انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 870/الأدب والفن في أسبوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 870/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 870
الأدب والفن في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 06 - 03 - 1950



للأستاذ عباس خضر

تأبين الأستاذ علي محمود طه بالمنصورة

كان يوم الخميس الماضي يوم وفاء المنصورة لأبنها الذي أنجبته وأهدته إلى عالم الشعر والخلود، شاعر مصر الراحل المغفور له علي محمود طه. فقد نظمت جماعة الأدباء هناك حفلاً لتأبينه لم يكن مقصوراً على المنصوريين، بل قصد إليه من القاهرة جمع من الأدباء والكبراء كما خفت إليه أسرة تحرير (الرسالة) في صحبة أستاذنا الكبير الزيات.

وحججتا إلى البلد الجميل الذي أنبت صديقنا الفقيد لنلقى روحه الهائم على منبته ومثواه. وقد رأيت المنصورة لأول مرة فأحسست كأني آلفها من قبل كما أحسست عند أول لقاء للصديق الراحل. وفد عدنا منها وما زال خيالها ماثلاً في نفسي، كما أن روح عزيزنا الشاعر سيظل خالداً في عالمنا خلود شعره وذكراه.

نظمت جماعة أدباء المنصورة حفل التأبين، وأشرف عليه الأستاذ علي بك الهاكع رئيس الجماعة ومراقب التعليم بالمنصورة، وكانت مشاركة وزارة المعارف متمثلة في رئيس الحفل وكلمة وزير المعارف وحضور الأستاذ أحمد خيري بك وكيل الوزارة وفي المكان نفسه وهو المدرسة الابتدائية، وهي التي تلقى فيها الشاعر الفقيد دراسته الابتدائية.

بدئ الحفل - بعد الافتتاح بآي الذكر الحكيم - برسالة بعث بها الأستاذ علي أيوب بك وزير المعارف الأسبق، أبدى فيها الأسف لعوائق حالت بينه وبين الحضور، وقال فيها: كان فقيدنا شاعراً بفطرته وطبعه، أديباً بإحساسه المرهف وعواطفه الجياشة وذوقه المصفى، إلا دراسته للهندسة قد تركت أثرها في أدبه وشعره، ومن هنا كان شغفه بالموسيقى ونزوله على ما يقتضيه حسن الأداء وجمال التوقيع، والموسيقي تمت إلى العلوم بأقوى سبب، بل إن هذه العلوم هي أساسها الأول ودعامتها الكبرى. وكانت له ميوله السياسية واتصالاته الحزبية، ولكنه أبى إلا أن يكون قومياً في شعره السياسي مثالياً فيما ينظم أو يقول.

وأشار الأستاذ الهاكع - في كلمته - إلى اعتزاز المنصورة بشاعرها الأصيل، قائلاً أن روحه الفنية لم تقبع في موطنه وإنما فاض بسحره على البلاد العربية وامتد إلى الغرب، فعلي طه إنسان عالمي، وسيظل شراعه الرمزي جائباً الآفاق إلى ما شاء الله.

وألقى الأستاذ عدلي الصيرفي كلمة سعادة عبد السلام فهمي جمعة باشا رئيس مجلس النواب، وقد عبر فيها عن شعوره نحو صديقه الشاعر وألمه لفقده.

وقام الأستاذ محمد سعيد العريان فألقى كلمة معالي الدكتور طه حسين بك وزير المعارف، قال فيها: آسف كل الأسف لأن الظروف لم تتح لي أن أشهد اجتماعكم وأن أعرب عن حبي وإعجابي بالشاعر العظيم، وعن حزني وحزن الذين يتذوقون الأدب ويكلفون بالشعر الرفيع على فقده. وهي كلمة قصيرة تشبه الاعتذار بالبرقيات السخية. وقد كنا نود أن نسمع كلمة فياضة في علي طه من طه حسين عميد الأدباء ولكنا لم نظفر إلا بهذا الاعتذار العاجل والتقدير المجمل من معالي الوزير. . ونحن نكبر عميدنا أن نخليه من العتاب في هذا الموقف لعدم أداء ما كان يقتضيه. .

وتحدث أحمد حسن الزيات فتمثل في حديثه وفاء الصديق وجمال البيان مع وضوح الصورة التي رسمها الشاعر في عبارات موجزة موفية. وترى كلمة الأستاذ قي صدر هذا العدد من (الرسالة).

وكان ختام النثر كلمة حبيب الزحلاوي، قال: إن فقيدنا كان له إلى أحبابه المعجبين بشعره أحباب الخصوم، وإنه - الزحلاوي - كان من الفئة الثانية عذ خاصمه خصومة أدبية خلت من الشوائب. وليسمح لي الأستاذ الزحلاوي. وقد أشاد بالخصومة الأدبية وأثرها الطيب في الصداقة، أن (أخاصمه) في بعض ما جاء بكلمته من قوله الشاعر (أحببته في خلائقه وسجاياه في مرحه وبوهيميته. .) فالكلمة الأخيرة ذات ظلال غير لائقة بالمقام.

وقد جنح الأستاذ إلى القضايا بالعقلية أكثر مما عني بأن يندي كلامه بماء العاطفة. فجاءت كلمته غير خطابية. .

أما الشعر فقد ألقى منه ثماني قصائد للأستاذ محمد عبد الغني حسن وعلى الفلال ومحمد مصطفى حمام والسعيد يوسف والدكتور عزيز فهمي المحامي ومحمد فهمي عبد الغني سلامة والدكتور سعيد أبو بكر. وقد دل الشعراء في مجموعهم - لا جميعهم - على أن مكان الشاعر المحتفل بتأبينه لا يزال شاغراً. . فقد كان أكثر ما أنشدوا من الشعر الوسط وما دونه. .

أما قصيدة الأستاذ عبد الغني حسن فهي جيدة، منها قوله:

يا أيها الملاح ما لك لم تعد ... الشاطئ المهجور بعدك مظلم

وقف الندامى فيه لم تهتف بهم ... شفة ولم يضحك بسامرهم فم

يترقبون هناك عودة شاعر ... قد لفه البحر الخضم الأعظم

وضعوا الأكف على العيون ليرقبوا ... وتنظروك على الرمال وخيموا

لكنما طال المدى بوقوفهم ... فاستوحشوا من بأسهم واستسلموا

قل للرفاق الحالين تيقظوا ... ودعوا الأماني الكواذب عنكموا

حلم من الأحلام عودة ذاهب ... لاتحلموا بمجيئه لا تحلموا

وكذلك كانت قصيدة الفلال، ومنها قوله:

على حسبك والذكرى مبرحة ... أني عجزت وعجزي فيك إكبار

يا فارس الشعر والجندول آتية ... وجرسها في مغاني الشرق سيار

ومالئ النيل آيات مخلدة ... كيف احتوتك ببطن الترب أشبار

ومنها:

يا ملهم الطير حلو السجع كيف ترى ... من بعد فقدك تحبي السجع أطيار

شبا يراعك كم في الطرس أطربها ... كأنه من فم القمري منقار

وإن كان لا يعجبني التشبه في البيت الخير، فالشاعر حقاً يكتب بشبا يراعه ولكن القمري.؟

على هامش الرحلة

ركبنا بعد انتهاء حفلة التأبين ودفعنا إلى قصر الأستاذ عميد الرسالة بضيعته القريبة من مدينة المنصورة. وان علينا في أول المر وجوم من ذكرى الفقيد الذي رحلنا للمشاركة في تأبينه ولكن كان معنا الأستاذ محمد مصطفى حمام. . . وكيف يكون معنا حمام ولا يتبدل هذا الحال؟ هذا الأستاذ الزيات الذي كان يغالب دموعه وهو يلقي كلمته في الحفل لم يلبث أمام غزوة حمام الفكاهية ان استسلم ونشط للإيناس، وزادت بشاشته إذ حللنا.

جعل حمام يحدثنا حديثاً عجباً من كل لون! ولكنه أفاض في الرواية عن جماعة من الظرفاء تميزوا بطابع خاص أو كان لكل منهم طابعه الخاص، ولكنهم يجتمعون في صفة مشتركة هي غزو مجالس الكبراء وكسب مودة هؤلاء وعطفهم ورفدهم بما يأتون من الملح وما يحسنون من الدعاية وأساليب التهريج، من هؤلاء من مات كالشيخ عبد الحميد النحاس ومنهم لا يزال على قيد الحياة ولا شك أن حياة هؤلاء جديرة بالكتابة عنها فهم يمثلون لوناً يشبه ما ذخرت به كتب الأدب من أمثال (الأغاني و (العقد الفريد) وغيرهما، وللكتابة عن هؤلاء المعاصرين قيمة خاصة من حيث ملابساتهم العصرية واتصالاتهم برجالات العصر الحديث، وما يقترن بذلك من مفارقات وطرائف في الأدب والسياسة والاجتماع. وقد أشرنا على حمام أن يكتب هذه الذكريات ويجمعها في كتاب أو كتب، ولكنه يقول: يخيل غلي أن الحديث عنهم لا يحلو إلا شفوياً. والواقع أن حمام يتقمص الشخصية التي يتحدث عنها ويضيف إليها نفسه. . فإذا حكى أن فلاناً قال فالقائل هو حمام!

وإذا رأى إن ما يقصه لم يحدث في المجلس التأثير المطلوب ارتجل ما يصل به إلى ما يريد من التأثير ناسباً إياه إلى من يتحدث عنه! فهو وضاع فنان لا يشق له غبار. . وكذلك كان الروات والمؤلفون في القديم على ما يخيل إلي. فأكثر ما نقرأه من قصصهم ونوادرهم موضوع، لم يقصد به الكتب وإنما قصد به الفن. ولك أن تعتبره خيالاً على نحو الواقع، يشبه في ذلك فن القصص العصري. ونعود إلى حمام وطرائفه التي أغرقنا في سيلها المتدفق. حكي عن أولئك الظرفاء أنه التقى في بلده بإمام المسجد، فرآه يحمل بعض العنب في قرطاس، فبادره بقوله: ما هذا يا مولانا؟ عنب! ولماذا لم تشتر بطيخة بدل هذا العنب؟ ألا تعلم ما للبطيخة من مزابا لا توجد في العنب أو غيره؟ عنك عندما تقصد إلى الفكهاني لشراء البطيخة، يقف لك في احترام وتقلب أنت البطيخ، فيراك الناس فيقبلون يجاملونك بانتقاء بطيخة جيدة، وبعد الشراء يأمر الفكهاني صبيه ليحملها وراءك وقد يتطوع لذلك أحد الناس وقد يكون وجهاء البلد. وفي هذه الحركة مظاهرة ذات شأن، إذ يعلم الناس إن الشيخ قد اشترى بطيخة! فأين من هذا آقة العنب التي تأخذها وتذهب لا يدري بها أحد. . .

وإنه لمن الوجاهة أن تسير وشيخ البلد يحمل لك البطيخة. وعندما تقترب من باب الدار تنادي: يا ولد! تعال خذ البطيخة. وتلتفت إلى حاملها قائلاً بأعلى صوتك: تفضل! والله تفضل! ولا تخش شيئاً فإنه لن يتفضل. وبذلك يسمع الجيران ويعلمون إن الشيخ كريم يدعو بعزم شديد، كما يعلمون أنه يبر أولاده فيشتري لهم البطيخ. . وتدخل البطيخة الدار فيهرع إليها الأولاد، هذا يركلها، وذا يدحرجها، وذاك يزاحم أخاه عليها، وذلك يصيح: بابا أتى ببطيخة! وأنت من وراء ذلك كله تنظر مغتبطاً، ثم تصيح: هاتوا السكين! ويكون قطع ثم قضم ونحت. ويبقى القشر واللب فالأول تقطعونه للدجاج أو تتفضلون به على دجاج الجيران، والثاني تجففونه وتقلونه وتتسلون به أنتم وضيوفكم نحو أسبوع. . . هكذا تقضون أسبوعاً حافلاً بالمرح والمسرة جديراً بأن يسمى (أسبوع البطيخة) فيا سيدنا الشيخ أين من هذا كله آقة العنب التي يلتهم كل منكم حبات منها فتذهب في الحال لا يبقى لها ذكر ولا أثر؟!

وشملت طرائف حمام نوعاً من الناس نراه ظافراً مقدماً عند الكبراء وغيرهم، ولا مزية لأحدهم ظاهرة ولا كفاية تبرر ما يلقونه من نجاح وتقدير، هذا أحدهم في مجلس رجل من رجالات الدولة يقول له صاحب المجلس وهو يعلم أنه لا يحسن شيئاً مما يطلب منه: أنشدنا قصيدة من شعرك.

لست شاعراً

قل لنا زجلاً

لا أقول الزجل

أقرأ ما تيسر من القرآن الكريم

- لست من أهل القراءة

فيقول الكبير: إذا كنت لا تنظم الشعر ولا الزجل، ولا تقرأ القرآن مع ما أنت عليه من زي علماء الدين، فبأي حق تجلس معنا، يا. . . . وما بعد (يا) هو المزية التي من أجلها يجلس صاحبنا في مثل ذلك المجلس!!

وقد أعدى حمام بقية الأخوان، فصار الجميع يتسابقون في الدعاية والتندر. كنا في حديقة المنزل نمتع الأنظار بمرأى الأشجار والأزهار، ولكن الأستاذ حبيب الزحلاوي - وهو إلى أدبه تاجر حديد - لا يرفع طرفه عن (ماكينة) ملقاة في أحد الأركان، كل منا يسأل عن هذه الشجرة أو تلك الزهرة، أما الأستاذ الزحلاوي فيسأل عن (الماكينة) فيبادره الأستاذ أنور المعداوي: لماذا تسأل عنها؟. . . أتريد أن تشتريها! ويبدي الأستاذ كامل حبيب رغبته في شراء (ماكينة) مثلها فينعم الأستاذ الزحلاوي فيها النظر أنه يريد أن يشتريها ليبيعها للأستاذ كامل! ونمر ب (كوبري) المنصورة، فيتأمله الأستاذ الزحلاوي ويبدي ملاحظات عليه، فيقول له الأستاذ الزيات: أتريد أن تشتريه؟ وهذا (الكوبري) يسير القطار من فوقه فمن يشتره يكن القطار داخلاً فيه وبذلك يبذ من يشتري الترام!

ولا بني الأستاذ الزحلاوي عن النظر إلى ما يصادفنا في الطريق من الآلات الحديدية والتحدث عنها. . فيقترح عليه الأستاذ الزيات أن يبادل الأستاذ نقولا الحداد اسمه الثاني فيصير اسمه (حبيب الحداد) بعد استئذان الأستاذ نقولا الزحلاوي. . .

عباس خضر