انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 864/إلى معالي الدكتور طه حسين بل:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 864/إلى معالي الدكتور طه حسين بل:

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 01 - 1950



حبور وتحية

في موكب النصر والدنيا تموج بالبهجة، دعمي - يا سيدي - أتقدم فأنثر الزهر عند قدمي القائد المظفر تقديراً لفضله.

وفي فرحة الفوز والأرض تهتز حبوراً، دعني أشق زحمة الشعب الطروب لأرتل نشيد الروح بين يدي العبقرية السامية.

وفي نشوة الطرب والجموع الزاخرة تتدافع لدى بابك تهتف باسمك الحبيب، دعني أبلغ مجلسك لأوقع - لدى مسمعيك - لحن الخلود على قيثار قلبي، تحية للسمو والنبوغ.

فإذا بلغت مجلسك وحاولت أن أهنئك، فاضطرب لساني أو تعثر بياني، فلا تلمني - يا سيدي - لأن قلبي ينبض بالبهجة ويخفق بالسرور ويتألق بالإخلاص.

أتذكر - يا سيدي - يوم أن سكبت عبرات قلبي ولوعة فؤادي على قرطاس أبثك فيه همي حين رزئت بفقد المرحوم أمين عثمان. ثم هفت نفسي إليك فلقيتني بقولك: (مرحباً، بالرجل المخلص!)

فإن قصر القلم في التحية من رهبة الموقف، أو أرتج عليّ في التهنئة من روعة المجلس، فقل لي في هدوء الأب وعطفه (لا بأس عليك، فإنا أسمع نبضات قلبك وأشعر بخفقات فؤادك وألمس هزات روحك. . . أنت أيها الرجل المخلص!)

لا عجب، فأنت وحدك قد سموت إلى أكبر منصب في الدولة. . . سموت على جناحين من شبا اليراع وسنان القلم، على جناحين من نبوغ الأديب وعبقرية الفذ، على جناحين من إباء الشرف ونبل الكرامة.

وأنت وحدك قد ترفعت عن ترابية العقول الوضيعة وشمخت عن أرضية الأفكار السقيمة، التي سفلت فما استطاعت أن تبلغ شأوك وهو وعر، ولا أن ترقي إلى مكانك وهو سامق، فانحطت عنك فانفضت من خولك لتكون أنت وحدك العلم.

وأنت وحدك استعذبت الشدة تصرعها بقوة الايمان، واستمرأت الملمة تدهما بسيف العقيدة، لا يقعدك نقلب الدهر ولا تصرفك غير الزمن ولا يفزعك تفرق الإخوان، فكنت شديداً في الحق لا تلين، عنيفاً على الباطل لا تتساهل، صادقا في الجهاد لا تستقر.

فلما انجلت الغمة وانفرجت الكربة وبلغت الغاية عندها القلب وتسكن لها الجائشة، حام حولك أناس تعروا عن الإنسانية والرجولة والكرامة جميعاً، حاموا حولك يتمسحون في تذلل وخضوع، فلا يغرنك ما ترى من رجال. . .

وحين تقلدت منصب الوزارة، أشرق النور في قلوب تهفو إليك بالمحبة، وابتسم الأمل في أفئدة ترنو إليك بالإخلاص، وتألقت السعادة في أرواح تصبو إليك بالوفاء.

فلا تنس - يا سيدي - أنك عميد الأدب، وأن الأدباء هم تلامذتك وبطانتك وأبناؤك، وأن الأديب رجل يعيش عمره مضطربا في غمرات الشدة، ينزف نضارة العمر في الكد، ويبذل غضارة الشباب في الجهد، يعزف عن لذة الحياة ومتعة العيش إلى ضنى النفس وعناء العقل، فلا يجد العون ولا الساعد. فكن أنت موئله وعونه.

ولا تنس أن في وزارة المعارف أدباء يصيبهم الإرهاق من أثر النظام الحكومي، وتتقدمهم الأقدمية الفجة الخواوية، ويسبقهم أصحاب الملق والخضوع من ذوي النفوس الوضيعة. هؤلاء الأدباء بهم إباء يدفعهم عن الرجاء، وفيهم كرامة ترفعهم عن، التذلل وبهم شهامة تفزعهم عن التعبد، فضاع حقهم في صخب المحسوبية وانطوى أملهم في ثنايا الأغراض.

ولا تنس أن بين يديك خفافيش يقتلها النور ويحييها الظلام، وأن من خلفك ثعالب لا تفتأ تمكر وتمكر، يلذ لهم الخداع ويطيب لهم التلون. خفافيش وثعالب فيهم الخسة والضعة أذلهم الكلب للمادة واسترقهم الشره إلى المال، فعبثوا بالحق سنوات وسنوات، واستمتعوا برضاب الوزارة حيناً من الزمان، وخصوا أنفسهم بالغنيمة الباردة من أموال الدولة، لم يرعوا للمصلحة العامة إلاَّ ولا ذمة. هؤلاء هم أعداء الوطن والأمة، فارفع السوط. . . ارفع السوط يا سيدي.

ولا تنس المعلم، وهو يعيش - أبداً - تطحنه شدة الإملاق، وتعصره شدة الإرهاق.

ولا تنس - يا سيدي - آمال قوم أشرق النور في قلوبهم وهي تهفو إليك بالمحبة، وابتسم الأمل في أفئدتهم وهي ترنو إليك بالإخلاص، وتألقت السعادة في أرواحهم وهي تصبو إليك بالوفاء.

كامل محمود حبيب