مجلة الرسالة/العدد 868/الشعر المصري في مائة عام
مجلة الرسالة/العدد 868/الشعر المصري في مائة عام
للأستاذ محمد سيد كيلاني
من 1825 - 1880
الساعاتي
وقال:
وجه البسيطة ضاق عن جيش به ... رمت العدى فركبت هول الأبحر
وفيه مبالغة كاذبة. وفضلا عن ذلك فإنه عظم من شأن العدو وأسبغ عليه من مظاهر القوة والمنعة ما حمل الممدوح على تجهيز جيش كثيف ضاق به البر ليلقى به هذا الخصم العنيد الجبار ولو كان الخصم ضعيفا هينا لما احتاج الممدوح إلى هذا الجحفل الجرار.
ومنها:
سرتم وموج البحر يلطم وجهه ... أسفا على الأعداء كالمتحسر
والسحب ترسل أدمعا من حزنها ... والرعد يندب في قبائل حمير
والجو مسود الجوانب عابس ... والبرق يضحك منه كالمستبشر
وفي هذه الأبيات صور الطبيعة عابسة حزينة باكية على ما سيلحق الأعداء من الخطوب. وهذا لا يحدث إلا إذا كان العدو عظيما. فالطبيعة لا تبكي إلا على عظماء الناس.
ولاشك في أن الشاعر لم يكن موفقا حينما حشر هذه الأبيات في هذه القصيدة. فمن المستقبح أن يخاطب الممدوح بمثل هذا.
وقال:
والجاريات تآزرت بقلوعها ... والريح قد لعبت بفضل المئزر
رقصت على نقر النسيم بدفها ... وتمايلت بالتيه كالمستكبر
شبه السفن بالنساء وقد تحجبت بالقلوع. وبقي من كل قلع جزء أضحى لعبة في يد الرياح تحركه كيف شاءت. وهذه السفن ترقص حينما ينقر النسيم على دفها. وتميل تيها وكبرا. ونسي الشاعر أن الرقص والتمايل مما لا يستحب في السفن، لأن السفينة لا ترقص إلا إذا تعرضت للأخطار وحاقت بها الزوابع والعواصف. حينئذ لا تقوى على السير ولا تستط أن تشق طريقها فتعلو وتنخفض بفعل الأمواج. وهذا هو الرقص الذي يريده الشاعر. ولا ريب في أن التوفيق قد أخطأه. والسفينة لا تميل تيها وكبرا، إنما تميل ضعفا وعجزا، وتكون عرضة للغرق بنم فيها.
ونسي الشاعر الجنود الذين في هذه السفن. ولو أنه خلع من بأس هؤلاء العساكر وقوتهم صورة للسفن فيها روعة وجبروت وعزة لكان ذلك أنسب للمقام، ولا سيما أن الممدوح ذهب للقتال والنضال. فتصوير السفن بالنساء المتحجبات لا يتلاءم مع الجو الحماسي الذي ينبغي أن يخلق في هذه الحال. على أن الساعاتي قد أجاد وصف هذه السفن في قصيدة أخرى حيث يقول:
وشقت لهم صدر العباب سفائن ... بدت كالجبال تحتها البحر أزبدا
رمتهم بأمثال الصواعق أضرمت ... فكاد بها الدأماء أن يتوقدا
ففي هذين البيتين ترى صورة مرعبة مخيفة. وهي من غير شك مناسبة لمقام الحرب. وللساعاتي أبيات في وصف بعض السفن البخارية التي كان يملكها سعيد باشا، ومنها:
وقلاعها مثل القلاع شواهق ... تحت البنود ومشيها خيلاء
وقد أتى في هذه الأبيات بما يتفق مع الطابع العسكري الذي اتسمت به الزحلة السعيدية إلى الأقطار الحجازية.
وقال:
طارت بنا نحو الحديدة سرعة ... مثل السوابق في العجاج الأكدر
حملت لها جيشا منذ انتبذت به ... غربيها وضعت أسود العسكر
من كل مولود لديها لم يزل ... في النقع يلعب بالحسام الأبتر
بعد أن شبه السفن بالنساء ترقص وتميل استطرد فصورها حينما طارت نحو الحديدة بالخيول العوابس الجبارة.
وفي هذا تناقض بين صورة النساء المتحجبات وبين الخيول العوابس. وفي البيت الثاني نظر الشاعر إلى قصة مريم. فشبه السفن بالنساء الحوامل. فلما وضعت جاءت مواليدها أسوداء. وصورة الحمل والوضع من الصور الضعيفة. وخير من هذا قوله:
رمتهم بأمثال الصواعق أضرمت ... فكاد بها الدأماء أن يتوقدا وقال:
ولدوا على مهد العلا وقد اغتذوا ... بدم العدى وتكحلوا بالعثير
ففي قوله (ولدوا على مهد العلا) معنى جيد. أما بقية البيت فتوحي بصورة كريهة، واخلق بمن يتكحل بالعثير أن يصاب بالعمى.
وقال:
رفعوا الخيام على النجوم وأوقدوا ... في الأرض نارا بالقنا المتكسر
وقد أغرم الساعاتي بهذا المعنى فجاء به في قصائد كثيرة. وهو من اللغو الذي لا طائل وراءه. وقال:
ولقد أقاموا بالأسنة سوقها ... في يوم حرب بالسيوف مسعر
فقضت ببيع المعتدين سيوفهم ... للنسر لما غاب عنها المشتري
ومعنى البيت الأول مأخوذ من قول الشاعر
أقمنا بالذوابل سوق حرب ... وصيرنا النفوس لها متاعا
والبيت الثاني جميل المعنى غير أنه أخطأ في التعبير عما يريد.
يريد أن يقول إن الجنود لم يجدوا من يشتري منهم المعتدين فقتلوهم وتركوهم نهبا للنسور. فذكر أن جيش ممدوح لما عدم مشتريا باع الأعداء للنسر. وفي هذه الحال يكون النسر مشتريا فلا محل لقوله (غاب عنها) المشتري. ولو قال:
فقضت بمنح المعتدين سيوفهم ... للنسر لما غاب عنها المشتري
لكان موفقا. وقال:
وتواثبوا نحو الحصون فزلزلت ... والقوم بين مجندل ومعفر
حتى إذا اقتلعوا القلاع وأسبلو ... ذيل العفاف رأيت كل مشمر
والمعنى في البيت الأول جيد. غير أن الصورة التي في (معفر) لا تذكر بجانب الصورة التي في (مجندل) أما البيت الثاني ففي منتهى الضعف. وقال:
أسد إذا نزع الدروع لرغبة ... في حتفهم لبسوا دروع تصبر
قوم عصوا إلا لأمر أميرهم ... ملك بفعل خطيئة لم يأمر
والمعنى في البيتين تافه. وتكرار (أمر) و (أمير) و (يأمر) جعل البيت الثاني ثقيل على الأسماع.
وقال:
فضحت مناقبه الملوك وأظهرت ... تقصير كسرى عن علاء وقيصر
وهذا من لغو الكلام الذي دار على السنة الشعراء في ذلك الدور. ومنها:
فتح الممالك لا لكثرة رغبة ... فيها ولكن رغبة في المفخر
والمعنى هنا تافه جدا. وفضلا عن ذلك فأين هي الممالك التي فتحها أبن عون؟ وقال:
ولقد نحاها والبنود خوافق ... والرعب في قلب الحسين وحيدر
والحسين وحيدر كانا من أمراء اليمن في ذلك الوقت. ولكن ذكرهما على هذه الصورة لا يتفق في قصيدة يمدح بها ابن عون الذي يدعوه الشاعر بابن بنت الرسول. فلهذين الاسمين من الإيحاء ما لا يخفى.
(يتبع)
محمد سيد كيلاني