مجلة الرسالة/العدد 868/كارلو نلينو

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 868/كارلو نلينو

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 02 - 1950



المستشرق الكبير

لمحة تاريخية يستدل منها على مدى تعمقه في العلوم عند العرب،

وبنوع خاص في الجغرافية والهيئة وآداب اللغة والفقه

للأستاذ يوسف الخوري

في يوم صافي الأديم من عام 1909 اطل على إدارة مجلة الهلال الزاهرة بغية التعرف على إحدى أمهات المجلات العربية في مصر شاب إيطالي حس الهندام وسيم المحيا يشع من عينيه بريق الذكاء وتنم على رزانته لحية شقراء تعبث بها أصابع أرستقراطية. وما وقف بباب غرفة رئيس التحرير حتى رفع قبعتهمسلما وانحنى بتأدب محيياً بعبارة عربية لا عجمة فيها ولا لكنة، هي: (السلام عليكم يا سادتي الكرام)

وما سمع الحاضرون هذه التحية العربية الخالصة حتى تولتهم الدهشة ووقفوا إجلالا لها ولملقيها وهم يكادون لا يصدقون انهم أمام أجنبي ينطق بلسانهم بفصاحة العرب الأقحاح.

أما هذا الزائر الشاب المتكلم بالعربية كأحد أبنائها فلم يكن سوى الأستاذ كارلو نلينو الذيأمالقاهرة بطلب من الجامعة المصرية لكي يدرس فيها باللغة العربية تاريخ علم الفلك عند العرب.

ولم يكن تلامذة الجامعة أقل إعجابا بفصاحة أستاذهم الأوروبي وسعة اطلاعه طيلة المدة التي قام فيها على تدريسهم حتى أواخر عام 1912، كما تعداهم الإعجاب عينه إلى الجماهير، لا في مصر وحدها بل في سورية ولبنان والبلدان العربية أيضاً حتى ليبيا وطرابلس وتونس الخضراء والجزائر والمغرب وكل البلدان التي أسعد الحظ رجالها وعلماءها بالتعرف إلى هذا العالم الكبير والمستعرب النادر المثال الذي طاف بكل هذه البلدان بعد أن سبقته إليها شهرته وتآليفه فكان في كل مكان حله وكل مجلس ضمه موضع تقدير أهل العلم، لا لحسن نطقه وطلاقة لسانه في العربية فحسب، بل لسعة معارفه. ولا بدع فهو المستعرب الفذ الذي ملك ناصية اللغة وتعمق في دراستها وتمكن من تاريخ العرب وآدابهم وحضارتهم وكل فرع من فروع اجتهادهم العلمي غير تارك شاردة ولا ورادة م فقه أو لغة أو نحو أو حساب أو فلسفة أو تاريخ أو هيئة حتى بلغ الغاية فيه على شكل لم يتأت لأي واحد من المستشرقين الذين تقدموه أو خلفوه.

وكل من يدرس تاريخ هذا البحاثة المجاهد في حقل العربية دون كلل ولا ملل يرى أنه تعشق العربية والأبحاث الشرقية منذ حداثته وبرع في هذه الدراسات حدثا يافعا حتى توصل في كهولته إلى التسيطر الفكري على كل ما يتعلق بهذه العلوم فأصبحت له الكلمة العليا بين المستشرقين وقوله هو القول الفصل في كل نواحي الفكر العربي من حضارة وتاريخ في الجاهلية والإسلام لغة ولهجات وقبائل وعادات واديانا ونحلا وسياسة وفلسفة واجتماعا، حتىإنالمرء ليعجب كيف أن قوى رجل واحد وحياة واحدة تكفي لاستيعاب كل ما تقدم، إلى جنب إنتاج خصب امتاز بالدقة والتحقيق ومعرفة تامة بالنصوص على تسام في القصد وتنزه عن الهوى. فعمل الأستاذ نلينو ونتاجه العلمي رفعاه إلى مرتبة سيما بين كبار المستشرقين مثل (سنوك هورجرنيه) الهولندي، وجولد زيهر المجري، ونولدك وولهوزن وريت.

وقد أسعدني الحظ بالحصول على جل مؤلفات هذا المستعرب الأكمل الذي ظل يخدم العربية والشرق حتى الرمق الأخير فأحببت أن ألخص سيرته لكي يرى كل عربي رأي العين كم نحن مدينون له ولأمثاله من المستشرقين، إذ هم الذين كشفوا لنا معميات تاريخنا ولغتنا لعلنا نقتفي إثرهم فنعمل بمثل جدهم ونشاطهم وتفانيهم على إحياء التراث المجيد الذي خلفه لنا أجدادنا فأهمله وارثوه الشرعيون وحفل به الغرباء.

1

ولد كارلو نالينو في تورين عام 1872 وفيها تلقى دروسه الابتدائية والثانوية وتعشق منذ حداثته علم تقويم البلدان وأكب على مطالعة كتب الرحلات. وطالما حدثته نفسه كالكثيرين من أنداده باقتعاد غارب الأسفار واكتشاف المجاهل، ولكن حلمه هذا لم يتحقق، وكان شانه شأن الكثيرين سواه ممن امتطوا متن الخيال صغارا وكبابهم كبارا. على أن إخفاقه كان أجدى عليه فازداد انصبابا على الدرس وتقصى آثار أصحاب الرحلات وأخبارهم وأوصاف البلدان التي أموها حتى استخلص منها وهو بعد في سن الفتوة خريطة لأوساط أفريقيا ومجاهلها.

ولم يكن شغفه باللغات الأجنبية دون شغفه بعلم الجغرافية. وشعر بميل خاص إلى اللغة العربية لانتشارها في بلدان كثيرة من قارتي آسيا وأفريقيا فأكب على دراستها في مجموعة عربية وقعت له في مكتبة بلدية أوديني. ولما تبين ذووه رغبته هذه اهدوا إليه أجرومية في العربية الدارجة ألفها بالإيطالية جوزيه سابيتو. وكان مؤلف ذلك الكتاب مرسلا وجغرافيا معا طاف بلاد الحبشة والمستعمرات الإيطالية الواقعة على البحر الأحمر وعلم العربية في مدرسة فيرنزة العالية ثم في جنوى برغم أنه كان أعرف بالعربية العامية منها بالفصحى. ولكن الشاب نالينو استعان بهذا الكتاب السقيم كما استعان بغيره من الكتب التي كانت تصل إليها يده حتى قطع بكده وثاقب فكره شوطا بعيدا في معرفة اللغة العربية وأصبح قادرا على تفهم النصوص الصعبة قبل أن تفتح له الجامعة أبوابها.

وبينما كان مكبا على درس العربية عكف على دراسة أختيها السريانية والعبرية اللتين تعمق فيهما تعمقه في العربية.

وفي سنة 1899 رشح نفسه لدخول فرع الآداب في كلية تورينو لوجود كرسي فيها للدروس الشرقية يتولاها عالمان شهيران أحدهما ايطالو بينري الذي لم يحل تخصصه في الدروس الفارسية دون إلمامه بالعربية إلى حد أن اصدر مؤلفا في آدابها. وعلى يده تضلع نالينو من العربية وظل حياته كلها حافظا جميله. على أن ميله للأبحاث الجغرافية كان يحفزه للتتلمذ على أحد أساتذة هذا العلم المشهورين بتفوقهم وهو جويدي كورا صاحب مجلة الكوزموس العلمية وأستاذ الجغرافية في كلية تورينو ثم في كلية روما.

وكانت باكورة ميله المزدوج إلى العلوم العربية وعلم الجغرافية إصداره في العام الأخير من دراسته أول تأليف في هذه الأبحاث نشره له أستاذه جويدي في مجلته تحت هذا العنوان: (قياس العرب درجة من قوس نصف النهار وتعديلها بالمقاس المتري) وفي مستهل المقال يخبرنا أنه فرغ من تأليفه سنة 1890 ولكن نشره تأخر عامين بسبب اضطراره إلى الإقامة في موناكو لفحص المخطوطات العربية في مكتبتها الملكية وإعداد برنامج استغرق عمله فيه بضعة اشهر. وفي هذه الرواية ما يدل على مبلغ تضلع هذا الفتى من العربية إلى حد أن يطالع وينتقد من نصوصها ما يتعذر فهمه حتى على المحنكين في حين أنه لم يكن إذ ذاك قد جاوز الثامنة عشرة.

وهذه الباكورة الناضجة من تآليف نالينو نمت برغبته في التخصيص في الأبحاث الجغرافية والفلكية وما إليها عند العرب. وقد خصص لهذا القصد عدة مقالات نشرها في مجلة الكوزموس، منها مقالة ضافية في خمسين صفحة كبيرة ذات أهمية بالغة في تاريخ الجغرافية عندنا عنوانها: (الخوارزمي وتجديد جغرافية بطليموس عند العرب) وذلك على إثر تناوله بالدرس العميق الدقيق نسخة خطية وحيدة عثر عليها في مكتبة ستراسبروغ من كتاب صورة الأرض للخوارزمي. ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن الدقة في البحث وحرية النقد كانتا مألوفتين على الأخص في زمن المأمون في حين أن العرب كانوا يومئذ في بدء نشأتهم العلمية ولبطليموس عندهم منزلة رفيعة تحيط اسمه بهالة من الإجلال والاحترام، لا بل إنهم كانوا ينظرون إلى علمه ومعارفه الفلكية نظرهم إلى الخوارق أو الأعاجيب.

وفي هذه المقالة كما فيما كتبه سواها قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين اظهر نالينو من القدرة العلمية في الحساب والهيئة وقراءة المخطوطات العويصة ما حدا العالمين سكابارللي - المستعرب منهما والفلكي - إلى تحميله سنة 1894 مسؤولية استبهظها علماء طائر والصيت يفوقونه سنا هي إشرافه على طبع اجل المخطوطات العربية في عم الفلك وهو كتاب الزبج الصابئ للبتاني ومؤلفه أبو عبد الله محمد بن ثابت بن سنان بن جابر الحراني أزهر في أواخر القرن التاسع واوائل العاشر إبان بلوغ الحضارة العربية أوج مجدها. وكتابه أس من أسس علم الهيئة لا عند العرب فحسب بل في الغرب أيضاً حيث ترجم إلى اللاتينية وانتشر واشتهر حتى أصبح الدستور الذي يمشي عليه هذا العلم في أوروبا المسيحية حتى عهد البحث أو التجديد. ولم تأفل شمسه إلا بعد تغلب نظرية كوبرنيكوس على معتقد الفلكيين الأقدمين.

وأقبل نالينو بملء الارتياح على هذا العمل وهو أعلم الناس بما سيعترض سبيله من المشاق فتوجه سنة 1894 إلى مدريد لكي يطلع على النسخة الوحيدة المعروفة لهذا الكتاب في مكتبة الاسكوريال ولكنه ما عتم أن رجع إلى نابولي لكي يمهد لقيامه بتلك المهمة على الوجه الأكمل، وذلك بدخوله كليتها الجامعة لكي يدرس فيها أصول علم الفلك فيعد نفسه لمجابهة المشاكل التي لا بد أن تعرض له في كتابه هذا خصوصا ما استعصى منها في جداول أبعاد النجوم وحركات الكواكب المتحيرة التي تؤلف معظم الكتاب وهي أصعب قسم فيه. ولكي يتمكن من تصحيح ما ارتكبه الناسخ من إخلال وتصحيف أجهد نفسه في تحقيق كل العمليات الحسابية التي بنيت عليها أبعاد النجوم وتثبت من أرقامها المشيرة إلى كل نجم بمفرده. ولم يكتف من علم الهيئة بالنظريات بل اقتفى إثر العرب فأكب على الدرس العلمي جامعا ومتصفحا طائفة كبيرة من النصوص غير المطبوعة التي لم يوفق إليها سواء كما راجع عشرات الترجمات اللاتينية القديمة التي صاغ الأصل العربي المنقولة عنه وأعاد النظر في الأصول اليونانية والفارسية والهندية وكل علوم الأقدمين الذين أخذ عنهم العرب.

وبفضل انكبابه المنقطع النظير وتنقيبه المتواصل تكلل سعيه بالنجاح فأتحف العلم بثلاث مجلدات ضخمة جاءت في 1131 صفحة من القطع الكبير يشتمل الأول منها وهو ثلثها على النص العربي للزيج الصابئي ويليه الجزء الثاني وهو ترجمة لاتينية للنص العربي مع شروح وتعليقات ومقدمة تاريخية تعرف الصابئ وتآليفه ومكانته بين فلكي العرب. أما الثالث فيتضمن ترجمة جداول الكتاب باللغة اللاتينية مع فهارس مهمة ومعجم نفيس للمصطلحات الفلكية وشروح لاتينية للتعابير العربية، وفي نهاية الكتاب فهارس تهدى إلى كل مادة من مواده.

وكان من شان هذا التأليف الذي أنفق المؤلف في وضعه أعواما عديدة أنه ألقى بأبحاثه نورا جديدا على علم الفلك وكشف عما بلغه العرب في شرحه وجلائه وأظهر للملأ مقدرة ناشره العجيبة في العربية وتفوقه في شتى فروعها ومصطلحاتها العلمية القديمة والحديثة، مما أكسبه شهرة واسعة في عالم الاستشراق وأحله الذروة بين علماء الهيئة المعدودين.

ومما زاد في شهرته في هذا المضمار حادث جرى له مع زميله المستشرق السويسري سوتر فقد اطلع على كتاب ألفه هذا وضمنه رأيه في فلكيي العرب فكتب له بشأنه رسالة خاصة جاءت في كراس كامل ضمنه ملحوظاته وتنقيحاته وشروحه وتفاسيره، وبلغ من اهتمام العالم السويسري برسالة زميله الإيطالي أن أجلها لأهميتها التاريخية ونشرها كملحق لكتابه مما كان له أجمل وقع في الأوساط العلمية عادة بالفخر على المستدرك والناشر معا.

من أجل ما تقدم تسلم نالينو أعلى المراتب عند العلماء المحققين وأصبح مرجعا يعتمد عليه في كشف الغوامض وحل الرموز الفلكية.

- 2 -

ولا بدع وهذا شأنه وخطره أن يعهد إليه بكتابة مقالات في علم الفلك وأحكام النجوم لدائرتي معارف عالميتين هما الموسوعة الإسلامية التي تطبع في هولندا وموسوعة أخرى إنكليزية.

على أن ما يعنينا مباشرة هو وقوع الاختيار عليه عام 1909 لإلقاء الدروس في الجامعة المصرية في علم الفلك عند العرب وسواهم مما تقدموهم، فلبى طلبها وراح يحيي في ذلك القطر العربي هذه الدروس التي كان من تفوق العرب فيها بعد أن أكسبتهم شهرة عالمية ولكنها لسوء الحظ أصبحت عند أحفادهم أثرا بعد عين.

واستفاض نالينو في أبحاثه في هذا العلم لا عند العرب فحسب بل عند الأقدمين الذين أخذ عنهم العرب كما أبان عما أخذه علماء القرون الوسطى بدورهم عند العرب. وبعد أن سرد تعريفات هذا العلم عند الأقدمين والمحدثين أخذ في الفحص عن مصادر أخبار فلكي العرب ومؤلفاتهم مبتدئا بما كان يعرفه عرب الجاهلية عن السماء والنجوم وحساب النسيء ومنازل القمر وأنوائها. وتطرق إلى مبادئ علم الفلك عند الأمة الإسلامية وما كان من تأثير علم الفرس فيهم وما ورثوه عن اليونان والهنود وتعريبهم لكتبهم. وبعد هذه التوطئة أخذ في ترجمة الذين اشتهروا من الفلكيين العرب وذكر تآليفهم التي وصلت إلينا التي عبثت بها أيدي الضباع وتوغل في الفحص عن أهم مباحث علم الهيئة موضحا رأي العلماء العرب في كل منها فشرح أقوالهم في طبيعة الأفلاك والكواكب وأصل نورها الخ، وأخيرا دار كلامه على اعلم أحكام النجوم مبينا ما أخذه العرب عن أسلافهم وما اخترعوه هم أنفسهم، وأورد المناقشات التي دارت رحاها بين المتكلمين والفقهاء والفلاسفة والمنجمين في تأييد هذا العلم أو بطلانه، فجمع هذه الدروس القيمة في كتاب أتى في 370 صفحة، طبعه في روما سنة 1911، مع فهارس عامة وحواش وتعليقات جعلته تحفة من التحف. وقد تكرمت آخرا الآنسة كريمة الأستاذ الدكتورة مارينا نالينو فأتحفتنا بهذا الكتاب القيم فشكرا لها على هذه المنة.

وبلغ من ارتياح عمدة الجامعة المصرية إلى دروسه وأبحاثه أن جددت التعاقد معه دورتين أخريين حتى سنة 1913. ومما زاد في دهشة ذوي الاطلاع تبريزه في تاريخ علم الأدب عند العرب على وعورة مسالكه وخشونة مركبه لأجنبي، ناهيك بأنه كان إذ ذاك معدودا من اختصاص العلماء المصريين وحدهم فليس لأجنبي أن يقدم عليه وإلا تعرض لسهام النقد وأثار السخرية والهزء. ولكن مستشرقنا تغلب على كل هذه الصعوبات لأن عربيته كما قدمنا كانت سالمة من كل شائبة لفظا ومبنى. وبدلا من أن يجري على المألوف فيدرس الأدباء تبعا لترتيب الحروف الأولى من أسمائهم نسق تاريخهم وقسمه لما طرأ على علم الأدب من تطورات جوهرية في عصوره الجاهلي والمخضرم والأموي والعباسي ودرس كلا من هذه الحقب مبينا الخاصية الأدبية والفنية التي تميزت بها عن سابقتها ولاحقتها، متقصيا في كل حقبة النتاج الفكري الذي تفردت به نظما ونثرا، مما أنزله في الأوساط الأدبية منزلة لا ينازعه فيها منازع وجعله ذا أثر بين في التقدم العجيب الذي أحرزته اللغة العربية في الربع الأول من هذا القرن. ويكفينا للتدليل على صحة هذا الرأي أن كان بين تلامذته المعدودين الدكتور طه حسين بك زعيم المدرسة المصرية الحديثة في التاريخ والآداب العربية والذي طالما اعترف بأنه مدين لأستاذه نالينو بثقافته الأدبية ونضجه الفكري.

أما البشرى السارة التي نزفها إلى القراء فهي أن هاتيك الدروس التي استقى الأستاذ نالينو مادتها من خطوط قديمة لقي صنوف العناء في قراءتها واستجلائها واعتمد عليها في مقام التدليل والاستشهاد إثباتا لنظرياته واستنتاجاته أصبحت في مأمن من الاندثار إذ ستبعثها قريبا من مدافنها كريمته الدكتورة ماريا نالينو في كتاب متقن الطبع يضم تعليقات وحواشي ضافية وفهارس عديدة. وهي قمينة بالاضطلاع بهذا العبء لأنها من أوسع الناس اطلاعا وأطولهم باعا في هذه الأبحاث في لغتنا واللغات الأجنبية جزاها الله خيرا وأبقاها خير خلف لخير سلف.

وللأستاذ نالينو عدا مؤلفاته الكبيرة مقالات عديدة نشرتها له المجلة الخديوية المصرية سنة 1907 في الجغرافية وأسماء الأمكنة في البلاد، على الأخص ما وضعه من القواعد لنقل الأسماء العربية إلى الإيطالية وكيفية التوصل إلى ضبط الأسماء الجغرافية في طرابلس وبرقة وما كتبه من المقالات العلمية للموسوعة الإيطالية. وقد امتاز في كل ما كتبه بالتعمق في الدرس وإيفاء الموضوع حقه من البحث والتنقيب كما كان بطبعه عدوا للمطرق والسطحي فيلج العباب ويغوص على اللباب ويعود بكل مجهول طريف.

- 3 -

وإذا انتقلنا من علوم الطبيعة إلى علم العقل نرى إنتاج نالينو في هذا الحقل ينمو ويزداد، وإذا نظرنا إلى اللغة من مختلف نواحيها فصيحها وعاميها وبائدها، نرى نالينو قد امتلك ناصيتها وأخذ بأعنتها حتى ليكاد يلم بكل ما دق وخفي من قواعد صرفها ونحوها ولا يلتبس عليه أدنى صوت من مقاطع لهجاتها. وأصدق شاهد على قولنا هذا كتابه في (العربية المتكلم بها في مصر) الذي أصدر الطبعة الأولى منه سنة 1910 وأعاد طبعه سنة 1913. وبيت القصيد في هذا الكتاب مقدمته التي لا تتأتى كتابة مثلها إلا لعربي متضلع من لغته إلى أبعد حد.

ومثل ذلك يقال في الملحوظات التي أوردها بشان اللغة التونسية ونشرها في مجلة الشرق الحديث الذي كان يصدرها باللغة الإيطالية. وقد أسعفه على التقصي ما امتاز به من دقة حاسمة السمع ومرانه الطويل في رحلاته المتعددة إلى تلك البلاد.

وقد أولى الجاهلية عناية فائقة وكرس لبحثها وقتا طويلا. ففي سنة 1893 ظهر له وهو بعد فتى مستفيض عن نظام القبائل العربية قبل الإسلام أبدى فيه من الرصانة في الحكم إلى جنب البحث في القبائل العربية وتاريخها وأساليب معيشتها وعلاقاتها الاجتماعية ما حدا بالأب لامنس اليسوعي المعترف له بالتفوق في هذا المضمار إلى ذكر هذا الفتى بعد انقضاء عشرين عاما على صدور مقاله.

ولهذا المستعرب أبحاث كثيرة لم تنشر؛ ولكن ما كان نصيبه النشر منها يثبت معرفته التامة بلغات جنوبي الجزيرة العربية وهي المعروفة بالحميرية التي تفرعت منها لهجات عديدة منها المعينية والسبئية والحضرمية والقتبانية الخ، وجميعها تختلف عن العربية الفصحى كل الاختلاف. أما ما اتصل بنا منها فالفضل ببقائه عائد إلى النقوش التي عثر عليها في المغاور والصخور الكائنة على طريق القوافل القديمة. وقد بدأ المستشرقون منذ سنة 1834 في قراءة حروفها وحل رموزها غير مبالين بالصعوبات التي تعترض سبيلهم لتعذر الوصول إليها. أما النصوص الحميرية التي نجدها في كتاب الإكليل للهمذاني فليست سوى نصوص مزيفة لفقها المؤلفون كابن وهب ومحمد الكلبي وابن هشام وتقتصر على بعض كلمات عربية إلى جنب كلمات حميريةقليلة اهتدوا إليها مما عثروا عليه من الآثار، وقد تناول نالينو هذه اللهجات البائدة واثبت معرفته التامة بها في مقال طويل تناول فيه بالنقد والتحليل كتابا أصدره العالم الإيطالي السيد كونني روسيني باللاتينية عنوانه (مجوعة نصوص عربية جنوبية).

وعلاوة على أبحاثه في الكتب كان نالينو يتحف بعض المجلات العربية في مصر والشام بمقالات في اللغة والأدب، منها مقالة نشرتها له مجلة الهلال سنة 1917 كانت من الجرأة الأدبية والأهمية العلمية بمكان وعنوانها (كيف نشأت اللغة العربية) انتهى فيها إلى الاستنتاجات التالية:

إن اللغة العربية الفصحى هي بلا شك لغة الشعر الجاهلي المدون في كتب السلف. ومزية هذا الشعر أن ما فيه من أوصاف وتشابيه وأفكار ومعان يدل على أن مبتكريه هم الأعراب أهل الوبر، أخذه عنهم الحضر وقلدوه لغة وأسلوبا. ولما كان من الثابت أن معظم آداب الجاهلية انحصرت في القريض لزمنا القول إن العربية الفصحى كانت لهجة من لهجات هاتيك القبائل التي أخذ عنها الشعر والتي شد إليها الرواة فيما بعد الرحال وتلاهم النحاة الذين دونوا أصول اللغة وقواعدها لكي يأخذوا عنها صحة النطق وتقويم اللسان وتفسير الغريب وشواهد النحو، وإذا أمعنا النظر في تاريخ القبائل التي كان لها القدح المعلي في الشعر انتهينا إلى الجزم بأنها كانت القبائل المعدية المنضوية تحت لواء كندة قبل منتصف القرن الخامس. وكانت نهضة الشعر الجاهلي وبلوغه أوج الإجادة في عهد ملوك كندة الذين كانوا امرؤ القيس آخرهم، وقد وتوفي بين 530و540، وإذن فاللغة الفصحى مردودة إلى إحدى اللهجات النجدية وقد تهذبت في عهد المملكة الكندية ونقلت دون سواها من اللهجات وأصبحت لغة الأدب السائدة وبها نزل القرآن على محمد فأصبح مرجع العرب الديني والسياسي واللغوي.

وفي ثنايا هذا المقال ينفي زعم الكثيرين بأن قريشا كانت أفصح العرب إذ في رأيه أنه لو صح هذا الزعم لأخذ الرواة والنحاة الشعر والنحو عن قريش وأهملوا عرب البادية. ولو كان التنزيل بلغة قريش لاعتمد الشراح أهل مكة في تفسير ما استغلق من غريب القرآن. زد على ذلك أن قريشا لم ينبغ فيها شاعر مشهور ولا خطيب مذكور، فلا شك إذن في أن ما ذهب إليه الناس من القول بتفضيل لغة قريش لم يكن مصدره سوى حب الرسول واعتبار تكريم قبيلته تكريما له.

وغريب أن يتفرع نالينو للكتابة في المجلات والجرائد إبان انصرافه إلى الدروس التحليلية وإلقاء المحاضرات في جامعتي مصر وروما، وكانت محاضراته في الجامعة الأخيرةخاصة بتاريخ اليمن القديم وجاهلية بلاده مما ساعد كثيرا على فهم الإسلام ونشأته. وما من شك في أنه لو استطاع لنشر هاتيك المحاضرات القيمة وخلعها إرثا ثمينا.

ومما زاد في مشاغله انكبابه الوقت الطويل على تنقيح مؤلف جاء في ثلاث مجلدات ضخمة كان أصدرها المستشرق الإيطالي ميكالي اماري وتناول فيها تاريخ مسلمي صقلية، وقد عنى نالينو بضبط الأسماء والتواريخ وذكر المصادر من كتب مطبوعة ومخطوطة بحيث جاء ذلك الكتاب دليلا ساطعا على سعة اطلاع هذين العالمين المستعربين.

ويقصر باعنا وعلمنا ويضيق بنا الوقت والمجال عن ذكر كل ما ألفه علماء الغرب وعلى الأخص نالينو مما لا عهد لصحافتنا وكتابنا بمعالجته وكله يتعلق بالإسلام. وقد نقب عليه في فقه اللغة وغريب اللغة والشرع الإسلامي والفرق الإسلامية، قديمة كانت كالخوارج والشيعة والمعتزلة والقدرية، أو حديثة كالوهابية. وعلى هذه الصورة من المتانة في التعبير والدقة في البحث جاء ما كتبه عن المتصوفة في الإسلام وأشعار ابن الفارض والرئيس ابن سينا في الحب الإلهي والفروق التي تفصلهما عن متصوفة اليونان المشركين.

- 4 -

وظل نالينو منذ نشأته معنيا بشؤون الشرق، قديمها وحديثها حتى تنبهت إيطاليا إلى ما للشؤون الشرقية والإسلامية من الأهمية في ساسة الدولة، وكان ذلك على اثر خروجها من الحرب العالمية الأولى فإنشأ (اماديو جانيني) في روما معهد الشرق وعهد نالينو بإدارته العلمية. وكان في مجلة مقررات المعهد إنشاء مجلة شهرية بعنوان (الشرق الحديث) تبحث في الشؤون السياسية والاقتصادية التي تتعلق بالمشرق الإسلامي فقام نالينو بالمهمة التي أسندت إليه خير قيام. وكان في الوقت نفسه يشرف على المجلة ويتعهدها بقلمه ويودعها من الأبحاث كل طريف مفيد. وعلى كثرة مشاغله لم يكن يهمل مطالعة كل ما يرد عليه من المجلات والجرائد والمنشورات العربية على اختلافها ويستفيد مما يطالعه أبحاثا للمجلة التي لا تزال توالي الصدور بعد أن أفل نجم منشئها المتوقد.

ويجمل بنا ذكر المكتبة النفيسة التي أنشأها هذا العالم العامل وأودعها كل ما عثر عليه واستطاع اقتناءه من الآثار الأدبية والعلمية في البلدان العربية التي زارها وكل ما صدر في أوروبا من كتب الاستشراق حتى أصبحت أغنى مكتبة خاصة بالمختار من الكتب النادرة. والغريب أنه بدأ بجمعها وهو بعد فتى رقيق الحال قليل المال وزادها أضعافا بعد أن اصبح في يسر وإقبال.

وبلغ من شهرته العالمية أنه انتخب عضوا في الجمعية الملكية الآسيوية في لندن والجمعية الألمانية المضارعة لها، وهو مشرف رفيع نادر لم يظفر به سوى فطاحل العلماء. أما في الشرق فقد عرفت له جمعياتنا العلمية مكانته وضمته إلى سلكها ابتداء بالجمعية الملكية المصرية سنة 1932 كما أصبح من الأعضاء العاملين في مجمعي دمشق وبغداد. وفي سنة 1938 أم البلاد السعودية فاستقبل فيها بالإكرام والإجلال وطاف بها من العقبة حتى الطائف تصحبه كريمته الآنسة ماريا غير عابثة بقطع القفار وتجشم الأخطار. وبهذه الرحلة تمت له أمنية طالما راودته وكان اغتباطه عظيما بتغذيته بصره وتشنيفه سمعه بما وعاه ذهنه من أوصاف تلك البلاد وما كتبه بشأنها من أبحاث وألقاه من دروس فعاش مع أهلها عيشة البداوة واطلع على عاداتهم وسمع لهجاتهم وإنشادهم الشعر في سمرهم وهم يصطلون في خيامهم السود أو متكئون حلقات على بساط الرمال. وهناك استعاد إلى ذهنه الحوادث الجسام والانقلابات التاريخية التي مثلت فيما عبر على مسرح تلك الجزيرة المترامية فطوت الأيام الحوادث والرجال وبقى المسرح شاغرا لتحتله فرق جديدة تمثل عليه أدوارا ترمز إلى العصر الجديد.

وكانت أمنيته الثانية بعد عودته أن يصف تلك البلاد وصف شاهد عيان ويقيم المقابلة بين ما عرفه من ماضيها وما خبره من حاضرها ولكن شاءت الأقدار أن يكون تسليمه عليها وداعا وأن تكون آخر بقعة أمها ولم يمهله ريثما يستعيد ذكرياتها في خلواته ويدون بشأنها معلوماته فذهب في سنة 1938 مذكورا بمآثره الغر مأسوفا عليه من كل من عرف فضله ونهل من ينبوع علمه الفياض ليتلألأ كنجم ساطع في سماء النبل والفضل وينعم بالخلود.

العصبة الأندلسية يوسف الخوري