مجلة الرسالة/العدد 858/ركن المعتزلة
مجلة الرسالة/العدد 858/ركن المعتزلة
إرادة الله في مذهب المعتزلة
للدكتور البير نصري نادر
الفعل الإرادي عند الإنسان يشتمل على إدراك غاية يصل إليها وعلى مشاورة، حيث أن بواعث كثيرة تبدو أمام الإنسان، وعلى عزم؛ اعني اختيار باعث من ضمن هذه البواعث؛ وهذا الاختيار يضع حدا للمشاورة؛ وأخيرا على تنفيذ أو عمل - لكن الله الكلي الكمال لا يعرف المشاورة لأنا دليل على الضعف إذ أنها تشتمل التردد. كانت لذلك أرادته تعالى تختلف كل الاختلاف عن أرادتنا.
تعريف المعتزلة لإرادة الله:
إرادة الله في مذهب المعتزلة من الاعتبارات الذهنية التي يقولون بها مثل العلم والقدرة، والتي لا يوجد حقيقة لأن ماهية الله بسيطة وكاملة. وبناء على ذلك تكون الإرادة هي ذات الماهية اعني أنها قديمة لا متناهية وكاملة. لذلك يقول النظام والكعبي أن الله غير موصوف والإرادة على الحقيقة وأن ورد الشرع بذلك. فالمراد بكونه تعالى مريدا لأفعاله أن خالقها ومنشأها، وإن وصف بكون مريدا لأفعال العباد، فالمراد بذلك أنه أمر بها، وأن وصف يكون مريدا بالأزل فالمراد بذلك أنه عالم فقط - وهكذا ترد المعتزلة إرادة الله إلى علمه اعني إلى ماهيته. وإذ قال النجار (يعني كونه تعالى مريدا أنه غير مغلوب ولا مستكره) فإنه يكرر قول النظام على شكل أخر، لأن لا يوجد في الله ولا خارجا عنه تعالى أي مؤثر يرغمه على العمل، إذ أن علمه تعالى هو أيضاً قدرته وأرادته - ويوضح الجاحظ خصائص الفعل الإرادي بقوله: مهما أنتقى السهو على الفاعل وكان عالما بما يفعله فهو مريد، وإذا مالت نفسه إلى فعل الغير سمي ذلك ميلان إرادة ولكن في الله لا يوجد مثل هذه الميلان، لأن علمه لا متناهي وكامل، فلا يمكننا إذن التكلم عن إرادة الإلهية مثل أرادتنا - أن الله مريد بالمعنى الذي يعطيه الجاحظ لهذا اللفظ أي أنه يحقق علمه - وأيد الكعبي على كل ذلك بقوله إنما دل على الاختصاص على الإرادة في الشاهد لأن الفاعل لا يحيط علما بكل الوجوه في الفعل ولا بالغيب عنه ولا بالوقت والمقدار، فاحتاج إلى قصد وعزم وإلى تخصيص وقت دون وقت، ومقدار دون مقدار. والباري تعالى عالم بالغيب مطلع على سرائره وأحكامه فكان علمه بها على المقدرة عليها كافيا عن الإرادة والقصد إلى التخصيص، وأنه لما علم أنه كل حادث يوقت وشكل وقدرة فلا يكون إلا ما علم، فأي حاجة له إلى القصد والإرادة؟ وننتهي من هذا كله إلى أن إرادة الله هي علمه اعني ذاته.
إرادة الله وخلق العالم:
تقول المعتزلة إن خلق العالم متعلق بإرادة الله، وهذه الإرادة هي من صفات الأعمال. لكن بعض معتزلة فرع البصرة مثل بشر ابن المعتمر ومعمر كانوا يقولون أن هذه الصفة حادثة لأن موضوعها - وهو العالم المخلوق - حادث. بينما البعض الأخر كان يقول أن هذه الصفة أزلية.
حيث أنها تتعلق بماهية الله وهي أزلية - ولكن جميع المعتزلة متفقون على أن هذه الإرادة - أزلية كانت أم حادثة - سابقة على خلق العالم. فعليه يكون العالم أما أزليا وأما حادثا -
لنتعقب أقوال المعتزلة في هذا الموضوع الدقيق. يقول أبو الهذيل إن خلق الشيء الذي هو تكوينه بعد أن لم يكن هو غيره وهو أرادته تعالى له وقوله: كن - والخلق مع المخلوق في حاله وليس بجائز أن يخلق الله شيئا لا يريد ولا يقول له: كن. ويضيف أبو الهذيل على ذلك قائلا بأن خلق العرض وخلق الجوهر هو غيرهما. ويقول أخيرا أن الخلق الذي هو إرادة وقول لا في مكان من هذا القول يتضح أن الخلق هو بداية الوجود الذي يمنحه الله لشيء كان غير موجود. ثم أن هذا الخلق يتميز تماما مع الشيء الذي كان في حالة العدم قبل خلقه - فيكون الخلق متعلقا بإرادة الله التي تتحقق في وقت ما ويصبح هذا الوقت بداية الوجود - من الضروري أن نبين أن أبا الهذيل كان يؤكد الفرق الموجود بين إرادة الله لخلق الشيء وبين هذا الشيء المخلوق الذي هو موضوع الإرادة. إن هذه الإرادة في زعمه (وهي منبع الخليفة) لا توجد في محل. وسبب ذلك أن الله لا يشغل محلا لأن غير مادي، فعليه لا يمكن أن تكون أرادته في مكان لأن المادة فقط تشغل حيزا. ولكن موضوع هذه الإرادة مادي وهو الخليقة. فهي تشغل مكانا معينا. ومن هنا قامت المشكلة العويصة المتعلقة بطبيعة العالم المخلوق وطبعه لله: إنهما لطبيعتان مختلفتان كل الاختلاف ومتميزتان تمام التمييز: الواحدة منهما وهي الطبيعة الإلهية تمنح الوجود فقط للأخرى التي هي الطبيعة المادية - وماهية العالم المخلوق خلاف ماهية الله.
ويقول النظام من جانبه أن الخلق متعلق بإرادة الله، والخلق هو منح الوجود اعني تكوين - وهكذا يميز النظام إرادة الله عن موضوع هذه الإرادة وهو العالم المخلوق. ولكن النظام لا يقول أن هذه الإرادة متميزة عن ماهية الله. وبناء على ذلك تكون هذه الإرادة قائمة منذ الأزل. فمسالة خلق العالم مرتبطة ارتباطا وثيقا بمسالة إرادة الله.
المعتزلة والمذهب الحلولي:
إن المعتزلة مجمعة على تمييز إرادة الله عن موضوع هذه الإرادة. وهكذا يقررون موقفهم ضد المذهب الحلولي. وإلاشعري يؤكد موقف المعتزلة هذا كلما ذكر أحد رؤسائهم مثل معمر وبشر ابن المعتمر والمر دار والجبائي. فنجد مثلا في مقالاته هذا القول: يزعم المعمر أن خلق الشيء غيره. وإن الخلق قبل المخلوق وهو الإرادة من الله للشيء - وكذلك كان يزعم المردار. وهذه كلها أقوال واضحة تنفي المعتزلة بمقتضاها كل مذهب حلولي أو كل ما يؤدي إلى الاعتقاد بوحدة الوجود.
إرادة الله والشرع:
كما أن المعتزلة تقول أن الخلق متعلق بإرادة الله كذلك يقولون أن الشرع (القانون الخلقي) متعلق بهذه الإرادة أيضا. إذا هم قالوا إن الإرادة توافق الأمر فإنهم يميزون أيضاً هذه الإرادة عن الشريعة التي تأمر بها. ويقول أبوالهذيل بهذا الصدد إن إرادة الله للأيمان هي غيره وغير الأمر به فعليه إذا قلنا الله يريد شيئا وجب علينا أن نميز بين أرادته تعالى وموضوع هذه الإرادة. ولإرادة الله موضوع حتما، لذلك قالت المعتزلة إن الله يريد الشريعة. لكن هل الشريعة تكتسب قيمتها الخلقية من إرادة الله أم هذه القيمة موجودة ضمنا في الشريعة نفسها؟ نكتفي هنا بقولنا إن المعتزلة كانت تزعم أن الخير خير في ذاته وأن الشر شر في ذاته وليس بموجب إرادة الله. والله يريد الخير ويأمر به لأنه خير في ذاته، وينهي عن الشر لأنه شر في ذاته. فالله لا يختار جزافا أمورا ويقول عنها أنها خير أو شر، لا بل هذه الإرادة الكلية الكمال تميل طبعا نحو الخير وتنفر طبعا من الشر.
وهكذا يكون خلق العالم متعلقا بإرادة الله، والشريعة أيضاً متعلقة بهذه الإرادة. ولكن هذه الإرادة وأن مالت طبعا نحو الخير لا تختار جزافا ما هو خير وتأمر به، بل أنها تأمر بما هو خير في ذاته.
إرادة الله وهوية الإنسان:
يريد الله الخير لذاته ويأمر به ولا يمكنه أن ينتج الشر، بل إن الله ترك الإنسان حرا أن يخضع أو لا يخضع لأرادته تعالى وعي إرادة الخير. فالشر يأتي إذن من كائن حر الإرادة يمكنه أن يختار الخير أو الشر بينما الله تعالى الكلي الكمال لا يمكنه أن يريد أو يختار واهو نقص وعدم كما مطلق لأن أرادته هي علمه وعلمه هو ذاته وذاته كاملة. هكذا تميز المعتزلة إرادة الله عن إرادة الإنسان.
فرد جميع صفات الله إلى ذاته تعالى جعل المعتزلة تنظر إلى العلم والقدرة والإرادة نظرة تختلف كل الاختلاف عن هذه الصفات في الإنسان. وهذا أمر طبيعي ومنطقي يتفق تماما وتعريفهم لله تعالى إذ يقولون أنه كمال لا متناهي وكل صفة فيه مجرد زعم ومجرد اعتبار ذهني ليس إلا.
البير نصري يادر
دكتور في الآداب والفلسفة