآة ينفض عنه غبار العمل ويفزع إلى الزينة والعطر، وقد بدت عليه سيما النشاط والسباب , وفاضت على وجهه علامات الفرح والسرور، ثم انسل خفية إلى دار التي أحب. . . إلى دار علية.

وغير الرجل زماناً يختلف إلى دار (علية) يحبوها بالجزل من العطاء الغالي من الثياب والفاخر من الطعام، لا يدخر وسعاً في أن يتلمس رضاها ويتوخى فرحتها، على حين قد فرغت داره منه ومن عطفه في وقت معاً.

وأحست المرأة بالرجل يندفع نحوها في حماقة وطيش، فأرادت أن تمكر به رويداً رويداً، فجلست إليه في ساعة من ساعات النشوة والمرح تحدثه قائلة (لست أدري كيف أشكر لك فضلك، يا حبيبي، وأنت قد غمرتني بنعمة منك سابقة، فما استشعرت فقد الزوج ولا غيبة العائل) فقال الرجل لا (عليك، فإن منتهى أربي أن أفوز برضا قلبك أو أن أظفر ببعض عطفك) قالت (وأنا قد علقتك ولا أخشى إلا أن تمتد يد الأيام القاسية فتضرب بيننا بحجاب لا أستطيع أن انفذ منه ولا تستطيع أنت) قال (أما أنا فإني أحس بعاطفة جارفة تجذبني إليك فلا أستطيع عنك صبرا) قالت (ولكنني أخشى الأيام وأحس بها توشك أن تفرق بيننا) قال (وكيف) قالت (أو نسيت أن زوجي على وشك أن يخرج من السجن) قال (واكنني لا أستطيع عنك صبرا) قالت (إذا فلا مر من أن نتلمس الوسيلة إلى لقائنا دون أن يتطرق الشك إلى قلب زوجي) قال في غفلة (وكيف السبيل؟) قالت في مكر (لا سبيل إلا أن تتقدم - الآن - فتخطب ابنتي الكبرى) فأطرق الرجل يقلب الرأي ولكن المرأة عاجلته في دلال (وإذ ذاك تستطيع أن تدخل الدار متى شئت وأن تجلس إلي في غير ريبة ولاشك) وأطرق الرجل مرة أخرى وان عقله ليدفعه عن الفكرة وأن قلبه ليجذبه إلى المرأة التي أحب، غير أن المرأة استمرت في حديثها (ولا ضير عليك إن فرغت إلى دارك وأولادك، وستجد في هذه الخطة ستاراً يداريك هنا ولا يفزعك عن دارك) ثم مالت غليه في خفقة وشوق وهي تقول (فما رأيك؟) وأحس الرجل بعطر المرأة يخطف عقله ويسلب قلبه فقال (لا بأس، فإنا أوافق) وسميت الفتاة على رجل في سن أبيها.

وترامى إلى الفتاة حديث أمها العاشقة فثارت ولكن الأم هرت فيها هريراً منكراً فإندفعت إلى حجرتها تبكي حظها العاثر.

وحرج الزوج من السجن فما وجد مناصاً من أن يلقي السلم إلى زوجته فبارك الفكرة وفي رأيه أنه سيجد في زوج ابنته عوناً على لأولاء الحياة وغلظة العيش.

ومكرت المرأة بالرجل مرة أخرى فإذا هي تسنزف ماله في غير رحمة ولا شفقة لتدخره لنفسها، وإذا هي تختله عن زوجته وأولاده رويداً رويداً لتستأثر به من دونهم، وصرفته عن عمله، وأرغمته على أن يقتر على زوجته وأولاده.

ثم جاء الزوج يستحث الرجل على أن يخطو خطوات فساح في سبيل إتمام مراسيم الزواج فما أبى ولا تمهل وجاءت المرأة تمكر به - مرة أخرى - فطلق زوجته وطرد أولاده، فما كان له - كرأي الزوجة - أن يتزوج من ابنتها الفتاة الآسرة الجميلة وهو زوج ورب أسرة، فيضربها بالضرة ويقتلها بالغيرة.

يا عجباً! لقد أرتدغ الرجل في حمأة الجريمة حين أسلس وانقاد إلى امرأة من بنات حواء. لقد كان يصحو من غفلته - بين الحين والحين - فيعقد العزم على أن يحطم قيداً كبلته به هذه المرأة فيعود إلى عمله، إلى داره، إلى زوجته، إلى أولاده، ولكنه كان يعجزه أن ينسى ما ذاق إلى جانبها من لذة الحياة ومتعة النفس، فيهي عزمه ويضعف جلده.

وأرهقت المرأة زوج ابنتها المزعوم بتكاليف الزواج فما استطاع أن يشبع نهم المرأة التي سلبته كل ماله. . . سلبته كل ماله في نزوة من نزوات الحب الآثم. وجلس إليها - في خلوة - ينفض أمامها جملة حاله وينثر على عينيها عجزه وضيق ذات يده ويطلب إليها - في رقة ولين - أن تخفف من طلباتها فثارت به ثورة جارفة، وطردته من دارها وهي تقول (ما أحمقك أيها الغبي! أفكان لي أن أزوج ابنتي الفتاة الرشيقة الناعمة إلى رجل عجوز مفلس مثلك؟).

طردته بعد أن استنزفت كل ماله، وبعد أن ختلته عن زوحته وأولاده. . . طردته بعد أن هدمت داراً فيها النعيم، وبعد أن حطمت أسرة فيها السعادة، بعد أن شردت صغاراً فيهم الطهر. فيا لشيطانية المرأة. . . يا لشيطانية المرأة. . .

كامل محمود حبيب