مجلة الرسالة/العدد 858/الشعر المصري في مائة عام
مجلة الرسالة/العدد 858/الشعر المصري في مائة عام
الحالة السياسية والاجتماعية والفكرية
للأستاذ محمد سيد كيلاني
- 2 -
1850 - 1882
وقد طغى نفوذ الأجانب في عصر إسماعيل طغيانا كبيرا، واشتدت شوكتهم إلى حد لم يسبق له مثيل في تاريخ البلاد. وقد ألم هذا المصريين وأحزنهم. لقد أضحى الأجانب متمتمين بكل شيء، والمصريون محرومون من كل شيء. فلا عجب أن شعر المصري بأنه غريب في بلده، ذليل في وطنه. قال السيد علي أبو النصر. . .
أكرمتم الغرباء النازلين بكم ... لكن فلاحكم ضاقت مزارعه
وللسيد صالح مجدي قصيدة مؤثرة صور فيها طغيان نفوذ الأجانب على المصريين. ومما جاء فيها قوله:
ومن عجب في السلم أني بموطني ... أكون أسيرا في وثاق الأجانب
وأن زعيم القوم يحسب أنني ... إذا أمكنتني فرصة لم أحارب
وآني أغضى عن مساو عديدة ... له بعضها بخلع المناكب
واضرب صفحا عن مخاز أقلها ... لدى العد لا تحصى بدفتر كاتب
أأتركها من غير نشر فينطوي ... بأوطاننا فيها لواء المحارب
وهل يجعل الأعمى رئيسا وناظرا ... على كل حربي له لنا في المكاتب
ومن أرضه يأتي بكل ملوث ... جهول بتلقين دروس لطالب
فيمكث في مهد المعارف برهة ... من الدهر مغمورا ببحر المواهب
ويغتم الأموال لا لمنافع ... تعود على أبنائنا والأقارب
ولا ينثني عن مصر في أي حالة ... إلى أهله إلا بملء الحقائب
وهي قصيدة رائعة حقا صور فيها الشاعر أحوال هؤلاء الأوربيين الذين كانوا يفدون إلى مصر في حالة بؤس وجوع ثم يغتنمون في مدة وجيزة مع انهم مجردون من العلم والذ والضمير. وإنما همهم النهب والسلب والحصول على المال بكل وسيلة.
وكان الخديوي إسماعيل عظيم العناية بإقامة الحفلات المدرسية التي تختم بها الامتحانات العامة في المدارس على اختلاف درجاتها وكان يحضر هذه الحفلات كبار رجال الدولة وتوزع فيها الجوائز على المتقدمين من الناجحين، ويلقي فيها الأساتذة ونوابغ الطلبة الخطب والقصائد. وكانت الوقائع المصرية وهي الصحيفة الرسمية للحكومة تهتم بنشر أنباء هذه الحفلات وما يلقى فيها من نثر ونظم فكان هذا من أكبر العوامل التي ساعدت على رواج سوق الشعر في ذلك العصر. واقبل الشعراء على نظم الأناشيد التي ينشدها الطلبة في هذه الاحتفالات. ومثال ذلك قول عبد الله فكري:
العلم تشريف وشان ... لأهله في كل آن
والفخر يوم الامتحان ... يبقى على طول الزمن
العلم أسنى ما يرام ... ويبتغي منه المرام
ويقتفي نهج الكرام ... فيه على أسنى
وظهرت في عصر إسماعيل حركة أحياء الكتب القديمة، ومال الناس إلى قراءة دواوين فحول الشعراء الذين نشئوا في أزهى عصور الأدب. وقد أثر هذا في الشعر تأثيرا بينا. فطفق بعض الشعراء يقلد المتنبي والبحتري والمعري وأبا تمام وأبا نؤاس وغيرهم من الأعلام. فلا عجب إن أخذت أساليب الشعر تميل نحو الارتقاء وتنفض عن كاهلها ما أصابها من الركة والضعف طوال العصر التركي
وقد أقام الخديوي إسماعيل بمناسبة زواج أبنائه حفلات رائعة لم ير المصريون لها مثيلا. وكانت أفراح الأنجال هذه موضوعا للشعراء فنظموا في ذلك القصائد والمقطوعات ووصفوا ما أقيم من الملاهي والملاعب وحفلات الرقص والغناء. قال رفاعة رافع الطهطاوي:
كواكب أفراح العزيز بأفقها ... كصبح يقين قد جلا ظلمة الشك
ورنات أنغام المعازف أطربت ... كأن قيام الجن تبعث بالجنك
وملعب (بال) بالحسان منعم ... عيون غوانيه تغازل بالفتك
رياضة رقص في كمال منزه ... عن الريب موزون على التم والتك وكم من فتاة فيه سكري بلا طلى ... يراقصها السنيور لطفا مع السبك
وفيه صفي البال بالرقص مغرم ... يقول لذات الخال لابد لي منك
تميس كغصن البان عطفا وتنثني ... تفتر عن برق تألق بالضحك
ولولا الحيا والدين والعلم والتقى ... لقال حليف الزهد قد طاب لي هتكي
ومجلس انس قد تعطر روضه ... وأرجاؤه فاحت بها نفحة المسك
وفي الجو تقليد النجوم منيرة ... صواريخ أنواء الشهب تحكي
تلون كالحرباء بل ربما حكت ... يواقيت قد مرت على حجر الحك
وحلبة سبق الجياد يزينها ... (رماح أعدت للطعان بلا شك)
بتنظيم أوربا تسامى ابتهاجه ... وما فاته في الحسن طنطنة الترك
وهكذا صور الشعراء تلك الأفراح وما اعد فيها من ضروب اللهو وأنواع التسلية وألوان البهجة والسرور.
ومال الناس في عصر إسماعيل إلى التنزه في الحدائق والبساتين فكانوا يخرجون إلى شواطئ النيل ويقضون أوقات الأصيل بين الروضة والجزيرة والجيزة. وساعد على ذلك إنشاء جسر قصر النيل والجسر المواجه الذي يطلق عليه الآن كوبري (الجلاء). وقد تغنى الشعراء بهذه الأماكن ولا سيما محمود سامي البارودي الذي اكثر من ذكر (روضة القياس) و (ارض الجزيرة). . .
وظهرت في ذلك العصر حياة اللهو والمرح واقبل الناس على المسارح والملاهي وصالات الرقص ومحال الغناء. وارتقى الذوق الموسيقي وتقدم فن الغناء وعظمة مكانة المغنين. وقد اقبل بعض الشعراء على نظم الأدوار الغنائية والمقطوعات التي تلقى في حفلات التمثيل. وكثرت الأزجال والمواويل والموشحات وذلك لقربها من إفهام الناس. وظهر شعر عليه مسحة من الخلاعة والمجون. ومثال ذلك قول عبد الله فكري:
وهيفاء من آل الفرنج حجابها ... على طالبي معروفها في الهوى سهل
تعلقتها لا في هواها مراقب ... يخاف ولا فيها على عاشق بخل
إذا أبصرت من ضرب باريز قطعة ... من الأصفر الإبريز زلت بها النعل
هنالك لا هجر يخاف ولا جفا ... لديها ولا خلف لوعد ولا مطل آتيت كما شاء التصابي رحابها ... وما كان لي عهد بأمثالها قبل
فلما تعارضنا الحديث تعرضت ... لوصل ومن أمثالها يطلب الوصل
فرحت بها في حيث لا عين عائن ... ترانا ولا بعل هناك ولا أهل
وبت ولي سكران من خمر لحظها ... وراح ثناياها ومن خدها نقل
وقمت ولم اعلم بما تحت ذيلها ... وإن كان شيطاني له بيننا دخل
وقد استخدمت في عصر إسماعيل السنة الميلادية بدلا من السنة الهجرية. والظاهر أن الناس قد تعذر عليهم حفظ شهور هذه السنة فاخذ بعض الشعراء ينضمون هذه الشهور شعر حتى يسهل على الناس حفظها. . ومن ذلك عبد الله فكرى. الإفرنج خذوا ترتيبها قد جاء في النظم على ماموليه يناير وفبراير ومارث أبريل مايه يونيه ويوليه أغسطس سبتمبر فادعوا ليه ولم يكتفي بهذا بل نضمها في موالهم لأنه كما قال انسب لكونها أعجميه لا يحسن انسجامها في الشعر العربي. وقد وضع مواليا يبين فيها أيام كل الشهور قال:
فبراير النص فيه يومين وتارة يوم ... وشهور سبعه تزيد يوم نملى يوم
يزيد يناير ومارث ومايه ما فيه لوم ... يوليه وأغسطس وأكتوبر وديسمبر
وبقية الشهر ثلاثين في حساب القوم
ولما ازدادت الأحوال المالية سوءا في أواخر عصر إسماعيل وشدت المسالم سئم الناس حكم الخديوي وتمنوا زواله. فلما خلع فرحوا ابتهجوا. وقد عبره الشعراء عن إحساس مواطنيهم في الشعر الكثير فمن ذلك قول عبد الله فكرى من قصيده بعثه بها إلى الشيخ على الليثى.
واقرأ على الشيخ الجليل تحيه ... مقرونة بالشوق والتبجيل
وقل البشارة، مصر ولى أمرها ... توفقها من بعد إسماعيل
جاء القناصل باتفاق مبرم ... فدعوهما لتنازل وقبول
فارتاب إسماعيل واضطربت به ... أحواله ولخطب أي مهول
وأقام يبرم أمره وبحله ... متعللا بالقال بعد القيل
حتى آتى أمر الخلافة معلنا ... مضمونه بالمنع والتنويل
فقضى الخديوي بالحكومة لابنه ... ومضى يهيئ نفسه للرحل ويلاحظ أن الروح العسكري الذي ظهر في عهد سعيد قد اختفى اختفاء تاما في عصر إسماعيل ليسما بعد هزيمة الجيش المصري في الحبشة هزيمة ساحقه، وبعده أخلاق المدارس الحربية التي فتحت في أوائل عصره، وبعد تغلغل النفوذ الأوربي في المصالح ودواوين وزوال هبة الحاكم المصري. لذلك لم يتغن الشعراء بالجيوش المصرية ولا بمعداتها وأسلحتها، ولا بقدامها وبسالتها، كما فعلوا في عهد سعيد، بل خرست ألسنتهم وامسكوا عن الخوض في هذا الموضوع.
أنتهي عصر إسماعيل وجاء عصر توفيق (1879 - 1892م) فوجدوه أمامه مهمة شاقه فكان الشعب بأن المظالم والكوارث التي حلت به أيان حكم الخديوي السابق، ويرزح تحت أعباء الضرائب الباهظة التي أثقلت كاهله، فلا عجب إذا تطلع الناس إلى حكم جديد ينشر العدل ويقضى على الظلم.
وقد عبر الشعراء عن ذلك فيما تضموا مدائح في الخديوي الجديد.
قال السيد علي أبو النصر يخاطب توفيقا.
نرجوه إنجاز إصلاح الشؤون عسى ... يصفو به الملك دانيه وشاسعة
فأن آمالنا أمته. جازمة ... بأنها لا ترى شهما يضارعها
فكن مجيبا أبي العباس دعوتها ... فباب عطفك باقي البشر قارعه
ووال فضلك يا خير الولاة لمن ... والى لأمرك يشقى من يراجعه
واستنتج الرأي إصلاحا فقد حجبت ... شمس الهدى بسحاب فاض هامعه
وطهر الملك من علت ومنهم ... تقوده للقضا جهلا مطامعه
إلى أن قال:
فان رعيت وراعيت الحقوق فما ... أولاك بالمدح يتلوا الحمد بارعة
وقال السيد صالح مجدي من قصيدة يخاطب بها الخديوي توفيق
وتعمل في رد المظالم فكرة ... بنور الهدى طول المدى تتوقد
وتطوى بلا ريب سجل المطامع ... لها كان قبل الآن غيرك يفرد
وتصرف في نشر القناعة ما به ... بحار الملاهي والشراهة تنفد
وتنسج أحكاما قضت بابتداعها ... أمور نهى عنها النبي محمد فنرى من هذا الشعر أن الآمة كانت تريد القضاء على المظالم وتطلب صلاحا شاملا للأداة الحكومية. وهذه الرغبات التي رددتها الشعراء تعتبر مقدمة للحركة العربية التي ظهرت فيما بعد.
بدأت الحركة العربية في فبراير 1881م وبلغت اوجها في سبتمبر من هذا العام. وكان الليثي هو الشاعر الوحيد الذي انبرى للدفاع عن العرابيين في حادثة قصر النيل المشهورة. فقال من قصيدة.
لما رأى جنده من شبهة عرضة ... قد عارضوا واتقوا بالجزم واحتزموا
يوم العروبة إذ شوال منتصف ... راموا انتصافا وكاد السلم ينحسم
أجاب سؤلهم وهو الجدير به ... فقابلوا بحسن الحمد واحترموه
ومنها:
وهب لجندك ما قد كان وارعهم ... بين أروع سيما طبعه الكرم
هب أنهم اخطأ لم يستخف بهم ... خوف به ثورة الأحشاء تضطرم
فكان ما كان من أمر مغبته ... والحمد لله لم يلمم بها ألم
أما لدي يحرك العذب الخضم لهم ... ما يثلج الصدر يطربه صدورهم
ألست أول ذي حلم محامده ... سارت مسير الصبى والناس قد علموا
رفقا وعطفا بالصفح الجميل اعد ... عادات بر لهم في عودها عشم
فهم لملكك أنصار وهم عدد ... عند الوغى ومثار النقع مرتكم
وهم سيوفك في يوم يضربه ... قلب الجبان وموج الحرب يرتطم
وهم دروع رعاياك الذين لهم ... في وصف معناك ما تعنوا له الأمم
حاشاك مولى أن تصغي لذي غرض ... لديه سيان من يحيا وينعدم
وكان من مطالب العرابيين إنشاء مجلس نيابي. وقد أجيب هذا الطلب وافتتح الخديوي توفيق مجلس النواب الجديد في 26 ديسمبر عام 1881م وكان يوما مشهودا، وصدر دستور 1882م فقوبل بالابتهاج العام وأقيمت حفلات كثيرة لهذه المناسبة وألقيت فيها الخطب والقصائد. ومدح البارودي الخديوي توفيق بقصيدة جاء فيها:
سن المشورة وهي أكرم خطة ... يجرى عليها كل راع مرشد هي عصمة الدين التي أوحى بها ... رب العباد إلى النبي محمد
فمن أستعان بها تأيد ملكه ... ومن استهان بأمرها لم يرشد
ولكن الحركة العرابية ما لبثت أن انحرفت عن الطريق المستقيم وساعد على ذلك دسائس الدول الأوربية ولضهد العرابيون كل من خالفهم. وازدادت الحالة سوءا يوما بعد يوم، وأنتشر الرعب وعم الفزع واختل الأمن واصبح الناس عرضة للسلب والنهب والقتل. وانزوى الأتراك والجراكسة بعيدا عن الأنظار وأوضحوا في وجل جديد وخوف عظيم. وقد صور لنا هذه الحالة اصدق تصوير حسن حسني الطويراني تركي الأصل المصري المولد والنشأة، فقال:
فكم ليال أجنتنا غياهبها ... والحزم أعينه في غمض ترفيق
وكم صباح ترى حر الهجير به ... وما لنا من ضياء بعض تأليق
نمسي حيارى وتمسى الأرض واجفة ... ونصبح والصبح في رجف وتخفيق
يعالج الحر ذوق المر يجرعه ... عبئ ورشفا إلي أن مل من ريق
يمشي العزيز ذليل في مناكبها ... والهام خافضة في رفعة السوق
أيام ما يعرف الإنسان يفكر ... من الدنى بين مكروه ومعشوق
حيث اكفهر ظلام الظلم تتبعه ... حسب المعنى بين تفتيق وترنيق
حيث الوجود تشهى أهل عدما ... وود لو كان فيه غير مخلوق
يا بأسها فئة بالغي طاغية ... بطيئها بضلال غير مسبوق
أذاقت الأرض بؤسا والسماء أسى ... وكدرت صفو ذي قيد ومطلوق
وعممت ويلها والأوطان إذ فجرت ... وخصصت أهلها للجور والضيق
لم تبقى عينا بلا سهد ولا تركت ... قلبا بسهم جفاها غير مرشوق
تجمهرت وجرت في غيها وبغت ... ودمرت بين تفريق وتحريق
جارت بما ارتكبت جالت لما ركبت ... تاهت بما أنتهبت أغرت بتلفيق
لم يحفظ حرما لم يرحموا أمما ... لم يشكروا نعما شكران مرزوق
فجردوا السيف قهرا أي منصلت ... وفوقوا الغدر سهما أي تفويق
جابوا البلاد كما خانوا العباد وهمم ... يستطلعوا طريقا غير مطروق فكل باب ذمار غير مفتتح ... وكل باب دمار غير مغلوق
كم حرموا من مباح القول واحتجزوا ... كم حللوا من دم بالظلم مهروق
ولا ريب في أن الطويراني لم يعبر عن شعور الأمة ولم ينطلق بلسانها. فالمصريون من غير شك كانوا في جانب عرابي. أما الأتراك والجراكسة فكانوا من أعداء العرابيين. وقد عملوا ما استطاعوا على هزيمة الجيش المصري وتمهيد البلاد للاحتلال البريطاني. وهم في هذا مدفوعون بمصالح أنفسهم حريصون على جاههم وسلطانهم الذي يتعرض للضياع والزوال إذا انتصر العرابيون. فلا عجب أن اظهروا الفرح والسرور حينما انهزم المصريون أمام الجيوش البريطانية، وراحوا يلقبون عرابي وأصحابه بالفئة الباغية، والفرقة العاصية، والبغاة الجهال، والأشقياء الملحدين، والأغبياء المتمردين، وغير ذلك مما جادت به قرائحهم السقيمة
وانتهى الأمر بضرب مدينة الإسكندرية ضربا مروعا فحل بها الخراب والدمار، واشتعلت الحرائق وانتشر السلب والنهب وفي ضرب الإسكندرية يقول عبد الله فكري:
بوارج أمثال البروج تقاذفت ... بحمد كأمثال الصواعق رجم
بواخر ترمي بالشاهقات بمثلها ... سرابا كأسراب الحمام المحوم
دوارع يلقين المخاوف آمنا ... بها سربها من كل حول ومرغم
يطارحن أسراب المدافع والوغى ... بكل رجيح وزنه غير اخرم
وسالت شعاب الأرض بالجند زاحفا ... بكل سبوح من كميت وادهم
يموج به الماذي في كل مأزق ... كما زخرفت أمواج يم ميمم
وغشى ضياء الشمس اسود حالك ... من النقع معقود بافم أسحم
تغيم منه الأفق والصحو سافر ... لثاما ووجه الجو غير مغيم
وأرعدت الأرض في السماء وأبرقت ... بصيب ودق للمنية بنهمي
وجاوب أصداء البنادق مثلها ... نداء فما يبقين غير مكلم
ونازع فيه ابن الكروب ند يده ... رسائل ليست للتودد تنتمي
ولما انهزم العرابيون واقبل الخديوي إلى مدينة القاهرة اخذ الشعراء ينظمون القصائد في مدح توفيق والتعريض بالعرابين، وكان من هؤلاء الشعراء من انضم إلى الحركة العربية وناصرها. فلما منيت هذه الحركة بالفشل والهزيمة، شرعوا ينظمون القصائد الطوال في التبرؤ منها والاعتذار عما فرط منهم، أو نفي بتهمة الاشتراك مع العرابيين. وممن فعلوا ذلك عبد الله فكري والليثي الذي عفا عنه الخديوي وقربه أليه. وكان من الشعراء من هو من اصل غير مصري. وقد وقف هؤلاء من بدء الحركة في جانب الخديوي، فشرعوا بعد هزيمة عرابي ينظمون القصائد في هجوه وسلبه والتشهير به والطعن فيه. وكان الطوبراني الذي سبقت الإشارة إليه اكثر هؤلاء الشعراء هجاء لعرابي وأصحابه. وقصائده التي نضمها في هذا الموضوع من امتن شعره وأجوده واصدقه من حيث التعبير عن شعور البعض والكره للعرابين للحركة العرابيه. ولم يتورع بعض هؤلاء الشعراء من الكذب والافتراء على الناس وعلى التاريخ. انظر إلى مصطفى صبحي باشا حين يقول من قصيده طويلة دعاها (صدق المقال في المثالب البغاة الجهال)
ولما أتى أسطول مصر مسالما ... أثرتم بريح البغي نار التعند
ومناكم بالمستحيل خطيبكم ... رأدمج غشا في حماس مقلد
وأوهم زورا إن فيكم بسالة ... فحاولتم بالجهل خطة اصد
وهيأنم بعض الطوابي تنمرا ... وهددهم سيمور كل التهدد
فسببتم إحراقها وخرابها ... وكانت حصانا بالبناء المشيد
فهو يقول إن الأسطول البريطاني جاء مسالما وأن عرابي هو الذي هدد. وهذه الدعوة باطلة فندها بعض مؤرخي الإنجليز أنفسهم. ولكن هذا الرجل لم يتروع عن اتهام العرابيين بما برأهم منه أعداؤهم من البريطانيين.
قلنا أن روح العسكري المصري الذي ظهر في عهد سعيد قد اختفى اختفاء تام في عصر إسماعيل. ثم جاء الاحتلال البريطاني وسرح الجيش المصري ثم كون جيش جديد صغير تحت أشراف البريطانيين. لذلك لم يكن من المعقول أن يمدح الشعراء توفيقا بالشجاعة والأقدام، والجرأة، والبسالة، وغير ذلك من ألقاب البطولة التي مدحوا بها سعيدا. فاخذوا يبحثون عن صفات أخرى تصلح لهذا الخديوي. وكان توفيق أول حاكم في العصر الحديث يكثر من غشيان الأضرحة والمساجد. فأنتفع الشعراء بهذا المظهر الديني واخذوا يمدحونه بالتقوى والورع: ثم خلعوا عليه الصفات التي اعتادوا خلعها على كل من يمدحونه كالجود والحلم والذكاء والعدل. وقد اكثروا من مدحه بالحلم وذلك لعفوه عن كثير ممن اشتركوا في الحركة العرابية. ومدحوه بجودة الرأي وسدادة التفكير. ومثال ذلك قول الساعاتي:
مليك بحسن الرأي دبر ملكه ... وقد يبلغ المأمون شهم التدبر
أذل له التدبير عزة من طغى ... وحاول أن يسموا العلا فتحدرا
فالتدبير هو الذي أذل عز الطغاة ولم يكن السيف والمدفع.
وقال:
ملك الوجود بجودة الرأي الذي ... قد كاد أن يحيى بها الاسكندر
بمثل هذا المدح توفيق. ولن تجد في هذه المدائح على كثرتها وإشارة إلى قوة الحربية أو ذكرا للجيش أو السلاح.
(يتبع)
محمد سيد كيلاني