مجلة الرسالة/العدد 862/الأدب والفن في أسبوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 862/الأدب والفن في أسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 01 - 1950



للأستاذ عباس خضر

نبضات قلب

هو قلب صديقي الشاب الأديب الطالب بإحدى كليات الجامعة وهو من البراعم الأدبية التي يرجى من نضجها ثمرات، كما ترى من رسالته هذه التي كتبها إلي، قال:

أكتب إليك وأطيل، لأن على شفتي بسمات تريد أن تنطلق بين يديك، ولأن بين جفني عبرات تريد أن تنسكب على راحتيك ولأن بين ضلوعي تختنق كلمات، وتحتبس أنات. .

وأسألك أن تقرأ كتابي على مهل. . على فراغ بال وهدوء حال. وقد يبدو الأمر في أوله تافهاً، وقد يبدو مسلياً، وقد لا يبدو تافهاً ولا مسلياً. . تعروه مسحة الجد تخضبه آية الصرامة وإن الموجة لتملأ عرض البحر إذا وقع فيه حجر، ومعظم النار من مستصغر الشرر. وهاأنذا أنثر مكنوني قبل أن يستشري فيستعصي، عساك تطب له بمبضعك. وأظن أنه لا يخفى عليك الآن أنها أعراض حب - يا طبيب النفوس - ولكنها أعراض اختلطت علي حتى حسبتني منها معافى. . فسرت في طريقي لا أحنف عن الجادة، حتى ارتطمت بصخرة الحق الصليبية، فرجعت أدراجي، تولول في جانبي الحيرة، وتفهق في حشاي الظنون. وليس الحب علي بغريب. . بل إن عهدي به لقريب، وأوشك أن أقول ما قال أبو الطيب:

أبنت الدهر عندي كل بنت ... فكيف وصلت أنت من الزحام

ألا ترى معي أن الحب حمى! وأنه من بنات الدهر! ويالهن من بنات!!

هذه هي البسمات التي تريد أن تنطلق بين يديك. ودونك العبرات.

ويبسط لي الصديق قصته مع فتاة تزامله في الكلية وتصادفه في بعض الأوقات بقطار الضاحية التي يسكنها، ويقول أنه جلس مرة في القطار متعباً لا يكاد يتبين من بجانبه، ولما وصل البيت وخلع ثيابه وقعت منها على الأرض ورقة التقطها فوجد فيها: (أحبك. أحبك. أحبك - أنا) ثم يقول: (ابتسمت وأيم الحق، وعاثت أناملي بالورقة الدقيقة الرقيقة، فصارت لقى على صفحة الإهمال. . ولم أكن أدري أن هذه الورقة الصغيرة ستثأر لعرضها الممزق وشرفها المهان. فقد انسربت مادتها إلى واعيتي الباطنة، وأخذت تفرخ وتتكاثر حتى أصبحت عالماً من الحب له أربعة جدران أحدها (أحبك) والثاني (أحبك) والرابع (أنا). أي طيف هذا؟ ومن التي تحبني؟ حقاً إنها قاسية. .

وفي الكلية وجدت طيفاً كأنه يحوم ليقع، على عينيه نظرات تتكسر، وفي جوهره فتنة تستيقظ، كأنني كنت معه على ميعاد، وكفكف قلبي من كبريائه، واندلعت في جوانحي الحيرة. أهي (أنا)؟! آه يا قلبي أتريد أن تعرف السر؟ إنك إن سألت الزميلة فمن يدري، لعلها تصدمك متذرعة بالعفة والاستقامة. إلى أن قال (وأنا في غمرة هذا اللج المختلط أسألك أن تشخص الداء أو تنير الطريق، أترى الورقة الدقيقة الرقيقة قد انتقمت لكبريائها حين فركتها بأناملي؟ ولي رجاء يا صديقي، إن عرضت لهذا القلب في أدبك وفنك، ألا تذكر اسم صاحبه، فإن له أسرة تحب التقاليد وإن هذا الأمر لم يعرفه - غير الله - سواي وسواك).

وأنا لن أطب لهذا الصديق الملتاع، وما أنا طبيب نفوس كما قال ولا شيء من هذا، ولعلي ألقاه قريباً فأتندر عليه. . على أني ألاحظ أن قصته تبدأ، ولا بد أن تنكشف الأمور فيما بعد. وعلى أي حال فإني أدعه الآن في هذا اللج المزيج من القلق والحيرة والألم الذي يستعذب في الهوى. . لأخلص إلى موضوع عام.

هؤلاء الطالبات في الجامعة، أمرهن محير، فلا هن سافرات ولاهن محجبات. تراهن في الصف الأول من قاعة المحاضرات وتراهن في غير أوقات الدرس منزويات ينطوي بعضهن على بعض يسئن الظن بالطلاب ويؤولن كل حركة وكل كلمة بما يتفق وسوء الظن وقد يكن على حق في بعض ذلك فإن كثيراً من الطلاب تعد حالة الاختلاط جديدة عليهم. والطالب يرى من بعيد ويخال. وتنشأ هنا وهناك أحلام ووساوس. وفي مثل هذه الظروف يتوهم الحب أو ينشأ ولكنه لا يكون دائماً ثابت الأساس لأنه لا يدوم مع التجربة والتعرف. وما زلت أنا أذكر الفتاة التي كنت أسمع عنها ولا أراها فكونت لها صورة في نفسي وأحببتها فلما رأيت الفتاة لم أجد فيها شيئاً من ملامح الصورة، فأعرضت عنها وعكفت على صورتي! ولعل أكثر حوادث الحب ما يقع على بعد، فلو انتفى البعد في مائة من الحالات فقد يثبت واحد من المائة فقط. ولو تم ذلك لفقد الأدب ثلاثة أرباع أشعار الغزل.

فلم الأسبوع

هو فلم (ليلة العيد) وقد عرض أخيراً بسينما الكورسال. وضع قصته أنور وجدي، وأخرجه حلمي رفلة. ومثل أهم الأدوار إسماعيل يس وشكوكو وشادية وحسن فايق ولولا صدقي واشترك معهم آخرون.

وليس في الفلم من اسمه (ليلة العيد) غير أن أول منظر فيه أراجيح وصبيان يتواثبون ويرفعون أصواتهم بكلام فيه لفظ العيد ويعقب ذلك منظر مسرح كأنما ذهب الناس إليه ليلة العيد. . ويلعب على خشبه المسرح ياسمينه (شادية) وشوشو (شكوكو) وسوسو (إسماعيل ياسين) وينزل الستار فيهرع صاحب المسرح إلى ياسمينه ويبدي لها إعجابه ثم يغازلها، فتشعر بجرأته في المغازلة فتصده في عنف ويقبل أخواها سوسو وشوشو، فيعتديان عليه بالضرب، ثم يفصل صاحب المسرح الاخوة الثلاثة من العمل بمسرحه. ثم يرون إعلاناً عن حاجة أحد المسارح إلى مغنية صغيرة جميلة، فتذهب ياسمينه إلى مقابلة مدير هذا المسرح فتخطئ شقته وتدخل شقة أخرى بجوارها فلا تجد فيها أحداً، ثم تدخل الشقة فتاة (لولا صدقي) ومعهما ثلاثة رجال هم أخوتها، ويدور بينها وبينهم حدث يفهم منه أنها اصطادت شاباً غنياً (ابن باشا) وأنه يوشك أن يحضر، ثم يقبل الشاب وينهمك مع الفتاة في مبادلة الغرام، ويفاجئه الأخوة الثلاثة، ويضطرونه إلى دفع ألفي جنيه وإلى التوقيع على تعهد بزواج الفتاة. ويجلس الجميع للعب الورق، وتسمع ياسمينه كل ذلك وتراه وهي بحيث لا يرونها، وتتسلل تحت منضدة اللعب، وتتمكن من أخذ ألف جنيه سرقها أحد الأخوة من الشاب ودسها من تحت المنضدة قاصداً دفعها إلى أخته فتلقفتها يد ياسمينه. ويشعرون بها فتجري منهم وتنظر من النافذة، ثم تقفز إلى نافذة أخرى فإذا هي في شقة مدير المسرح الأستاذ حمودة الذي يراها ويدهش منها، ثم يعلم أنها مغنية أتت للعمل بالمسرح فيرحب بها ويتفقان على أن تحضر إلى المسرح ومعها أخواها، ثم تقبل زوجته فتفر ياسمينه من النافذة. . وتذهب إلى أخويها، ويتفقون على الاحتفاظ بالألفي جنيه في ثنية اللحاف، ثم يذهبون إلى الأستاذ حمودة بالمسرح، ويعملون بهذا المسرح الجديد، ونرى الشاب ابن الباشا يتردد على ياسمينه، وقد دب عليها مرة في منزلها. وهو يقول لها أنه يريد أن يتزوجها ولكن والده الباشا يريد أن يزوجه تلك الفتاة التي تعهد بزواجها.

ثم يحتفل الباشا بزواج ابنه ويحضر فرقة ياسمينه لتحيي الليلة، وهناك يحدث هرج ومرج، وتختلي ياسمينه بابن الباشا فتفضي إليه بحقيقة الفتاة العروس وتنقده الألفي جنيه التي كانت سرقت منه. ثم يعلن ابن الباشا أنه لن يتزوج إلا ياسمينه، فيبرز الاخوة التعهد الذي وقعه ويدفعونه إلى الباشا.

ولما تتجسم العقدة في هذا التعهد يحلها إسماعيل يس بفمه. . إذ يخطف الورقة ويبتلعها! وتكون النهاية السعيدة التي يرقص فيها الجميع ويغنون حتى يشبعوا رقصاً وغناء.

والواقع أن المقصود بحوادث القصة أن تكون خيطاً للاستعراض. . فالغناء والتهريج على المسرح الأول والثاني وفي منزل الباشا وفي الطريق وفي كل مكان. . هو المقصود وليت الخيط مع ذلك سليم أو متصل، فهو ليس واهياً فقط وإنما هو متقطع يبدو فيه مؤلف القصة مبهور الأنفاس وقد نفر منه الخيال وخاصمه السبك، فيوصل المناظر والحوادث بالقوة والعافية. . فهو يجبل الفتاة تخطئ الشقة المقصودة لتدخل شقة أخرى، والأمر إلى هنا طبيعي، ولكنه يلقي في روع أصحاب هذه الشقة أن يتركوها مفتوحة وهم غائبون. . لماذا؟ لتدخل شادية فتغني متنقلة من غرفة إلى أخرى حتى يظهر صاحب البيت ويبين. . وما دام الأمر لا يسير وفق المعقول فلا مانع أن تنقلب الفتاة إلى قطة تتسلل تحت المنضدة وتتمسح بالأرجل وتأخذ النقود وهي ثابتة الجنان لأنها واثقة من أن المؤلف والمخرج يضمنان لها الأمان ويمهدان لها سبيل القفز من النافذة! وليس بعسير بعد ذلك أن تكمل دور القطة في الشقة الأخرى. .

وليس لك أن تسأل: كيف عرف ابن الباشا منزل ياسمينه فأتى إليها به ليلاً؟ وكيف نهضت إليه دون أن يبدو عليها أي ذعر؟ ولماذا لم تفض ياسمينه إلى ابن الباشا بحقيقة من احتالوا عليه وتعطيه النقود إلا ليلة العرس وقد التقيا مراراً قبل ذلك؟ ليس لك أن تسأل عن ذلك أو غيره من كثير، لأن المؤلف يريد ذلك أو هو لا يجد غير ذلك. أما إن سألت عن الحكمة في وضع النقود في ثنية اللحاف فأنا أجيبك بأن المقصود أن يحمل شكوكو هذا اللحاف في كل منظر بعد ذلك ليبدو مضحكاً. . ولا يفوتني أن أعبر عن إعجابي بالحل الموفق الرائع الذي قام به (فم) إسماعيل ياسين الواسع. . فقد عرف المؤلف أو المخرج أو كلاهما كيف يستغل هذا الاتساع العظيم في حل المعضلة!! والحقيقة أن الأبطال الثلاثة، إسماعيل وشكوكو وشادية، كانوا ظرفاء في مواقف الفلم، وإن كانت شادية ينقصها التمرين على إجادة التمثيل، وقد استخدم غناؤها مع الموسيقى استخداماً حسناً. وفي الفلم مواقع تستثير عواطف الضحك. ونتيجة ذلك أن (الاستعراض) يؤدي غرضه في هذا الفلم. وهنا الخطر! فإن عرض هذه الألوان الفارغة من أي هدف فني صحيح وفي قالب مهلهل من القصص البعيد عن معترك الحياة، وضمان النجاح المادي مع ذلك - مما يهدد فن القصة السليم في السينما.

ولست أدري أي فرق بين الشركة التي تنتج هذا النوع من الأفلام وبين (متعهدي الحفلات) الذين يقيمون الحفلات الاستعراضية، سوى أن الأولى تطبع صوراً يتكرر عرضها، وحفلات الآخرين تنتهي بانتهاء عرضها.

عباس خضر