مجلة الرسالة/العدد 869/الأدب والفن في أسبوع
مجلة الرسالة/العدد 869/الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
رقاعة فرنسية:
حضر إلى مصر أخيراً وفد من الصحفيين الفرنسيين، وشغلت أنباء تنقلاتهم والحفاوة بهم صحافتنا المصرية في الأسبوعين الماضيين، وتحلت بعض الصحف والمجلات بصورهم على ظهور الجمال بصورهم على ظهور الجمال عند الأهرام وأبي الهول، وتحدثوا إلى الصحفيين كما يتحدث أمثالهم دائماً عن عظمة الأهرام وسر أبي الهول، وقد يتحدثون عن كرم الضيافة، وهم في ذلك لا يقتصدون في الإشادة والثناء، ولكنهم إذا تحدثوا عن الحياة المصرية العامة، ويكون ذلك إذا رجعوا إلى ديارهم، فإنهم يتخذون من الكذب والتلفيق مادة للكتابة عن بلاد الأهرام وأبي الهول. . وما حديث جان كوكتو ببعيد، فقد جاء إلى مصر في العام الماضي مع الفرقة الفرنسية التي مثلت بعض رواياته على مسرح الأوبرا، وأكرم المصريون وفادته ونوهت الصحافة بأدبه الذي تجرد منه لما عاد إلى فرنسا وألف كتاباً في الطعن على مصر والمصريين!
وأصل الكلام بالعودة إلى الصحفيين الفرنسيين وأحاديثهم إلى الصحفيين المصريين، تحدث مندوب (أخبار اليوم) إلى الصحفية الفرنسية العجوز مدام تابوي، فجعلت تسأله: لماذا تعملون على إقامة المتاعب لنا في شمال أفريقيا؟ إنكم تلعبون بالنار إذ تشجعون هذه الشعوب. . وهي تقصد الشعوب الإسلامية وإذا كان تشجيعها لعباً بالنار فما أعظم هذا اللعب! ثم قالت الفرنسية العجوز: كنت قد أعددت مقالاً عن مصر فيه تحية طيبة لها، ولكني قرأت بعد ذلك في صحفكم رد النحاس باشا على برقية بعث بها إليه أحد زعماء الجزائر الوطنين، فما كدت أقرأ هذا الرد حتى غيرت رأيي في المقال الذي أعددته لصحيفتي في باريس، واستبدلت به مقالاً آخر! وهذا ما كسبتموه!
ورد النحاس باشا الذي أغضب مدام تابوي، هو برقية بغث بها رفعته إلى السيد مصالي الحاج رئيس حزب الشعب الجزائري رداً على تهنئته، وقد تضمن الرد أن مصر لن تألو جهداً في سبيل تحقيق الهدفين اللذين تسعى أقطار المغرب العربي إلى تحقيقها، وهما الاستقلال والانضمام إلى جامعة الدول العربية.
ذلك هو ما جعل المرأة الفرنسية تغير رأيها في مصر وتعدل عن الذي كتبته أولا إلى مقال آخر. . فهل كانت كتبت في المقال الأول أن مصر لا تساعد بلاد المغرب على الاستقلال والتخلص من فرنسا ثم عادت باشا أن الأمر ليس كذلك؟! أم ماذا أقول في هذا المنطق الفرنسي الأعوج؟ ثم متى كسبت مصر شيئاً من أمثالها حتى تكسب من جنابها ذلك المقال الفقيد. .؟ كل ما في الأمر أننا قوم كرماء جداً، وأن من ضيوفنا من لا يتورع عن الرقاعة!
ليت هؤلاء الفرنسيين يعلمون أن هذه الشعوب الإسلامية والعربية في المغرب والمشرق تهمنا شؤونها، إذ تجمعنا بهم روابط الدين واللغة والثقافة والتاريخ والحضارة - ليتهم يفقهون ليستيقنوا أن هذه الصداقة لا تصفو ما دامت تشوبها أعمالهم في الاعتداء على حريات إخوان لنا، والعجيب أن يتحدثوا عن الثقافة ورسالتها وهم يمنعون وسائلنا الثقافية من الوصول إلى تلك البلاد الشقية!.
وأذكر بذلك أني كنت مرة عند صديقي الأستاذ مختار الوكيل بدار الجامعة العربية وقدم علينا اثنان من الفرنسيين المشتغلين بالدراسات العربية، وكان ذلك عقب عرض القضية المصرية على الأمم، وجر حديث العلاقات الثقافية بين مصر وفرنسا إلى أن قال لهما الأستاذ مختار: كنا نود أن تؤازرنا فرنسا في قضيتنا! فنظر الفرنسيون أحدهما إلى الآخر وقال: سياسة! وهكذا خرجا بهذه الكلمة من حرج السؤال، وهما يومئان بها إلى أنهما منقطعان إلى محراب الفكر والدراسات البعيدة عن السياسة. . وإذا كان لأمثالها من أبناء تلك الأمم أن ينحي السياسة عن مجرى تفكيره - على فرض أن جوابهما حقيقي وليس تخلصا من الحرج - فإننا لا نستطيع أن نبعد أمانينا القومية من مشاعرنا وأفكارنا لأننا لم نستكمل حريتنا ولم نتخلص نهائياً من جرائر الاستعمار، فنحن في موقف المعتدى عليه الذي يجند كل قواه للمقاومة.
ونحن صرحاء إذ نقول ذلك، ولكنهم يتبرأن من السياسة عندما يريدون، ويخلطونها بغيرها إذا أعوزهم (البرود الإنجليزي) فلم يستطيعوا أن يملكوا أنفسهم، كما صنعت صحفية فرنسا الأولى!!
قرارات المجمع اللغوي ومدى تنفيذها
أثير في مؤتمر المجمع اللغوي بالدورة الماضية، موضوع قرارات المجمع من حيث مدى تنفيذها، أثار ذلك الأستاذ ماسنيوس إذ قال: كان يحسن بنا بمناسبة النظر في قرارات هذا المؤتمر أن يعرض علينا ما وصل إليه المجمع بشأن تنفيذ قراراته القديمة، ويكون ذلك تقليداً متبعا في كل دورة من دورات المؤتمر حتى نعرف مقدار القوة التنفيذية التي المجمع، ومدى استخدامه لها.
قال الدكتور منصور فهمي باشا: هذا الموضوع من أول الموضوعات التي عني بها المجمع، وأذكر أننا تناقشنا كثيراً في الدورة الأولى حول السلطة التي يجب أن تكون للمجمع لتنفيذ قراراته حرصاً على سلامة اللغة ولكن لم يحدث إلى الآن أن تحققت للمجمع سلطة تنفيذية، ولم يتم الانسجام بين عمل المجمع في ميدان اللغة وبين الأعمال الأخرى في المصالح الحكومية المختلفة، والواقع أننا نعمل كثيراً في المجمع ولكن الصلة بيننا وبين غيرنا من الهيئات تكاد تكون مقطوعة، وأضرب لذلك مثلا أنني والأستاذ العقاد كنا حاضرين مرة في اجتماع للجنة من اللجان الحكومية، فسمعنا كلمة (استديو) فاقترح أحدنا أن يترك استعمال هذه الكلمة حتى يرى المجمع فيها رأياً.
وقال الأستاذ زكي المهندس بك: أرى أن المجمع لا ينبغي أن يحاول تنفيذ ما يقره بطريق الإلزام، فليس الأمر محصوراً بين المجمع والحكومة، بل هناك طرف ثالث وهو الجمهور، وأذن فلابد أن نسير في عملنا على مبدأ الاستحسان لا على الإلزام.
والواقع أن الصلة مقطوعة بين قرارات المجمع والبين نور الحياة، فلا أحد يستعمل ما يقره من الكلمات تلاميذ المدارس في مثل المشن والسحاح والمسرة. . وما إلى هذه من كلمات لا يجد التلاميذ لها حياة في غير كراساتهم. ولو أن مؤتمر استعرض في كل دورة من دوراته ما وصل إليه بشأن تنفيذ قراراته السابقة كما اقترح الأستاذ ماسنيون، لما كانت النتيجة غير أن يقال: لم ينفذ شيء!
والعلة في ذلك لا ترجع إلى انعدام (القوة التنفيذية) فهذه غير ممكنة وخاصة بالنسبة للجمهور كما قال الأستاذ المهندس. ولكنها ترجع إلى أسباب أخرى ذات عدد، منها عدم الاهتمام بوسائل الاتصال بالهيئات والجمهور، ومنها أن المجمع لا يزال برغم الصيحات التجديدية التي يطلقها بعض أعضائه من أمثال طه حسين وأحمد أمين والزيات، فإن كثيراً من الكلمات التي يقرها لا يمكن أبداً أن تستسيغها الأذواق مثل (الكحلكة) لتحليل الكحول.
وثمة كثير من الأشياء لو يضع لها أسماء، ومن العجيب أن يراد امتداد السلطة إلى هذه الأشياء التي لم تسم بالعربية، مثل (الأستوديو) فكيف يمسك الناس عن الكلام عنها حتى يضع المجمع لها اسما؟ هل يدلون عليها بالإشارة كالخرس؟!
وهنا أمر آخر على جانب كبير من الخطورة؛ ذلك أن المجمع الآن يضم الصفوة من كبار الكتاب في مصر، فمن هؤلاء يستعمل كلمات المجمع؟ إنهم يكتبون مثلاً: التليفون والراديو والسينما، ولا يقولون: المسرة والمذياع والخيالة. أقترح على المجمع أن يعقد جلسة لاستجوابهم في ذلك، فما أن يكون لهم وجهة يقتنع به ويعمل على مسايرته، وإلا عرف شأنه معهم. . .
الهمزة الحيرى
عرض على مؤتمر مجمع فؤاد للغة العربية في دورته الماضية، تقرير لجنة الأصول والإملاء في شأن كتابة الهمزة، وقد انتهت اللجنة في تقريرها إلى الاقتراحات الثلاثة الآتية:
1 - أن تبقى قواعد كتابة الهمزة كما هي على أن يدخل عليها بعض الإصلاح الذي لا ينتظر أن ينفر منه جمهور الكاتبين، ويتلخص ذلك بأن تكتب الهمزة في الأول على ألف، وفي الوسط بحسب حركتها إذا كانت مكسورة أو مضمومة، وبحسب ما كان قبلها إذا كانت مفتوحة أو ساكنة، وفي الآخر بحسب حركة ما قبلها، فإذا كان ما قبلها ساكناً كتبت مفردة. وإذا توسطت الهمزة توسطاً عارضاً فإن كانت في الأول لم يعتد بهذا التوسط العارض بل كتبت ألفاً إلا في كلمات معدودة هي لئن ولئلا، وإذا كانت في الآخر عوملت معاملة المتوسطة.
2 - أن تكتب الهمزة على الألف دائما في أي موضع كانت من الكلمة، ويستند هذا الاقتراح إلى أراء المتقدمين، وإلى أن بعض المصاحف كانت تكتب به.
3 - تكتب الهمزة على ألف دائما في أي موضع كانت فإن كان الحرف الذي قبلها بوصل بما بعدها كتبت على الامتداد بين الحرفين، وإذا كان ما قبلها يوصل بما بعدها كتبت في الفضاء.
وقد ناقش المؤتمر هذه الاقتراحات، ثم رأى في جلسته الأخيرة إحالتها إلى مجلس المجمع لدراستها فيه.
ولعل الاقتراح الثاني هو أسهل الثلاثة، لأنه يجعل للهمزة صورة واحدة لا تتغير بتغير موقعها في الكلمة. وقد علمت أن الاقتراح للدكتور أحمد أمين بك والأستاذ إبراهيم مصطفى. والرأي يستند - مع سهولة الرسم الذي يدعو إليه - إلى أن الهمزة والألف شيء واحد كما نص على ذلك السابقون من علماء اللغة ولم أر الأسانيد التي استند إليها صاحبا الاقتراح، والتي يشير إليها تقرير لجنة الإملاء بالمجمع، ولكني وقفت عليها إذ تذكرت بحثاً قيماً لأستاذ جليل هو الشيخ رفعت فتح الله المدرس بكلية اللغة العربية، نشره بالأهرام في (11 - 5 - 1938) تحت عنوان (الهمزة الحيرى) أوضح فيه حيرتها ورثى لها أو لمن يعانون كتابتها ومتابعتها في تقلباتها، وانتهى على أنه ينبغي أن تكتب على صورة واحدة هي صورة الألف في جميع أحوالها لا تتأثر بشكلة ولا موضع، واستند في ذلك إلى أن الألف والهمزة توأمان في وضع العربية، ومما يدل على أن صورة الهمزة هي صورة الألف أن كل حرف في أول اسمه لفظ بعينه، فإذا قلت (ياء) ففي أول حروفه (ي) وإذا قلت (تاء) ففي أوله (ت) وكذلك (جيم) و (دال) وسائر الحروف، فكذلك إذا قلت (ألف) فأول الحروف التي نطقت بها الهمزة (ا) فدل ذلك على أن صورتها هب صورة الألف.
ومما استدل به الأستاذ رفعت فتح الله من أقوال اللغويين، ما جاء في الصحاح للجوهري: (والألف من حروف المد واللين فاللينة تسمى الألف، والمتحركة تسمى الهمزة، وقد يتجوز فيما يقال أيضا: (ألف) وقول ابن جني في (سر الصناعة): (اعلم أن الألف التي في أول حروف المعجم هي صورة الهمزة في الحقيقة، وإنما كتبت الهمزة واواً مرة وياء أخرى على مذهب أهل الحجاز في التخفيف ولو أريد تحقيقها البتة لوجب أن تكتب ألفاً على كل حال، يدل على صحة ذلك أنك إذا أوقعتها موقعاً لا يمكن فيه تخفيفها ولا تكون فيه إلا محققة لم يجز أن تكتب إلا ألفاً، مفتوحة كانت أو مضمومة أو مكسورة وذلك إذا وقعت أولا نحو أخذ وأخذ إبراهيم، فلما وقعت موقعاً لابد فيه من تحقيقها اجتمع على كتبها ألفاً البتة. على هذا وجدت في بعض المصاحف (يستهزأون) بالألف قبل الواو، ووجدت فيها أيضاً (وإن من شيأ إلا يسبح بحمده) بألف بعد الياء. . الخ
وألقى الأستاذ رفعت سنة 1941 محاضرة في جمعية الشبان المسلمين كان موضوعها (إصلاح الكتابة العربية (ضمنها هذا الرأي ورأى أيضاً أن تكتب الألف اللينة على صورة الألف في جميع أحوالها، قاصدا بهذا وذاك إلى رفع العسر الذي يصادف القارئ والكاتب في ضبط الكلمات وقراءتها قراءة صحيحة وقد نشر ملخص هذه المحاضرة في جريدة (المقطم)
وتومئ عبارة لجنة الإملاء بمجمع اللغة، إلى أن الأستاذ صاحبي الاقتراح يذهبان مذهب لشيخ رفعت فتح الله، فقد قالا بما قال به، واستند إلى آراء المتقدمين وإلى كتابة بعض المصاحف كما فعل. ولا شك أن رائد الجميع لوصول - في أمر هذه الهمزة التي احتارت وحيرت الناس معها. . إلى حل يريحها ويريح الناس، فعسى أن يحقق المجمع ذلك في القريب.
عباس خضر