مجلة الرسالة/العدد 865/موزانة أدبية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 865/موزانة أدبية

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 01 - 1950



بين قصديدتين من عيون الشعر الجاهلي

للأستاذ عبد المنعم خفاجي

1 - أما الأولى فهي معلقة: عمرو بن كلثوم التغلبي الشاعر الجاهلي المشهور (500 - 600م). ومطلعها:

ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا

وأما الثانية فهي مجمهرة أمية بن أبي الصلت:

عرفت الدار أقوت سنينا ... لزينب إذ تحل بها قطينا

2 - والقصيدة الأولى ملحمة تاريخية تصور المجد القديم لتغلب قبيلة الشاعر، وملامحها الحربية التي انتصرت فيها على أعدائها، وهي فريدة في نوعها فهي جديرة حقاً أن تسمى ملحمة فهي تاريخ مفصل لقبيلة عمرو ومفاخرها وأيامها ومنها يوم خزاز الذي انتصر فيه كليب قائد النزاريين على اليمينين، وفيها تهديد لأعداء تغلب وتنبيه للملك عمرو بن هند ملك الحيرة (562 - 579م) حتى لا يطيع بهم الوشاة أو يتحيز لبكر شقيقة تغلب ومزاحمتها في المجد والنفوذ والسلطان، وقد بدأها الشاعر بوصف الخمر مما يعد ميزة فريدة لها، قم انتقل إلى موضوع القصيدة وهو الفخر، وختمها بقوله:

لنا الدنيا ومن أمسى عليها ... ونبطش حين نبطش قادرينا

ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وماء البحر تملؤه سفينا

إذا بلغ الرضيع لنا فطاما ... تخر له الجبابر ساجدينا

وأنت تعلم أن عمرو بن كلثوم ارتجل بعض معلقته أمام الملك عمرو بن هند وهو الجزء الذي هدد فيه أعداء تغلب وحذر الملك من الاستماع للوشاة والميل معهم على قومه، ومنه:

أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا

بأننا نورد الرايات بيضاً ... ونصدرهن حمرا قد روينا

ثم أكمل القصيدة كلها، وأنشدها في سوق عكاظ، وقد عدتها تغلب سجل مجدها وفخارها فاعتزت بها اعتزازاً كثيراً ويقال إنها أضافت إليها الكثير حتى بلغت أبياتها نحو ألف بيت وقال بعض شعراء بكر فيها: ألهي بني تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

يفاخرون بها مذ كان أولهم ... يا للرجال لفخر غير مسؤوم

وأما مجمهرة أمية فقد تحدث فيها الشاعر عن مجد قبيلته (ثقيف) وهي من أمهات القبائل العربية وصاحبة نفوذ والسلطان في الطائف بين قبائلها، ولم يبدأها بوصف الخمر كما فعل عمرو بن كلثوم بل بدأها كما يبدأ الشعراء قصائدهم فذكر أطلال محبوبته (زينب) وعفاءها ولعب الرياح المعصرات بها، ثم انتقل إلى موضوع القصيدة نفسها وهو الفخر بمجد القبيلة وشرف الآباء فقال فيما قال:

ورثنا المجد عن كبرى نزار ... فأورثنا مآثرنا البنينا

وكنا حينما علمت معد ... أقمنا حيث ساروا هاربينا

وتخبرك القبائل من معد ... إذا عدوا سعاية أولينا

يأنا النازلون بكل ثغر ... وأنا الضاربون إذا لقينا

إلى آخر ما ذ كره من الفخر بأسرته وقومه ومجدهم ومنابتهم وما أرصدوه لريب الدهر من الخيل والرماح والسيوف والشيب المجربين والشبان والأقوياء، ووراثهم للمجد عن كبرى نزار إلى غير ذلك من مظاهر الكبرياء والعزة والسيدة التي أضافتها أمية إلى قومه، ولا ندري شيئاً عن التاريخ الأدبي للقصيدة وان كنا نرجح أن الشاعر نظمها في مفاخرة من هذه المفاخرات التي تحدث كثيراً بين القبائل العربية وخاصة في العصر الجاهلي:

3 - تتفق القصيدتان في الموضوع والوزن والقافية، وفي خاليهما الغني الغالب على القصيدتين وتتفقان كذلك في هذه المبالغة الواضحة في الفخر، مما لا يؤثر نظيرها من المبالغات في معاني الشعر الجاهلي إلا قليلا.

كما تتشابهان في هذه السهولة الفنية الغالبة على القصيدتين وخاصة عندما ينتقل الشاعر إلى الغرض الأصلي من قصيدتيهما وهو الفخر. وليست هذه السهولة الفنية بغريبة على الشاعرين، فارتجال عمرو لقصيدته ومواقف الفخر فيها مما يقتضي السهولة، ونشأة أمية في الطائف ذات الخصب والزروع والثمار والهواء المعتدل والجو الجميل وتنقله في رحلاته التجارة بين الشام واليمن وثقافته العامة وقراءته في الكتب السماوية، كل ذلك رقق من طبعه وهذب من أسلوبه وأكسبه مواهب فنية ممتازة وصقل من ملكاته الأدبية فظهر أثر ذلك في شعره وضوحاً وسهولة واسجاحاً.

وتتفق القصيدتان فوق ذلك في كثير من معاني الشعر وأساليب الفخر؛ ومن مظهر ذلك الاتفاق هذه المعاني والأساليب والأبيات:

أ - قال عمرو:

ورثنا المجد قد علمت معد ... نطاعن دونه حتى يبينا

أي حتى يظهر الشرف لنا. وقال:

ورثنا مجد علقمة بن سيف.

وقال وهو يتحدث عن الخيول الكريمة التي يخوض قومه عليها المعارك:

ورثناهنَّ عن آباء صدق ... ونورثها إذا متنا بنينا

فقال أمية:

ورثنا المجد عن كبرى نزار ... فأورثنا مآثرنا البنينا

ونستطيع أن نوازن بين البيتين الأخيرين إذا علمنا أن وراثه المجد في بيت أمية أبلغ في الفخر من وراثة الخيل في بيت عمرو، وإن كانت وراثة الخيل من أسباب المجد لأن الخيل وركوبها واتخاذها عتاداً دليل الشجاعة والبطولة وحب النضال، وقول أمية (فأورثنا مآثرنا البنينا) أبلغ من قول عمرو: (ونورثها إذا متنا بنينا) لأن أمية ذكر أن أبناءهم ورنوا مجد الآباء في حياتهم، أما عمرو فذكر أن الأبناء سيرثون هذه الخيول بعد وفاة آبائهم، فلم يسند إليهم الشجاعة والبطولة وحماية الذمار في حياة الآباء، وهذا قصور في الفخر. وقال أمية (البنينا) وقال عمرو: (بنينا) فشهرهم أمية وأبان عن وضوحهم، وقال عمرو: (آباء صدق) فدل على شجاعتهم أو وضوح نسبهم وطهارة أعراقهم، وهي زيادة لا نظير لها في قول أمية.

وقد أخذ أمية لفظ (قد علمت معد) من قول عمرو فقال:

وكنا حيثما علمت معد ... أقمنا حيث ساروا هاربينا

ب - ويقول عمرو: (وأنا المهلكون إذا ابتلينا) أي نهلك أعداءنا ونبيدهم إذا اختبرنا بقتال الأعداء، فيقول أمية: (وأنا الضاربون إذا لقينا) فتجد قول عمرو أبلغ حيث نصَّ على إهلاك الأعداء ولم يذكر أمية إلا الضرب، وإن كان يكنى به عن الشجاعة والإقدام والعزيمة والجد في طلب الأعداء، ولكنه على أي حال يصور نتيجة الحرب كما يصورها عمرو بن كلثوم بقوله (المهلكون).

ج - ويقول عمرو: (وأنا المانعون لما أردنا)، ويروى (الحاكمون بما أردنا)، فيقول أمية: (وأنا المانعون إذا أردنا)

د - ويقول عمرو:

ونشرب إن وردنا الماء صفواً ... ويشرب غيرنا كدرا وطينا

ويروى من مجمهرة أمية:

وأنا الشاربون الماء صفوا=ويشرب غيرنا كدرا وطينا

هـ - ويقول عمرو:

بفتيان يرون القتل مجداً ... وشيب في الحروب مجربينا

وقد روى من المجمهرة:

وفتياناً يرون القتل مجداً ... وسيباً في الحروب مجربينا

4 - ومعلقة عمرو تمتاز بأنها الأصل الذي نسج على منواله أمية؛ كما نمتاز: بتنوع أغراضها، وبطولها، وأنها ملحمة تاريخية نادرة، وهي إحدى المعلقات السبع وهي قصائد تحتل الذروة في الشعر الجاهلي. وقد انتخبت من بين القصائد الجاهلية لشهرتها وخصائصها الفنية والأدبية الممتازة. وقال بن قتيبة في قصيدة عمرو: وهي من جيد شعر العرب:

أما قصيدة أمية فلا تبلغ إلا نحو الثلاثين بيتاً أو تزيد قليلا فهي نحو ثلث قصيدة عمرو، وقد وضعها النفاد مع المجمهرات والمجمهرات سبع قصائد من الشعر الجاهلي رواها أبو زيد الأنصاري في (الجمهرة) وأصحابها هم:

أ - عبيد بن الأبرص، ومجمهرته مشهورة وهي في الحكمة ومطلعها.

عيناك دمعهما سروبُ ... كأن شآنيهما شعوب

والسروب: الكثيرة الجريان. والشعيب: المزادة، وتشتهر باضطراب وزنها؛ ومنها:

والمرء ما عاش في تكذيب ... طول الحياة له تعذيب

من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب ب - عدي بن زيد، ومجمهرته في الحكمة ومطلعها:

أتعرف رسم الدار من أم معبد ... نعم ورماك الشوق قبل التجلد

وهي شبيهة بمعلقة طرفه في وزنها وقافيتها وحكمتها، وتتفق معها في بعض الأبيات مثل:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي

ج - النمر بن تولب، ومجمهرته في الحكمة أيضاً ومطلعها:

(تأبد من أطلال عمرة مأسل)

د - أمية بن أبي الصلت، ومجمهرته موضع الحديث، وهي في الفخر.

هـ - بشر بن أبي خازم، ومجمهرته في الفخر بقومه وبطولتهم وعزهم ومطلعها:

لمن الديار غشيتها بالأنعم؟ ... تعدو معالمها كلون الأرقم

وخداش بن زهير، ومجمهرته في الفخر بقومه أيضاً، ومطلعها:

(أمن رسم أطلال بتوضح كالسطر)

ز - عنترة، وقصيدته:

هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم؟

يعدها بعض النقاد من المعلقات والآخرون من المجمهرات.

وهذه القصائد السبع لم توضع في مرتبة واحدة لاتفاق موضوعاتها؛ إذ أن موضوعاتها مختلفة: فثلاث منها في الحكمة وأربع في الفخر، كما أنها لم ترتب بالنظر إلى الناحية التاريخية، إذ أن أصحابها لم يعيشوا في عصر واحد:

فعدي توفي نحو عام 580م، وعبيد علم 555م، وأمية عام 624م، وعنترة عام 615م الخ؛ فهي إذا إنما وضعت في منزلة أدبية واحدة تلي منزلة المعلقات الأدبية بالنظر إلى خصائصها الفنية الأدبية وحدها، ويكاد الناقد الأدبي يقف أمام تشابه شاعرية هؤلاء الشعراء وخصائص الشاعرية في هذه القصائد؛ فهذه القصائد السبع إذا يشبه بعضها بعضاً في النواحي الفنية والفطرة الأدبية وفي خصائص الشعر والشاعرية وتكاد تكون متساوية في حكم النقد الأدبي، وهي على أي حال تلي المعلقات في الجودة والمكانة الأدبية.

ونستخلص من ذلك كله أن النقاد لاحظوا الفروق الفنية الكبيرة بين القصيدتين فوضعوا الأولى في صف المعلقات والثانية مع المجمهرات، وفي الحق أن شاعرية عمرو في معلقته أقوى وأبين من شاعرية أمية في مجمهرته: سواء في الأسلوب أو المعاني أو الأغراض أو مدى الجودة الفنية ومواهب الشعر.

5 - ويرى الدكتور طه حسين في كتابه (الأدب الجاهلي) أنه لا يمكن أن تكون معلقة عمروا أو أكثرها جاهلية. وقد شك الرواة في بعضها ويرجح أن تكون المعلقة منتحلة، ونحن لا نذهب هذا المذهب، فالمعلقة تمثل حياة جاهلية لقبيلة تغلب وتمثل شاعراً جاهلياً وتصور حياة عمرو الفنية والاجتماعية نفسها وهي شبيهة بالآثار الباقية من شعر عمرو، وإن كان هذا لا ينفي أن تكون قد زيدت عليها بعض البيات؛ وقصيدة أمية نفسها تؤيد أن قصيدة عمرو جاهلية وأنها لم تنتحل بعد الإسلام على أيدي الرواة.

ونلاحظ على مجمهرة أمية خلوها من الصبغة الدينية التي اشتهر بها أمية، ويبدو أنه نظمها في شبابه قبل أن يقف نفسه وحياته وشعره على الجانب الديني وحده. وتقليده فيها لعمرو بن كلثوم يؤكد ذلك وأنها نظمت قبل أن تكتمل شخصية أمية الفنية. وقد يكون السبب الذي جعل أمية ينظم مجمهرته محتذيا فيها عمراً هو إعجابه بمعلقته أو روايته لشعره أو تشابه موقف الفخر الذي وقفه الشاعران، ونحن لا نستطيع أن نقول إن الرواة أدخلوا على مجمهرة أمية بعض الأبيات من معلقة عمرو لتشابه الوزن والقافية والخيال والموضوع في القصيدتين؛ ذلك لأن مجمهرة أمية ليست طويلة ولأنه إذا حذف منها الأبيات المتشابهة لا يبقى منها في مقام الفخر إلا القليل من ابياتها، ولا يعقل أن ينظم الشاعر قصيدة في الفخر معانيها فيه محدودة أو شبه محدودة.

ورواية أبي زيد للقصيدتين في كتابه دليل على إيمانه بصحة القصيدتين أولا، وبأن المعاني المتشابهة فيهما نتيجة لاتفاق الشاعرية أو للتفليد الأدبي ثانياً؛ وأبو زيد م 215هـ راوية ثقة.

6 - وبعد فنستطيع أن نقول إن أمية قلد في مجمهرته عمرو ابن كلثوم في معلقته تقليداً فنياً واضحاً، فأخذ من المعلقة كثيراً من معاني الفخر وأساليبه، وصاغ قصيدته على موسيقى وقافية معلقة عمرو.

وهذا التقليد الفني ليس بعجيب بين الشعراء في شتى العصور وليس بغريب في الشعر الجاهلي نفسه، فأنت ترى أن الشاعر الجاهلي كثيراً ما يتفق مع شاعر قبله أو معاصر له في أسلوب أو معنى أو بيت وأنت تعرف قول امرئ القيس: وقوفا بها صحبي علىّ مطيهم ... يقولون لا تهلك أسلا وتجمل

وقول طرفه:

وقوفا بها صبحي على مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد

وتعرف غير ذلك من مظاهر التشابه الفني أو التقليد الأدبي بين الشعراء الجاهليين، مما نستطيع أن نواتيك ببحث أدبي عنه في الغد القريب إن شاء الله.

محمد عبد المنعم خفاجي

الأستاذ بكلية اللغة العربية