مجلة الرسالة/العدد 868/رسالة الشعر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 868/رسالة الشعر

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 02 - 1950



قفر وسراب

للأستاذ إبراهيم الوائلي

ضيعت في دنيا الظلام شبابي ... وطفقت المحه وراء ضباب

حيران يستهدي الطريق فلا يرى ... في موكب الظلماء غير يباب

ومتيهة جرداء إلا غابة ... نبتت على الأشلاء والأسلاب

تعوي الذئاب حيالها مسعورة ... وتمد للسإرين أفظع ناب

والريح تعصف صرصرا مجنونة ... كعزيف جن أو هدير عباب

ضيعته ما بين تلك وهذه ... فمضى وما أدركت فيه طلابي

دنيا وما كادت ترافق موكبي ... حتى طواها اليأس طي كتاب

وتناثرت كالروض ريع بعاصف ... أو كالعنادل فوجئت بعقاب

حسب الحوادث ما يؤجج في الحشا ... نارا وما يطغي على الأعصاب

أطوي الحياة ومثل أمسي ذاهب ... يومي، وأمسي أحمر الجلباب

صديان لكني أعب عصارة ... هي في فمي نار وفي أهدابي

أين الكروم الوارفات تمدني ... بألذ ما تهدي يد الأعناب؟

أو كلما قربت كأسي من فمي ... طفحت شواظا وارتمت بلهاب!

أورحت أستجلي السماء بنظرة ... لاثت عليها السحب فضل نقاب

يا سامرين وللطلي إشراقة ... شتان بين شرابكم وشرابي

أن شاقكم رشف الكؤس فإن لي ... بالهم ما يغني عن الأكواب

أو بات يطربكم صدى أنشودة ... مرنانة فلقد كفاني ما بي

ذوبت قلبي في حنايا أضلعي وصبغت قيثاري به وربابي

وبعثت أنغامي نشيد مكبل ... صب الطغاة علية سوط عذاب

ومشرد في البيد ظل طريقه ... ما بين أودية وبين شعاب

يطوي الظلام وللرياح مناحة ... ضربت على الآفاق ألف حجاب

الشوك ملء طريقه فإذا مشى ... أدماه وخز أسنة وحرأب أو راح ينتبذ الكهوف توثبت ... ذؤبانها مسنونة الأنياب

ويلاه كم أصدى ودون تعلتي ... قفر وما في القفر غير سراب؟

لي مثل غيري في الحياة رغائب ... أكذا تموت كما أموت رغابي؟

وبنفسي الظمأى نزوع مؤمل ... يأبى الحياة تموج بالأوصاب

ماذا جنيت من السنين تمر بي ... كخفوق طيف أو كلمع شهاب؟

أفنيتها لمشيئة موروثة ... عن سالف الأيام والأحقاب

وخسرتها - وهي الشباب - فلم أفد ... منها سوى أني خسرت شبابي

ودفنتها بين الصخور وأبت من ... تأريخها المقبور شر مآب:

رحماك يا دنيا وحسبك ما أرى ... فلقد أطلت مع الزمان حسابي

ما لي وللشكوى وأعظم محنة ... شكوى الغريق لمزبد صخاب؟

ولمن أحرق باللهيب جوانحي ... وأزم في الوادي المخيف ركابي

المستبد لا يمل سياسة ... جبلت على التنكيل والإرهاب؟

أم للسياط على المتون خضيبة ... بدماء من نكصوا على الأعقاب؟

أم للهياكل أستجير بظلها ... فإذا برمت بها فبالأنصاب؟

أم للخشارة لم يكلل مجدهم ... بسوى النعوت السود والألقاب؟

يستمرئون العيش غير مكدر ... من جهد كل ممزق الجلباب!

ويشيدون بيوتهم معروشة ... بأكف من ركعوا على الأعتاب

رحماك يا دنيا وشر بلية ... جيل يظل مشرد الألباب!

ويتيه في بيداء موحشة الرؤى ... والنجم مكدود الملامح كابي

لا لا ولخلف الليل فجر فاغفري ... لي هذه الشكوى ومر عتابي

واستقبلي العهد القريب فربما ... تحيي الغيوم نضارة الأعشاب

إبراهيم الوائلي