مجلة الرسالة/العدد 864/علي محمود طه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 864/علي محمود طه

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 01 - 1950



شاعر الأداء النفسي

للأستاذ أنور المعداوي

- 6 -

ذات مساء، وقد أوشك الليل أن ينتصف، راح يقص علي طرفاً من ذكرياته وحياته. . . وكان مسكنه في تلك اللحظة قد خلا إلا من صديقين: هو وأنا. وكان يطيب له في أوقات الصفاء أن يحملني على جناح الزمن إلى ماضيه، وأن يفتح لي في قلبه كوي أطل منها على عالمه. . . ترى أكان يحس في أعماقه أن غوائل الردى ستطوي حياة يريد أن يتركها بين يدي وديعة؟ لست أدري! كل ما أدريه أننا في تلك الليلة قد انتهينا إلى التحليق في سماء الشعر بعد أن أرهقنا الطواف حول أرض البشر. . وهناك ونحن في السماء، توقف عن الحديث ليسألني: ترى أي قصائدي النفسية أحب إليك؟ وأجبته في صدق يخلو من المجاملة: (الله والشاعر). . وسكت قليلاً ليحملني من جديد على جناح الزمن إلى ماضيه، إلى ذلك الجو النفسي الذي أملى عليه تلك القصيدة يوم أن كانت زهرة العمر تترنح تحت قطرات الندى المسكرة عند فجر الشباب. . وما أكثر تلك الأجواء النفسية التي كان يقصها علي مرتبطة بفنه، وما أكثر ما كنت أدفعه إلى ذلك دفعاً بنية المتعة والدراسة! وبهذا الرصيد النفسي المدخر أهيئ القول عن مفتاح شخصيته الإنسانية في واقع الحياة والفن، في ذلك الفصل الذي تطالعه بعد لفراغ من نقد الصور الوصفية في إطارها الحسي، وسيكون عنوانه: (حياته من شعره). . واليوم أقدم إليك الصورة النفسية الخامسة (الله والشاعر) هناك في الصفحة الثالثة والسبعين من (الملاح التائه):

لا تفرقي يا أرضي لا تفرقي ... من شبح تحت الذجى عابر

ما هو إلا آدمي شقي ... سموه بين الناس بالشاعر

طغى الأسى الداوي على صوته ... يا للصدى من قلبه الناطق

مضى بيت الدهر في خفية ... شكاية الخلق إلى الخالق

لا تعدني يا رب في محنتي ... ما أنا إلا آدمي شق طردتني بالأمس من جنتي ... فاغفر لهذا الغاضب المحنق!

حنانك اللهم لا تغضب ... أنت الجميل الصفح جم الحنان

ما كتبت في شكواي يا لمذنب ... ومنك يا رب (أخذت الأمان

ما أنا بالزاري ولا الحاقد ... لكنني الشاكي شقاء البشر

أفنيت عمري في الأسى الخالد ... فجئت أستوحيك لطف القدر

تمردت روحي عل هيكلي ... وهيكل الجسم كما تعلم

ذاك الضعيف الرأي لم يفعل ... إلا بما يوحي إليه الدم!

يعرق حد السيف من لحمه ... ويحطم الصفوان بنيانه

وينخر الجرثوم في عظمه ... ومنه ينمي القبر ديدانه!

ما هو إلا كومة من هباء ... تمحقه اللمسة من غصبتك

فكيف يثني الروح عما تشاء ... وكيف يقوي؟ وهي من قدرتك

روحك في روحي تبث الحياة ... نزلت دنيايْ على فجرها

فإن جفاها ذات يوم سناه ... لاذت بليل الموت في قبرها

ومثلما قدرت صورتها ... فروحك الصوت وروحي الصدى

طبيعة ف الخلق ركبتها ... وما أرى لي في بناها يدا!

لكنما روحك من جوهر ... صاف وروحي ما صفت جوهرا

أولا، فما للخير لم يثمر ... فيها؟ وما للشر قد أثمرا!!

تقول روحي إنها ملهمه ... فهي لما قدرته متبعه

مقوده في سيرها مرغمه ... وإن تراءت حرة طيعه

قيدتها بالجسم في عالم ... تضج بالشهوة فيه الجسوم

كلاهما ي حبه الآثم ... لم يصح من سكراه وهو الملوم

تبدي به الأجسام سحر الحياة ... في معرض يجلو غريب الفنون

نواعس الأجفان حلو الشفاه ... شديدة الإغراء شتى الفتون

ولم أكن أول مغرى بما ... أغرت به حواء أو آدما

إرث تمشى في دمي منهما ... ميراثه ينتظم العالما!! فأنت قدرت على الشقاء ... من حيث قدرت على النعيم

وما أرى! هل في غد لي ثواء ... بالخلد أم مثواي نار الجحيم؟

ما أثمت الروحي ولا أجرمت ... ولا طغى جسمي ولا استهترا

عناصر الروح بما ألهمت ... أوحت إلى الجسم فما قصرا!

كلاهما لم يعد تصويره ... ما كان إلا مثلماً كونا

كم حاولا بالأمس تغييره ... فاستكبر الطبع وما أذعنا

أمنذري أنت بيوم الحساب ... ولائمي أنت على ما جرى؟

حماك: ما يرضيك هذا العذاب ... لطيع لم يعص ما قدرا!!

ما كنت إلا مثلماً ركبت ... غرائزي، ما شئت لا ما أشاء

فلتجزها اليوم بما قدمت ... وإن تكن مما جنته براء!

وفيم تجزي، وهي لم تأثم ... ألست أنت الصائغ الطابعا؟

ألم تسمها قبل بالميسم ... ألم تصغ قالبها الرائعا؟

ألم تضعها عنصراً عنصراً ... من أين؟ ما علمي؟ وأنت العليم!

جبلتها يوم جبلت الثرى ... من عالم الذر ودنيا السديم

الخير والشر بها توأمان ... والحب والشهوة في طبعها

حواء والشيطان لا يبرحان ... يساقطان السحر في سمعها!

تشككت نفسي بما تنتهي ... إليه دنياها وماذا يكون!

مضت فما آبت بما تشتهي ... من حيرة الفكر وهجس الظنون!

أيصبح الإنسان هذا الرميم ... والجيفة الملقاة نهب التراب؟

أيستحيل الكون هذا الهشيم ... والظلمة الجاثم فيها الخراب

لمن إذن تبدع تلك العقول ... أفي الردى تدرك ما فاتها؟؟

أم في غد تثوي بتلك الطلول ... ويسحق الدهر يواقيتها؟؟

وا أسفاً للعالم البائد ... ليس له مما يرى مهرب

على رنين المنجل الحاصد ... مضى يغني وهو لا يطرب!

وروع الشاعر مما رآه ... وهام في الأرض على وجهه أين ترى يا أرض يلقي عصاه ... وأي واد ضل في تيهه؟

حتى إذا شارف ظل الشجر ... في روضة غناء ريا الأديم

قد ضحكت للنور فبها الزهر ... وصفقت أوراقها للنسيم

اختار في الظل له مقعداً ... في ربوة فاتنة ساحره

أذاب فيها الشفق المسجدا ... وناسمتها النفحة العاطره

بينا يملي العين من سحرها ... إذ أبصر الصل بها مطرقا

قد انتحى الأطيار في وكرها ... فسامها من نابه موبقا

هل سمعت أذناك قصف الرعود ... في صخب البحر وعصف الرياح

هل أبصرت عيناك ركض الجنود ... في فزع الموت وهول الكفاح

إن كنت لم تبصر ولم تسمع ... فقف إلى ميدانها الأعظم

ما بين ميلادك والمصرع ... ما بين نابي ذلك الأرقم!!

جريمة الغدر وسفك الدم ... جريمة لم يخل منها مكان

يا لجة كل إليها ظمي ... قد جاز طوفانك شم القنان!

من علم الوحش الأذى والقتال ... من بث فيه الشر أو ألهمه.

من علم الثعبان هذا الختال ... والحيوان الغدر من علمه؟

أيستحق الناس هذا العقاب ... أم حانت الساعة من نقمتك؟

ما احتملوا يا رب هذا العذاب ... إلا رجاء الغوث من رحمتك!

أما ترى منفرجات الشفاه ... عن آخر الصيحات من رعبها؟

ما زال فيها من معاني الحياة ... إيماءة الشكوى إلى ربها!

وهذه الأعين نهب العفاء ... في رقدة الموت كأن لم تنم

محدقات في نواحي السماء ... تشهدها هذا الأسى والألم!!

وهذه الأيدي تحوط الصدور ... كأنها في موقف للصلاة

لم تنس في نزع الحياة الغرور ... ضراعة ترسمها للإله!

ما عرفوا في صعقات الردى ... إلاك من غوث ومن منجد

ولا سرى في الأرض منهم صدى ... إلا ودوى باسمك الأمجد! ليست هذه الأبيات الثمانون هي مجموع القصيدة لأنها تربى على المائتين، ولكنها قطوف متفرقة تؤلف بينها وحدة الجو النفسي بعد وحدة العمل الفني، والتقاء الوحدتين في مستودع الفكر أو في ساحة الشعور.

وكما تناولنا في الصور النفسّّية الماضية عناصر الأداة النفسي في الشعر، مطبقين هذه العناصر تطبيقاً فنياً وتوزيعياً على تلك الصور، تبعً لوضوح الصلة النفسية بين كل عنصر وكل صورة، فإننا نسلك نفس الطريق وتتبع نفس المنهج في تناولنا لهذه القصيدة الجديدة (الله والشاعر). . . وسنتحدث فيها عن هذا العنصر الفني الجديد من عناصر الأداة الذي ندعو إليه، وتعني به عنصر (الواقعية النفسية)!

ومرة أخرى سنعرض لمظهرين من مظاهر الواقعية في الشعر هما واقعية الأداء اللفظي وواقعية الأداء النفسي. . . وسواء أكانت الواقعية في منطق الدراسة المذهبية خروجاً من دائرة الرومانسية وهي دائرة الخيال والأحلام والانطواء على النفس والتهجد في محراب الطبيعة إلى دائرة الوقائع الحية والأحاسيس المجردة والأفكار الخالدة والحقائق الباقية؛ أم كانت في منطق الدراسة الفنية ألواناً مختلفة تتوزعها بضع خانات تشير أحدهما إلى واقعية في حدود مجتمع إنساني خاص، وتشير الأخرى إلى واقعية في حدود الأزلي الكبير؛ سواء أكانت هذه أم تلك فإن مرجعها آخر الأمر إلى هذين المظهرين الرئيسيين، ونعني بهما الواقعية اللفظية الواقعية النفسية!

ومرة أخرى نرفض هذه الواقعية اللفظية كما نرفض كل سمة من سمات الأداء اللفظي في الشعر؛ نرفضها لأننا إذا سلمنا بصب التجربة الفكرية في قوالب نثرية في كل فن من فنون القول، فإننا لا نعلم أبداً بصب تلك التجربة في مثل هذه القوالب في فن الشعر. . . وإذا كانت التجربة الفكرية هي عماد الواقعية الاجتماعية أو عماد الواقعية الوجودية، فإنها في كل ميدان من ميادين القول المرسل تستطيع أن نتبع من أغوار الذهن وحده، حيث تبدو الفكرة عارية من كل غلالة من الغلائل تنسج خيوطها من أعماق الهزة الوجدانية، ولكنها في الشعر لا تستطيع أن تقف وحدها غير مدثرة بتلك الغلائل التي تكشف عن تفاعل الأصداء الكونية داخل منطقة الشعور، أعني لابد من أن تمتزج التجربة الفكرية بالتجربة الشعورية ذلك الامتزاج الذي تتعادل فيه النسب الفنية هنا وهناك. . . عندئذ لا يجوز منطق الذهن في تعبيره النثري على منطق النفس في تعبيرها الشعري، ولا تطغى الطاقة الفكرية ذات التجريد المادي الخالص على الطاقة الشعورية ذات التصوير المعنوي الخالص؛ وهذا هو مفرق الطريق بين أداء يدور حول محور الواقعية بسلسلة من الخواطر الذهنية وبيم أداء يدور حول المحور نفسه بسلسلة من المشاعر النفسية!

نريد في شعر الأداء النفسي هذه الواقعية النفسية؛ الواقعية التي تفتش عن الحقائق الوجودية الكبرى في مجاهل الكون ومتاهات العقل، حتى إذا التقطت تلك الحقائق قذفت بها إلى ذلك المصهر الكبير مصهر النفس الإنسانية، ليخرجها لنا بعد ذلك مصبوبة في قالبها الملائم الذي تقوم بصنعه ملكة (الوعي الشعري). . . ولا بد من وجود هذه الملكة وراء كل واقعية نفسية، لأنها هي وحدها العنصر المسئول عن تنظيم كل حقيقة كونية يعرضها الفكر في ساحة الوجود الداخلي. فإذا أغفلت هذه الملكة عن عملية الإشراف الفني العام فقد تعرضت الواقعية النفسية للذبذبة في قضايا الفكر وللمغالطة في منطق العاطفة، وهما الجانبان اللذان يعبر عنهما في موازين النقد الحديثة (بالذبذبة الفكرية) و (المغالطة العاطفية)! هذه المغالطة وتلك الذبذبة مرجعها إلى غفلة الوعي الشعري على التحقيق، وهي شيء يختلف كل الاختلاف عن ضعف الرؤية الشعرية. . . إن ضعف الرؤية الشعرية يعرض الصورة الوصفة للاهتزاز الذي ينتج عنه تعذر المطابقة بين حقيقة الصورة في إطار الفن وحقيقتها في إطار الحياة، ولكن ضعف الوعي الشعري بمرض القضية الفكرية لاهتزاز من نوع آخر، تنتج عنه المغالطة المقصودة أو غير المقصودة في مجال المواءمة بين الحقائق في دائرة الواقع النفسي أو دائرة الواقع الوجودي! أما المثال على ضعف الرؤية الشعرية فقد قدمناه إليك في ذلك البيت من القصيدة السابقة ونعني بها (حانة الشعراء)؛ وهو البيت الذي ينقل إليك هذه الصورة:

حمر الثياب تخال أنهمو ... يفدون من حانوت قصاب!

وأما ضعف الوعي الشعري فنقدم عليه مثالا آخر من شعر ابن الرومي عندما يقول:

لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد!

ولعلك تدرك أن هذا التفسير العجيب قد حفل بالمغالطة العاطفية من جهة وبالذبذبة الفكرية من جهة أخرى، وأنه بهذين المظهرين من مظاهر ضعف الوعي اشعري قد قضى على الواقعية النفسية بصورة واضحة، لأن القضية الفكرية معتمدة على الصلة الواهية بين صروف الدهر وبكاء الطفل، قضية تخلو من منطق الواقع سواء أكان هذا المنطق في معرض الحقيقة النفسية أم كان في معرض الحقيقة الوجودية

ولا تظن بعد هذا أننا نضيق بالواقعية الاجتماعية في الشعر سواء أكانت في حدود مجتمع إنساني خاص أم في حدود مجتمع إنساني عام، وأننا لا نقبل غير هذه الواقعية التي تستمد مقومات بقائها من حقائق الوجود الأزلي الكبير؛ كلا، فكل واقعية تحمل في أحشائها توأمي التجربة الفكرية والشعورية مكتملي أسباب الحياة بنسب متقاربة أو متشابهة فهي واقعية نفسية تقبل في الشعر وتستساغ، وإن كنا نفضل بعد ذلك هذا اللون الأخير لأنه المرآة التي تنعكس على صفحتها كل نزعة إنسانية خالدة، أو لأنها الصفحة الأخيرة التي تلخص في سفر الحقائق الكونية كل ما سبقها من صفحات.

هذه الواقعية النفسية الوجودية التي تسير فيها لفتة الفكر جنباً إلى جنب مع خفقة القلب، هي التي تطالعنا من قصيدة (الله والشاعر) في أزهى حلة من حلل التصوير الفني في الشعر العرب الحديث. . . وهي واقعية تمثل القسط المشترك من الحقائق الكبرى المتبادلة تبادلاً كونياً بين الله والإنسان، وهي حقائق أشبه بالرواسب الفكرية والنفسية المتخلفة في قرار الذهن البشري منذ أقدم العصور؛ منذ أن بدأ الركب الإنساني يفكر في واقع هذا السير الطويل في طريق الحياة، ويناقش علة وجوده وغاية بقائه وما بعد فنائه، حيث ينتظره الجزاء الحق أو غير الحق ممثلا في عالمي الثواب والعقاب. . . ونقول الجزاء الحق أو غير الحق، ما دامت هناك صيحتان تؤمن إحداهما بأن الإنسان لا يملك أمام القوة العليا شيئاً من أمر نفسه ولا من أمر دنياه؛ وإنما هو يُدفع فيندفع ويوجه فيتجه ويسير فيسير، وأنه تبعاً لهذه القدرة المسلوبة والحرية المفقودة لا يجزى على سيئاته على سيئاته إذا أساء، فإن جزي عليها فهو جزاء غير عادل! إيمان بهذا كله تفصح عنه هذه الصيحة التي قابلها صيحة أخرى عمادها إيمان آخر، هو أن الإنسان يملك أمام القوة العليا كثيراً من أمر نفسه ومن أمر دنياه؛ فهو قابض على الزمام لا يفتله إلا برغبته، مبصر للطريق لا ينحرف عنه إلا بإرادته، عليم بالحقائق لا يحيد عنها إلا بمحض هواه، فهو مخير تركت له الحرية فإذا أساء فهمها فعلية أن يتقبل ما أعد له من جزاء، وإنه لجزاء يتسم بالحق ويتصف بالعدل ويقترن بالإنصاف!

وإذا أنت بحثت عن مكان علي طه بين أصحاب الصيحتين الخالدتين فإن مكانه هناك مع الفريق الأول. . . هو معهم في اتفاق النظرة واتجاه الفكرة ولكنه يفترق عنهم في احتفاظه بإيمانه الذي لا تزعزعه كل هذه العواصف والأعاصير. أنه يتناول هذه القضية الوجودية الكبرى من زاويتين: الأولى ليدافع عن الكيان الإنساني أمام سطوة القدر وحكمة القضاء، مستخدماً في دفاعه منطق الشاعر الفيلسوف الذي يعرض المقدمات عرضاً شعريا ترتضيه النفس ليخرج منها بنتائج فلسفية يرتضيها الفكر. والثانية ليعبر عن حيرته البالغة وحيرة القافلة الإنسانية حين تتخبط في صحراء الوجود تلتمس الظل الظليل في رحاب الواحة الإلهية، فراراً من وطأة القيظ ولفح الهجير! وهو بعد ذلك متأرجح بين البث والشكاة، وبين الأنين والحنين، وبين الثورة المهذبة والخضوع العميق. . . وهو آخر الأمر معذب لا يدري أين يستقر ولا إلى أي وجهة تمضي به قدماه: خطوة يأس تقذف به إلى الخلف وخطوة أمل تدفع به إلى الأمام، ولكنه في غمرة هذه التيارات النفسية المتباينة ضارع مبتهل لا يشك أبداً في رحمة الله!

وفي كل هذه الأجواء التي صعد إليها بجناح الشعر تمتزج التجربة الفكرية كما قلت لك بالتجربة الشعورية ذلك الامتزاج الذي نتعادل فيه النسب الفنية هنا وهناك؛ وإذا أنت في قصيدة (الله والشاعر) تلتقي بالحركة العقلية أو لا تتبعها الحركة الوجدانية، كما التقيت من قبل بالحركة المادية أو لا تعقبها الحركة النفسية في قصيدة (القمر العاشق) وهذا هو جوهر التفرقة بين عنصري الحركة الأولين في مرحلة التجسيم الشعري ومرحلة الواقعية الوجودية!

ولابد في الواقعية النفسية بعد هذا كله من تلك (اللافتات) الفكرية الضخمة التي تعترض طريق السائر في دروب هذا اللون من الشعر، وهي اللافتات التي تشير إلى (مراكز التجمع) الشعورية بعد كل نقله من نقلات العمل الفني. . . ونرى لزاماً علينا أن نعرض بعض النماذج من هذه اللافتات الفكرية التي تنظم أوضاعها ملكة الوعي الشعري في كثير من الدقة والإتقان. وإليك النموذج الأول الذي يمهد به الشاعر لدفاعه الثائر عن موقف الإنسانية المخذولة في ساحة الخالق العظيم: لا تعدني يا رب في محنتي ... ما أنا إلا آدمي شقي

طردتني بالأمس من جنتي ... فاغفر لهذا الغاضب المحنق!

ويمضي الشاعر بعد ذلك في دفاعه بعد أن طلب المغفرة، مقدماً دليله الأول على أن هذا التمرد الروحي لا دخل للطبيعة الإنسانية في إثارته، ولكنه من وحي الدم الفائر في مرجل النفس منذ الأزل حيث قدر لها أن تكون:

تمردت روحي على هيكلي ... وهيكل الجسم كما تعلم

ذاك الضعيف الرأي لم يفعل ... إلا بما يوحي إليه الدم!

ثم ينتقل من مرحلة الدفاع المهذب إلى مرحلة الاتهام المهذب الذي يتوارى خلف ركام الضعف أو خلف مظاهر الخضوع:

ما هو إلا كومة من هباء ... تمحقه اللمسة من غضبتك

فكيف يثني الروح عما تشاء ... وكيف يقوى؟ وهي من قدرتك!

وعند ما يفرغ من هذا الاتهام المحجب يعمد إلى الاتهام السافر الذي يخفف من حدته وضع الاعتراض موضع السؤال، وكأنه لا ينشد العتاب وإنما ينشد الجواب.

لكنما روحك من جوهر ... صاف وروحي ما صفت جوهراً

أولا؟ فما للخير لم يثمر ... فيها؟ وما للشر قد أثمرا!!

ومرة أخرى يود أن يبرئ نفسه من كل ذنب، وأن يدرأ عنها كل خطيئة، ولا ضير من هذا المنطق الذي يرد ظواهر الإغراء إلى مصادرها من نفس الإنسان الأول الذي خلف لأبنائه هذا الميراث الخالد على مدار القرون:

ولم أكن أول مغرى بما ... أغرت به حواء أو آدما

إرث تمشي في دمي منهما ... ميراثه ينتظم العالما!!

وحين يقص عليك قصة الثعبان الذي يكمن للطير بين أكداس الزهر ليطمس معالم الحياة بألوان من السم الزعاف، فلكي يطرق أبواب المعنى الكبير لمشكلة الوجود والعدم أو مشكلة البقاء والفناء:

إن كنت لم تبصر ولم تسمع ... فقف إلى ميدانها الأعظم

ما بين ميلادك والمصرع ... ما بين نابي ذلك الأرقم!! هذه اللافتات الفكرية ونظائرها مما تحفل به قصيدة (الله والشاعر) يعرض لها الدكتور طه حسين بك في الجزء الثالث من (حديث الأربعاء) حيث (يقول: فأما معرفتي لشاعرنا المهندس قد أرضتني فلأن شخصيته الفنية محببة إلى حقاً، فيها الروح وعذوبة النفس، وفيها هذه الحيرة العميقة، الطويلة العريضة التي لا حد لها، كأنها محيط لم يوجد على الأرض. . . ولقد صحبت الملاح التائه في قصيدة (الله والشاعر) فأحسست كل هذا الذي صورته لك آنفاً، ورأيت رجلا لا هو بالشك المطمئن إلى الشك، ولا هو بالمستيقن المطمئن إلى اليقين، ولا هو بالمنكر المستريح إلى الإنكار، وإنما هو رجل مضطرب حقاً، مضطرب أشد الاضطراب يؤمن بالقضاء والقدر، ثم يثور بالقضاء والقدر، يرضى أحكام الله ثم يجادل فيها، يشكو ثم يستسلم، ويستسلم ثم يشكو، رجل حائر دائر هائم لا يستطيع أن يستقر. وأكبر الظن أنه لو استقر لكان أشقى الناس؛ فهو سعيد بحيرته، مغتبط بهيامه؛ مبتهج بهذا التيه الذي دفعته إليه نفس طموح جدا لأنها نفس شاعر، عاجزة جداً لأنها نفس إنسان)!

فقرات من نقد طوي كتبه الدكتور عن الشاعر، أما بقية هذا النقد فسنضعه تحت المجهر في فصل مقبل من فصوب هذه الدراسة

وسيكون عنوانه: (علي طه في ميزان النقاد المعاصرين)

(يتبع)

أنور المعداوي